ذاع بين الناس، في المدّة الأخيرة، نصّ منسوب إلى عالم اللّسان والمفكّر
الأمريكيّ نعوم شومسكي بعنوان الاستراتيجيّات العشر في سياسة الجموع ( Les
dix stratégies de manipulation de masses ) سرعان ما تناقلته المواقع
والمدوّنات، وتعاورته الترجمات. وراء هذا الذيوع عاملان أساسيّان، فنسبة
النصّ إلى مؤلّف عُرف بردوده الراديكاليّة على أداء النظام العالمي الجديد،
وبجرأته الفكريّة في تفكيك آليّات العولمة يضفي عليه سلطة ما، فإذا انضافت
إلى ذلك طرافة المحتوى وأهمّيته، كان أحرى بالانتشار والاشتهار.
أجمل المقال الدليل استراتيجيّات التحكّم في الجموع وتوجيهها في عشر،
أوّلها استراتيجية الإلهاء والتسلية. فالرقابة على المجتمع تتحقّق وتتأكّد
عبر إغراق الناس في سيل من موادّ الترفيه، وتحويل انتباه الرأي العامّ عن
المعلومات الضروريّة لمزيد فهم قضاياه المهمّة. ثانيتها اختلاق الأزمات،
ثمّ التصدّي لها بالحلول. يُبدأ بخلق مشكلة عبر افتعال وضع مخصوص تتدافع
الجماهير متفاعلة معه، ليصير مطلبها حلّ المشكل الطارئ. حينها، يقع التدخّل
باقتراح حلول مبرمجة مسبقا، لتخدم أهدافا بعينها. يعطي المقال مثال
التغاضي عن مظاهر العنف والهجمات الإرهابيّة، ليقع التدخّل فيما بعد
باتّجاه مزيد التضييق من الحرّيات والحقوق الاجتماعيّة لتسويغه لدى الرأي
العامّ.
ثالثة الاستراتيجيّات سمّاها الدليل استراتيجيّة التدرّج. فسياسة المراحل
في تمرير مشروع ما هي أجدى وأقوم من سياسة الفرض الفوريّ. وما لا يقبله
الناس دفعة واحدة، يقبلونه على جرعات، وخطوات محسوبة المراحل.
الاستراتيجيّة الرابعة سمّيت استراتيجيّة التأجيل عبر الاعتراف بأنّ قرارا
ما شرّ لا بدّ منه، وأنّه أحلى الأمرّين الذي علينا تجرّعه، ولو بالاستعداد
له في المستقبل. فالناس يقبلون التضحية إذا كانت معقودة على المستقبل،
وينفرون منها إن كانت مطلوبة للحين. والوقت سيكون كفيلا بمصالحة الجموع مع
ما كانوا يتخوّفون من وقوعه، حتّى إذا وقعت الواقعة كانت أمرا مألوفا.
استراتيجية الاستغفال هي خامس الاستراتيجيات. أن تخاطب الجمهور على أنّه
حصيلة أفراد قاصرين، وتتوسّل إلى ذلك بخطاب تضليليّ، فكلّ ذلك يجعل
المخاطَب يذهل عن حقيقة نفسه، ويصير كما شاء له الخطاب الإعلاني.
دغدغة العواطف بدل مخاطبة العقل هي سادس الاستراتيجيات المرصودة في
الدليل. إنّ التركيز على العواطف تضمر معه ملكة العقل والنقد والوعي
والتفكير.. وتتركّز طاقات الجمهور في مجال الرغبات والانفعالات والمحاذير
والهواجس والأطماع والآمال. ولكي يقع إحكام الطوق على أعناق الجمهور، فلا
بدّ من سياسة تجهيل ممنهجة تحافظ بل تزيد في الفجوة بين النخب وبين العوامّ
والجموع. والأهمّ، حسب هذه الاستراتيجية السابعة، هو أن لا تقع إتاحة أيّ
من المعلومات بخصوص أسباب تلك الفجوة ولا بكيفيّات الخروج منها أو تذليلها.
على هذه النقطة تترتّب الاستراتيجيّة الثامنة. وهي السعي للتوصّل إلى جعل
الناس يستحسنون الغباء والغفلة، بل ويحتجّون لهما بضروب من الحجج، كالتساؤل
عن جدوى الذكاء والترقّي، ووجاهة العلم والتعلّم.
إنّه لا يبقى للأفراد، داخل المجتمع، من شعور واع بأسباب ما هم فيه من بؤس
أو شقاء، فيعتقد الفرد منهم أنّه المسؤول الوحيد عن التعاسة التي يحيا
فيها، ويعيش على الشعور بالذنب لأنّه محدود الذكاء والقدرات والكفاءة.
ومشاعر الإثم والذنب تحبط العزائم وتكفّها عن رفض الواقع المفروض والتوق
إلى واقع بديل. وذلك مناط الاستراتيجيّة التاسعة.
وآخر الاستراتيجيات المرصودة في هذا الدليل المثير، حَمْلُ الجمهور على
التسليم بأنّ النخب الحاكمة أعلم بالأفراد من أنفسهم. فالمعارف العضوية
والنفسيّة والعصبيّة الحديثة تمكّن، أكثر فأكثر، مديري المنظومة
الاجتماعيّة من السيطرة على خوالج الناس، والتحكّم في أهوائهم ورغائبهم.
لقد صحّ أنّ الأفكار الواردة في هذا النصّ / الدليل تتصادى مع كثير من
أفكار شومسكي وأطاريحه المبثوثة في كتبه ومقالاته، ولكنّ أثر الصدمة التي
يحدثها الاطّلاع على استراتيجياته العشر المذكورة قد منع القرّاء من الشكّ،
أصلا، في نسبة النصّ إلى أنْ قطع المفكّر الأمريكيّ التردّد، وأجاب نافيا
نسبة النصّ إليه، مرجّحا أن يكون أحدهم قد صاغ تلك النقاط العشر استلهاما
من أفكاره ومؤلّفاته(1). وكان هذا الإنكار العلنيّ قد حَمَل الموقع (2)
الذي روّج النصّ في البدء على تعديله، وحذف اسم شومسكي منه، والإحالة إلى
مصدره الأصليّ (3).
وثبت أنّ تلك الاستراتيجيّات العشر صِيغتْ من وثيقة مرجعيّة تصنّف على
أنّها "سريّة للغاية"، وتحمل عنوانا مثيرا "أسلحة صّامتة لخوض حروب هادئة"
Armes silencieuses pour guerres tranquilles . يعود تاريخ هذه الوثيقة إلى
ماي 1979، وإنْ تمّ العثور عليها سنة 1986 عن طريق الصدفة عالقة في آلة
ناسخة، ويقف وراء نشرها واستخلاص استراتيجياتها العشر رجل آخر أسقطته
النقول والترجمات اسمه سيلفان تيمسيت (Sylvain Timsit). وقد عُدّت الوثيقة
عبارة عن دليل للتحكّم في البشر وتدجين المجتمعات والسيطرة على المقدّرات
عبر وسائل الإعلام بالتحديد. ورجّح تيمسيت أن تكون الوثيقة صنيعة دوائر
التفكير صلب القرار الاقتصادي والسياسي في العالم، كما ترك إمكانية أن تكون
ضربا من "الخيال العلميّ" أنشأه مؤلّف موهوب، أو أن يكون قد صاغها كاتب
صحفي مقتدر.
على أنّ المسحة التشاؤميّة التي تطبع تلك الوثيقة بما تشيعه من انطباع
بالعجز والسلبية والانفعال، وبأنّ الجموع طوع بنان وأفكار أرباب الإعلام
والاقتصاد في النظام العالمي الجديد لا تعدو أنْ تكون النصف الفارغ من
الكأس. النصف الآخر دافع عنه لفيف من المختصّين في الاتّصالات
والمستقبليّات ضدّ الحتميّات "التآمريّة"، ليعيدوا النظر في مآل العلاقة
بين
أرباب الإعلام والجموع، وفي اشتغال التكنولوجيّات الحديثة على تحويل
نمط العلاقة تلك، وفي إعادة توزيع القوى بين الكفّتيْن.