هل هناك إعلام حديث في الوطن العربيّ لا يخدم الأصولية ؟ يبدو السؤال
غريبا بل ساذجا للكثيرين إذ كيف يُطرح سؤال كهذا والعربي ينعم اليوم بمئات
الفضائيات والجرائد والمجلات التي لا يملّ المتأسلمون العلنيون من اتهامها
بكلّ الموبقات!
ولكن هل تقدّم كل هذه "الأشياء" مادة إعلامية بمواصفات عالمية أم تقدم
سلعة مزيفة ورديئة كباقي السلع المتداولة في المنطقة، سلعة كغيرها مغلفة
بغلاف الدين؟ ما أجمل رؤية من أطلق عليهم نعت "صحافيين و صحافيات" وهم
يُصلّون على النبي ويحمدلون و يبسملون و يشكرون الله بدل الغرب على ما أنعم
عليهم من ميكروفونات و شاشات مسطحة و أقمار صناعية ينشرون عبرها البداوة
وعقلية القرون الوسطى وفلسفة الدعاء!
إنّ توفر الأموال (المنهوبة)لاقتناء آخر الوسائل التقنية الحديثة والقدرة
على توظيف الكفاءات العربية و الأجنبية اللاهثة وراء لقمة العيش لا ينتج
إعلاما حقيقيا بل تضليليا في غالب الأحيان، فلا الجو الثقافي-السياسي
المحكوم بالدين أساسا مشجع ولا العاملون في الإعلام يستطيعون الدفاع عن
الحرية والمواطنة وذلك لاعتبارات كثيرة: مصلحية، قُطرية، امتثالات دينية
وحتى طائفية..
هل هو إعلامي مثلا ذاك الببغاء الذي يردّد كلّ بداية شهر رمضان أنّ هذا
الشهر شهر الخير و اليمن والبركات وهو يعلم إلّا إذا كان أعمى أنّ هذا
الشهر المسمّى فضيلا هو كارثة اقتصادية، وكان وسيكون له تأثير سيّء على
مسار التنمية برمّتها؟ وهل هو صحفي من يسخّر قلمه أو ميكروفونه لانتقاد
خمول مواطنيه في رمضان كأن لا أثر للصيام على سلوكياتهم ؟ على سبيل المثال
تكتب جريدة جزائريّة في أوّل يوم من رمضان هذا العام على صفحتها الأولى
وبالبنط الأسود العريض "البطاطا للجميع واللحم على من استطاع"، ولكن في نفس
العدد تصف رمضان بالشهر الفضيل وشهر الرحمة الخ! أما يومية منافسة لها
فتتحدث بشجاعة منقطعة النظير عن فوائد وجبة السحور الصحية!
يمكن أن لا تكون للصوم عواقب خطيرة حينما يكون الصائم راعي إبل أو فلاحا
أو تاجرا يبيع و يشتري في سوق الأحجبة والسواك - ونحن نعرف أنّ أغلبهم يمضي
نصف وقته بين النوم والمسجد.. أمّا في الغرب فالذين يعملون يأخذون عطلتهم
السنوية عادة في أيّام الصوم وهم محقّون في ذلك لأنّ الصوم يتعارض مع
الحياة الحديثة.
هل من خطر في أن يفقد التوازن من شدّة الجوع والعطش من يسوق البقر أو من
يقطف البرتقال أو الموظف الذي ينتظر آذان الإفطار في المكتب وهو يتحايل على
الوقت في قراءة الجرائد والتلهي بالكلمات المتقاطعة بين صلاة وأخرى؟
و لكن هل حدّثنا الإعلام المادح دوما لعادة الصوم عن العواقب الوخيمة التي
تنجرّ عن فقدان طيّار لوعيه أو توازنه من شدة الجوع إذا كان من الصائمين؟
هل أخرج هذا الإعلام أرقام حوادث السير في رمضان للعلن وحاول أن يقدم لها
التفسير الصحيح؟ كدت أن أكتب أمام هذا الخنوع للمألوف أن على الصحفي أن
يكون مثقفا مارقا أو لا يكون.
استفاد الإعلام في الدول العربية من التقنية (قشرة الحداثة) ولكن لا
يستطيع أن يكون حديثا (العقلانية) في بلدان ما زالت الدولة فيها دينية.
وفي انتظار الطفرة العقلانية، يبقى "الإعلام العربي" ضحية الطفرة
البترولية و يبقى بذلك متماديا في نشر وترسيخ ثقافة القطيع و مُحوّلا
النزوع اللاعقلاني إلى رأي عام. ولا يزال كسابق عهده يقدم للأصولية، بوعي
أو وبدون وعي، أعظم الخدمات. فهو الوسيلة التي وضعت لتكون حجرة عثرة أمام
انعتاق الإنسان العربي، فهو يعمل ليل نهار لإغراقه أكثر فأكثر في بحر
اللاعقلانية المظلم و يقدمه لقمة سائغة لعرابي الأصولية الشاملة.
ولكن مع ظهور الإعلام الموازي على مواقع الإنترنيت لم يعد هذا الإعلام
الخادم للفكر الديني لوحده في الساحة و بات من الصعوبة عليه أن يمارس
الأظلمة كما يحلو له. لقد ولى ذلك الزمن الذي كان يحارب فيه الذكاء و يروج
للتتريث والتخلف كيفما شاء، ويعمل كل ما في وسعه من أجل تغييب التراث
العقلاني العربي.
لا تعسف العسكر ولا بيترو- دولارات المشيخات ولا ترهيب رجال الدين… يستطيع
اليوم إيقاف حرية الكلمة العقلانية الحرّة.
في يوم من الأيام سيقول التاريخ أن الإعلام العربي قد مارس تجاه "الإسلام
هو الحل" ما لخصته "حنا آرنت" في عبارة شهيرة، وصفت بها موقف البعض من
النازية وهي "عادية الشر". وسيُحاكم هذا الإعلام بتهمة التغرير بالجمهور
وتهمة الامتناع عن نجدة شعوب في خطر ..الخطر الدينيّ.