أميلي ديكنسون
العتبات والدلالة
جاسم عاصي
الشاعرة الأميركية أميلي ديكنسون مولودة في العام 1830 في ولاية «ماستشيوستس» دخلت بين العامين 1840 ــ 1847 أكاديمية «أمهرست» وظلت تعيش في هذه المدينة حتى وفاتها في العام 1850. «مختارات شعرية ترجمة نصير فليح ــ الدار العربية للناشرون»، ولعل شعرها تميز بروح التأمل وتجاوز الرفعة والتعالي على القارئ. فشعرها معني بطرح رؤى وأسئلة الموت والفناء، وهي إنما تعالج مثل هذه البنى الفلسفية ببساطة الطرح، وعمق المعنى والدلالة، فعبارتها الشعرية منغمسة بالرؤى المجسدة لرؤاها الفلسفية، ونظرتها للكون تمليها نشأتها الأسرية والاجتماعية. فهي بعيدة كل البعد عن تهويل مضامين القصيدة، ومعانيها، فالتلقائية التي يتحلى بها شعرها، جعلتها في مصاف الشعراء الذين لهم خاصيتهم
الذاتية.
وأول ما يميز قصائدها هي العناوين، التي استشرفت من خلالها أولى عتبات السؤال والرؤى الفلسفية، إذ إننا نجد في العناوين إشارات إلى المحتوى، ولكن بروح الشعر وليس غيره.
فقد تميزت العتبات بالبناء الأكثر دلالة لتوجهاتها الكونية وانعكاسات رؤاها المرتبطة بفضاء الأسئلة الوجودية، وتأملات ما يدور من حراك يرتبط بالمنطق والرؤى الفلسفية، لذا نجد ثمة علاقة بين هذه البوصلة ومتن النص. أو انه إشارة تثير التوجس للقادم من
التعبير.
فعنوان مثل (أعرف أنه موجود) يوحي بالمعرفة والتواري، وتبقى الأسئلة الشكية فاعلة مجسدة في (إنها فخ، للعب، جدية الطعن، المرح، يتجمد، الموت) بمعنى تتطور العلاقة بين الاثنين، فإذا كان العنوان هنا مفتاحا لباب القصيدة، فإن السياق فضاء للأسئلة. وعنوان (الليالي الهوج) إشارة إلى (الامتناع، الحذر) والمحتوى يمتلك صبوة التملك خارج إطار (الهوج) وهو تعبير مجازي عن حالات إنسانية كبيرة. وفي (مخلوق ضيق في الحشائش) يسفر هذا العنوان عن رؤى شكية، تتضح في (الخاطفة ، نرقط، السبخة، بضفيرة، سوط) حيث يسفر الكائن عن نفسه وهي الأفعى. وهذا المجاز التعبيري، يعني دلالة الوجود ضمن العلاقات العامة وهذا التعبير أكثر بلادة من التعبير المباشر في نقد الظواهر.
في عنوان (شعرت بجنازة في ذهني) تشكيل لبانوراما الموت. وقد وضح هذا في (النادبون، طقس، صندوقا، يقرع، سقطت، أسفل.. أسفل)، وتختمها في (أتممت المعرفة حينها) ولعل (لأني لم أستطع التوقف للموت) عنوان مكشوف على الظاهرة الكونية والفلسفية. جمعتها جملة مفردات تأكيد (العربة، الخلود بيت، كبروز) كلها إشارات للظاهرة. عموما حرصت الشاعرة على أن تؤاخي بين العتبة ومتن
النص.
قصائد الأسئلة الكونية
لا تبتعد قصائد (ديكنسون) عن محورها الفلسفي، بل تشبعت حسيا من مياه رحابه . فهي لا تدخله من باب اليأس، بقدر ما يكون دخولها من باب التداول المعرفي الفلسفي، دون تعقيد، إذ تؤكد في إحدى قصائدها ومن خلال
الاستهلال:
(شعرت بجنازة في ذهني/ والنادبون ظلوا يدوسون/ يدوسون، حتى بدا/ أن ذلك الإحساس يخترقني) وهذا الحس تجاوز نوع الإحساس بالفعل، نحو إدراك قسوة الندب، مقابل تعبير (يدوسون) وهي أكثر قسوة ووقعا على الذات. غير أنها تتناول مثل هذا الوقع الحسي بمعالجة أخرى، تذهب بالظاهرة الحسّية إلى مآل آخر:
(وعندما جلسوا جميعا / طقس جنائزي كالطبل/ ظل ينبض، ينبض، / حتى اعتقدت أن عقلي يخدر) وبهذا تجاوزت الرؤية المباشرة، إلى رؤى أكثر انفتاحاً على السؤال المضمر في ذاتها عن الظاهرة بدليل وقع (الطبل) و(يخدر). وتتواصل بهذا الحس التراجيدي الهادئ النبرة، لكي تجسد الوقع أو الفعل ورد الفعل. فهي شديدة الصلة بالصراع الذهني إزاء تأثيرات الصورة: (ثم سمعتهم يرفعون صندوقا/ ويصرون عبر روحي ـ بمعنى يصدرون صوت الصريرــ/ ثم أخذ الفضاء يقرع/ بنفس جزمات الرصاص ثانية).
ولعل مفردات مثل (صندوقا، يقرع، جزمات الرصاص) أكثر قسوة للتعبير عن صورة الموت. غير أن الشاعرة تأخذها ببساطة التعبير، وعمق الدلالة، لأنها بطبيعة الحال تحقق بالنسبة لها رؤى تتجاوز المرئي، للوصول إلى عمق الظاهرة. لأنها شاعرة مهووسة بالظواهر الكونية. ولكي تعبر بذات الوسيلة الشعرية، نجدها تحاول تجاوز مثل هذا التعبير، من أجل تعميق الدلالة في:
«وعندما اصبحت كل السماوات جرسا/ أصبحت مجرد أذن/ أنا والصمت جنس غريب/ تحطم ، منعزلا، هنا) ولعل (تحطم، منعزلاً) أكثر المفردات دلالة على الحس الفلسفي للظاهرة. وتواصل سرديتها الشعرية، لتصل إلى بلاغة أكثر عمقاً في
الإشارة:
«ثم انكسر لوح في العقل/ وسقطت إلى أسفل، أسفل/ واصطدمت بـ( عالم) بكل اندفاع / وأتممت المعرفة حينها هذا التشبث بدلالة الرؤى، سحبها إلى موطن القناعة بحراك الذهن، الذي يصفي الرؤى. ويقود من معرفة إلى أخرى أكثر رجاحة ودلالة.
إن اميلي ديكنسون شاعرة مهمومة بالظواهر التي تقود إلى جدلية فلسفية ، تطرح سمة الظاهرة، ولا تدخل في شؤونها المضمرة.