[size=10]129[/size]
تتعرض سيرورة العولمة هذه الأيام لصراع ٍ عنيف مع البقاء (باعتبارها عندي أكثر بقاء من اليمين المتطرف والشمولية والشعبوية وأكبر من الأيديولوجية) مع عدد كبير من الأعداء، ولهجوم كاسح وصريح في عدد من الأقاليم الجغرافية - ربما - لم تشهده من قبل منذ القرن الخامس عشر الذي يعتبر المرحلة الجنينية لسيرورة العولمة.
ويأتي معظم الهجوم هذه الأيام من قبل اليمين القومي المتطرف ومن الجماعات الشعبوية ومن الأنظمة الشمولية.
في الغرب كان فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إشارة على عرقلة سيرورة العولمة، ثم ما لبث الخوف من أن يتجسد واقعاً من خلال إجراءات ترامب السياسية بالتشديد على إجراءات الهجرة واللجوء، ومنع السفر وتقيده على جنسيات معينه، ثم الحمائية الاقتصادية برفع الرسوم الجمركية والضرائب على استيراد الحديد والصلب.
أما في أوروبا، فكان العنوان عرقلة سيرورة العولمة الاجتماعية والثقافية والسياسية من خلال فورة الأحزاب اليمينية والشعبوية في معظم دول أوروبا خاصة في النمسا، وإيطاليا، وألمانيا، وهولندا. وفي فرنسا قامت مارين لوبان (11 أذار 2018) في مؤتمر الحزب بمهاجمة العولمة والرأسمالية بالاسم بحجة أنها أضرت بفرنسا وقوتها. وكذلك فعل زعماء اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة في إيطاليا.
أما في الشرق، فقد صوت البرلمان الصيني (الأحد 11 أذار 2018م) على إلغاء الحد الأقصى للولايات الرئاسية ممهدا الطريق أمام بقاء شي جينبينغ رئيسا مدى الحياة للصين. وأقر البرلمان الذي يناهز عدد أعضائه ثلاثة آلاف، نائب الإجراء ضمن مجموعة تعديلات لدستور البلاد، بموافقة 2958 صوتا، ومعارضة نائبين وامتناع ثلاثة.
ولذلك يبدو العالم من خلال "ميكروفونات" أحزاب اليمين المتطرف والشعبوية متجها ً نحو التمزق والمواجهة والتفتت بدلا من الترابط والدمج والسلم الديمقراطي.
وفي ظل هذه اللحظة التاريخية التي تبدو بالنسبة إلي فرصة لمعاينة سيرورة العولمة اليومية ومتابعة السرديات المعاصرة والطازجة لها عبر وسائل الإعلام؛ أرى أنه من المفيد لقاء نظرة سريعة على نشأة سيرورة العولمة تاريخياً، لأنه من خلالها يمكن لنا تلمس اللحظات المشابهة للمخاض الطويل الذي سلكته سيرورة العولمة.
النشأة التاريخية للعولمة
لتبيان النشأة التاريخية لسيرورة العولمة أعتمد النموذج الذي صاغه عام (1992م) عالم الاجتماع البريطاني (رولاند روبرتسون) الذي يعتبر من أهم وأقدم منظري العولمة وعمل على دراستها منذ منتصف (1960م)، ومن أوائل من وضعوا تعريفاً لها، حيث حصر المراحل المختلفة المتتابعة لتطورها عبر الزمان، ويرى أن نقطة البداية كانت بظهور الدولة القومية الموحدة التي يعتبرها نقطة تاريخية فاصلة في تاريخ المجتمعات المعاصرة، وقد وصلت العولمة إلى الوضع الحالي - بالطبع هو يقصد وضعها عام (1992م) الذي يتسم بدرجة عالية من التعقيد والكثافة بعد مرورها بخمس مراحل هي([1]): 1. المرحلة الجنينية:
هي مرحلة سادت (أوروبا) منذ بداية القرن الخامس عشر، حتى منتصف القرن الثامن عشر وتميزت بسيادة نظرية العالم على حساب نمو المجتمعات القومية.
2. مرحلة النشوء:
تلت المرحلة الجنينيّة واستمرت حتى عام (1870م)، فقد شهدت تبلوراً أكبر للعلاقات الدولية وزادت الاتفاقيات الدولية، وبالرغم من أنها سادت في (أوروبا) إلا أنها واجهت مشكلة قبول المجتمعات غير (الأوروبية) في المجتمع الدولي.
3. مرحلة الانطلاق:
بدأت من عام (1870م) حتى العشرينيات من القرن الماضي، وتم فيها دمج المجتمعات غير (الأوروبية) في المجتمع الدولي، وكذلك صياغة الأفكار الخاصة بالإنسانية التي ترافقت مع حدوث تطور هائل في عدد وسرعة الأشكال الكونية للاتصال، وخلال هذه المرحلة حدثت الحرب العالمية الأولى ونشأت عصبة الأمم المتحدة.
4. الصراع من أجل الهيمنة:
استمرت هذه المرحلة من العشرينيات حتى منتصف الستينيات، ونشأت خلالها خلافات وحروب كونية برز خلالها دور الأمم المتحدة بشكل جلي.
5. مرحلة عدم اليقين:
بدأت منذ الستينيات للآن، تم خلالها إدماج العالم الثالث بالمجتمع العالمي والتطور (التكنولوجي) الكبير في المعمورة وجرب العالم الحرب الباردة، وتعقدت المفاهيم الخاصة بالأفراد لاعتبارات؛ الجنس والسلالة وزاد فيها الاهتمام بالمجتمع المدني العالمي والمواطنية العالمية.
يلاحظ مما سبق، أن مسألة فهم مصطلح العولمة بشكل شمولي يتطلب التركيز على مضمونها التاريخي، فقد قلت الأهمية النسبية للدولة القومية والتمحور الفردي عبر العصور لصالح عالمية الفكر والاقتصاد الدوليين، واللذين ترافقا بشكل كبير مع التطور التقني الذي شهده العالم وخاصة (أوروبا) و(الولايات المتحدة الأمريكية)، فيما بعد وكذلك مع تطور أنماط الاتصال والمواصلات بين أجزاء المعمورة كلها، وكان هناك جانب آخر في غاية الأهمية ترافق في تطوره مع ما سبق، وهو الجانب الإنساني، غير أن تلك المجهودات اصطدمت في معظم الأحيان بالنزاعات والحروب التي عصفت بالعالم، فكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية في القرن الماضي، ومئات النزاعات الإقليمية الأخرى، التي كان للاختلافات العرقية والعقائدية ولاعتبارات التاريخ والجغرافيا الدور الأساسي في ظهورها.
الوقوف في وجه الأعداء
ساهم في تسارع بلورة العولمة كحالة يعيشها العالم الآن تنوع مجالات الاستثمار ومن ثمَّ تنوع أنماط الإنتاج السلعي في دول العالم التي تقابل حاجات المستهلكين في دول العالم، لا سيما تلك تعاني من ضعف القاعدة الإنتاجية، وهي أسواق رائجة لتلك المنتجات مهما ابتعدت المسافات بينها وبين الدول المنتجة، كما أن بعض الدول المستهلكة تعاني من ارتفاع الكثافة السكانية وما يجعلها مصدر جذب للاستثمارات الأجنبية وبالتالي انتقال رؤوس الأموال الأجنبية إليها بهدف تحقيق الأرباح للمؤسسات متعددة الجنسيات دون النظر لاعتبارات مصلحة هذه الدولة.
ولا بد من التمييز بين مصطلحين متداخلين هما: العولمة والعالمية، فقد بدأت فكرة العالمية تتبلور انعكاساً لميثاق (الأطلنطي) الموقع بين كل من (بريطانيا) و(أمريكا) في آب من عام (1941م)، والذي نادى آنذاك بإنشاء هيئة عالمية، تلى ذلك لقاءات واجتماعات في (موسكو) و(مالطا) و(الولايات المتحدة الأمريكية)، حيث تمت الموافقة على هذا المشروع بالإجماع في حزيران من عام (1945م)، حين ظهرت العالمية بصورة هيئة دولية هي الأمم المتحدة التي كانت انعكاساً للوضع السائد آنذاك من انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية الذين فرضوا إرادتهم على الدول المهزومة، وعلى العالم بأسره، غير أن أهمية العالمية بدأت بالانحسار والتراجع ابتداءً من اندلاع الحرب الباردة حتى الآن.
إن خمس دول هي (الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا) تمتلك بمجموعها (172) شركة من أصل أكبر (200) شركة متعددة الجنسيات تسيطر على الاقتصاد العالمي([2])، وهذا يدل بوضوح على أن كبرى الشركات العالمية توجد في الدول الصناعية التي تتميز بتسارع معدلات النمو الاقتصادي، وهي تحتكر (التكنولوجيا) المتقدمة وأساليب الإنتاج ووسائله الحديثة، بمعنى أن بقية دول العالم هي في واقع الأمر بحاجة ماسة ومستمرة لهذه المؤسسات التي يتعذر وجود بدائل محلية لها في هذه الدول؛ أي أن نمط العلاقة الاقتصادية هي حاجة دول العالم المتأخرة اقتصادياً إلى الدول الصناعية وشركاتها العظمى، في حين تفرض الدول المتقدمة قيودا صارمة على هجرة قوة العمل إليها، وتقتصر ذلك على جذب الخبرات المتميزة فقط. هذا يعني أن أوروبا اليمينية المتطرفة الشعبّوية؛ تغامر الآن بخسارتها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية. أعتقد أن المصالح الاقتصادية المشتركة التي تخلقها وتفرضها سيرورة العولمة الاقتصادية، بشبكتها الممتدة عبر الاتفاقيات التجارية وبمساعدة من آليات العولمة (التكنولوجية) (ثورة الاتصالات، وشبكة الطرق والسكك الحديدية، وخطوط نقل الطاقة) وآليات العولمة الاجتماعية (الهجرة والسياحة وحركة العمالة)، سوف تدفع القوى المتنافسة إلى خلق التوافقات، وتكبح ميلها إلى الصراع، وتزيد من تقبل الجميع فكرة عالم متعدد الأقطاب الاقتصادية والاستراتيجية، ويحسّن من شروط اللعبة لدى الدول في العالم الثالث، والعالم ويحد من تغول العولمة أو يعطيها وجها إنسانيا على الأقل.
وفي الوقت الذي نراقب فيه النزعة المتطرفة المضادة للعولمة لفرنسا مارين لوبان وإيطاليا حركة الخمس نجوم المتطرفة، وللرئيس الأمريكي ترامب 2018م، أذكر بالمحاضرة المهمة "لقيصر العولمة الأمريكية" (روبرت ب. زوليك) رئيس مجموعة البنك الدولي في محاضرة - مهمة جداً - له في (14 /4 / 2010) في مركز (وودرو ويلسون) للباحثين الدوليين "لقد دأب طلاب الدراسات الأمنية والعلوم السياسية الدولية، لعقود طويلة، على خوض غمار المناقشة والجدل حول بزوغ نظام متعدد الأقطاب، لقد آن الأوان لأن نقرّ ونسلم بهذا الطرح الاقتصادي الجديد، وأنه إذا كان عام (1989م) قد شهد نهاية "العالم الثاني" بانهيار الشيوعية، فإن عام (2009م) هو الذي رأى مشهد النهاية لما كان يُعرف "بالعالم الثالث": فنحن نعيش الآن في اقتصادٍ عالمي جديد متعدد الأقطاب، وماضٍ في التطور بوتيرة سريعة؛ عالم يبزغ فيه نجم بعض البلدان النامية كقوى اقتصادية، وتمضي فيه بلدان نامية أخرى قدما لترفدَ أقطاب النمو بروافد إضافية، فيما تواجه بعض البلدان الأخرى مصاعب جمة في بلوغ قدراتها الكامنة داخل هذا النظام الجديد، حيث بات الآن الشمال والجنوب والشرق والغرب نقاطاً في البوصلة، وليست مقاصد اقتصادية، فالفقر مازال مستشرياً، ولا بد من معالجة أسباب استشرائه، كما أن الدول الفاشلة مازالت قائمة، ولا بد من معالجة أسباب فشلها وتتزايد وطأة التحديات العالمية، ولا بد من التصدي لها، لكن الطريقة التي يتعين أن نعالج بها هذه القضايا آخذة في التغير، فالتقسيمات التي عفا عليها الزمن، التي تصنف بلدان العالم إلى عالم أول وآخر ثالث، ومانح ومتلق، وقائد وتابع، لم تعد مناسبة البتة.
إن آثار ومدلولات هذه التغيرات والتحولات عميقة وجوهرية؛ على صعيد تعدد الأطراف، والعمل التعاوني العالمي، والعلاقات بين القوى، والتنمية والمؤسسات الدولية فالصفائح (التكتونية) الاقتصادية والسياسية مستمرة في التحرك، ويمكننا أن نتحرّك معها، أو بإمكاننا الاستمرار في رؤية عالمٍ جديد من منظور العالم القديم، فيجب علينا إدراك الوقائع والحقائق الجديدة، ويتعين علينا أيضاً التصرف والعمل بمقتضاها، ولا يمكن أن نعود إلى الوراء إلى تعدد الأطراف بالأسلوب القديم مستلهمين الحل من نمط المؤتمر الذي عقده (ميترنيخ) في (فيينا) في القرن التاسع عشر؛ لأنه أسلوب يسعى إلى مقاومة التغيير فالجغرافيا السياسية الجديدة للاقتصاد المتعدد الأقطاب بحاجة إلى تقاسم المسؤولية مع إدراك وجهات النظر المختلفة والظروف المتباينة في الوقت نفسه، من أجل بناء مزيد من المصالح المشتركة، إذا كانت الصفائح (التكتونية) الاقتصادية والسياسية آخذة في التغير، فيجب أن تشهد المؤسسات المتعددة الأطراف تغيّرات أيضا.
يريد العالم الجديد إيجاد مؤسسات قادرة على التواصل مع الشركاء في أجواء مفعمة بالتواضع والاحترام؛ مؤسساتٍ مستعدة للاستفادة والتعلّم من الآخرين؛ وقادرة على العمل كنقاط للربط والتواصل العالمي وأداء دور ريادي وطليعي في العالم الجديد للمعرفة والتعلم المشترك وتبادل الخبرات بين بلدان الجنوب والشمال، ولا يمكن التنبؤ بالمستقبل بكل ثقة وتأكيد ولكن في مقدورنا أن نتوقع سير الاتجاهات، وإحداها أن عصر الاقتصاد العالمي المتعدد الأقطاب أصبح على مرمى البصر"([3]). تبدو نبوءة زوليك غير متحققة الآن؛ لكن لا يمكن لنا إلاّ أن نأمل بتحققها، رغم يمينية وتطرف ترامب، وتطرف لوبان، وديكتاتورية شي جينبينغ.