يد أن العنوان بدا للبعض غريبا، إما بسبب الطبيعة "التقنية" التي توحي بها كلمة الموسطة، أو جرّاء اللبس المحتمل الذي قد تكون أثارته مسألة الربط بين الدين، كمجال للمقدس، وبين التقنية (تقنية الفضائيات)، باعتبارها من مجال آخر، "مجال المدنس". ولذلك، فـ "السر" خلف معاودة الحديث هنا عن مادة أفردت لها كتابا كاملا، إنما استدعته ضرورات التوضيح والتنبيه.
عندما نتحدث عن الموسطة الإعلامية للدين، فإننا نقصد مسألتين اثنتين؛ هما اللتان تحددان طبيعة ووظيفة هذه الموسطة:
+ المسألة الأولى، وهي أن الأداة الإعلامية (الفضائيات الدينية في هذه الحالة)، إنما تقوم بعكس تموجات الدين على أرض الواقع؛ أي تقوم بالتعبير عن مجريات "الفعل الديني" كما يتمظهر في حياة الأفراد والجماعات، في زمن ما وفي مكان ما.
+ المسألة الثانية، وتتجاوز الوظيفة الأولى، في كونها تتطلع إلى بناء أو إعادة البناء الاجتماعي للدين؛ أي أنها تعمد إلى إعادة تشكيل المجتمع بالارتكاز على البعد الدّيني.
بالحالتين معا، يبدو أن الفعل الديني قد أضحى جزءا من المعيش اليومي للإنسان المسلم، سواء بالصيغة المتخصصة التي تقدمه بها القنوات الدينية، أو ضمن ما يقدم من مضامين دينية تدفع بها الفضائيات الجامعة، ضمن تيارات المعلومات والأخبار والترفيه والموسيقى والأفلام، التي تؤثث شبكتها آناء الليل وأطراف النهار.
وقد أوضحنا أن الخطاب الديني قد بات "مادة إعلامية وفيرة لأول مرة في تاريخ الإعلام المسموع والمرئي في الوطن العربي؛ إذ البرامج الدينية في الفضائيات الجامعة والفضائيات المتخصصة، التي تطلقها المجموعات الكبرى (لا سيما بدول الخليج)، قد عملت ولا تزال تعمل جاهدة على مزج الدين بشؤون الحياة، تقدم الوعظ والإرشاد، تطلق الفتاوى، ترد على تساؤلات الجماهير، ولا تتوانى في تأجيج مشاعرهم تارة، أو طمأنة نفوسهم تارات أخرى".
هذه العملية، عملية موسطة الدين إعلاميا من لدن القنوات العمومية تحديدا، تظهر ولكأنها عملية تأطير حقيقية للأفراد والمجتمعات، في محاولة حثيثة إذا لم يكن لتغيير العقليات وأنماط التفكير، فعلى الأقل للتذكير بمركزية البعد الديني في العلاقات بين الأفراد والجماعات.
ولذلك، فإن الذي يقدم من بين ظهراني هذه الفضائيات، هو ليس فقط "خطابا إسلاميا" يراد ترويجه من خلال الفضائيات إياها بصورة رسمية، بل هو أيضا بناء إيديولوجي وسياسي، قد يتماهى في العديد من جوانبه مع الإسلام الرسمي الذي تتبناه الحكومات، وتقوم التلفزيونات العمومية على إعادة إخراجه إعلاميا، ثم بثه وترويجه على نطاق واسع.
بيد أن (وهنا المفارقة) "التنقل الحر للمعلومات من خلال الأقمار الصناعية، قد فتح فضاء بدون حدود للرسالة الدينية، لتصبح عالمية وبديلة عن الرسائل التي تم تطويرها من لدن مؤسسات إسلام رسمي بات فاقدا للمشروعية بحكم الأمر الواقع".
إن نجاعة "رجل الدين" بالشاشة الصغيرة تجعله "يتموقع في فضاء ما فوق ترابي، يتجاوز كل الحدود. إنه يتجاوز على التشريعات الوطنية، ويتجاهل التمثيل الوطني من خلال إزاحة الشرعية عنه، تماما كما لا يعير اعتبارا يذكر للدول القائمة، والتي تتبنى قوانين علمانية. إن دستوره هو الشريعة وفضاؤه هو فضاء الأمة". إنه يتحول بتحصيل حاصل، إلى "مصدر للقيم المتأتاة من القرآن والسنة، وأيضا من تفسيرات وتأويلات الاجتهاد الإسلامي. إنه يمتلك الحقيقة، يقرر دون مناقشة فيما يجوز وفيما لا يجوز، فيما هو حلال وما هو حرام. إنه يحدد مجال الانتماء للأمة، وكل من يخالف ما يقرره العلماء، فسيكون ضحية التكفير".
ولذلك، فإنه من الجائز القول بأن الموسطة الإعلامية للدين، التي كانت ولزمن طويل، حبيسة فضاء ضيق ومغلق (بالمسجد أو بالحلقيات الدينية، أو بدروس الوعظ والإرشاد المقتنية للكتاب أو للأسطوانة)، هذه الموسطة قد حملت في جوفها كل أشكال التطورات التكنولوجية التي طالت مجال الإنتاج والبث الإعلاميين، فتجاوزت بذلك على ضيق المجال وانغلاق أفق الانتشار.
إنها حركية نقلت المعالجة الإعلامية للدين من خطاب ديني في وعن الإسلام، إلى خطاب إسلامي، يتجاوز الأداء التقليدي في مضمونه، في طرق تقديمه، وفي التقنيات المعتمدة في إنتاجه وإخراجه وتوزيعه وتقديمه.
يؤرخ للجانب الأول عموما، بفترة ما قبل الثورة الرقمية وثورة الأقمار الصناعية، حينما كانت القنوات الحكومية المحلية تبرمج مادة أو مادتين دينيتين خاصتين بالعبادات؛ أي خاصتين بتوجيه المسلمين في ممارسة عبادتهم وطقوسهم الدينية ليس إلا. الخطاب هنا عمودي وأبوي، وجهة بث الرسالة واحدة، حتى بتباين طبيعة وحجم الجمهور.
أما الجانب الثاني، فيؤرخ له عموما بفترة الثورة الرقمية، وما استتبعها من تقنيات ومستجدات، استفاد الخطاب الديني بفضلها من سعة ساعات البث، ومن حجم الجمهور المتلقي لذات الخطاب.