كتب عُمر قدّور
مقالا،
في هذا الملف، جاء فيه: "سيكون من باب المجاز أن نتحدّث عن الإعلام
العربيّ بوصفه "سلطة رابعة"، فهو لن يستحق هذا الوصف إلا عندما يصبح
بإمكاننا الحديث عن فصل فعليّ بين السلطات".
ولو أخذنا هذا القول قياسا لتأكّد لدينا أن البرلمانات ليست "سلطة
تشريعية" وأن المحاكم وما اتصل بها من مؤسسات ليست "سلطة قضائية". والأصل
أن هذه الصفة (السلطة) تُمنح وجوبا ومفعول "السلطة" فيها ثابت وفاعل ولا
شكّ. هي سلطات كلّها مفهوما وواقعا فعليّا، لكن قد يقع تجميعها إلى جهة
واحدة وفي يد واحدة فتخدم من هو خلف تلك اليد عوض أن تضطلع بأدوارها كمكوّن
في جسم الدولة مراقب وخاضع لرقابةِ. والسؤال الرئيسي: من يمتلك هذه
السلطات؟ ولخدمة أي مصالح؟
لقد احتكرت "السلطة التنفيذية" قدرات السلطات جميعا، فهي وإن كانت في
المرتبة الثانية بضرورة أن تكون "التشريعية" هي الأولى التي تضبط حدود
وأدوار كلّ "سلطة" بعدها وتضبط أشكال اشتغال كلّ مؤسسة من مؤسسات الدولة
والمجتمع، فإنّها أخذتها رهينة قبل غيرها حتى تقع صناعة التشريعات بما يخدم
السيطرة والهيمنة. وإن كانت من ضرورة لسنّ تشريعات تحترم "الدولة" وخدمة
لتطوير المجتمع، قياسا بما يوجد في المجتمعات المتقدّمة أو باعتبار أمرٍ
ذهب في أصل النصوص مع مبادرات زعماء التأسيس للدول الوطنية، فإن مجال
التطبيق لن يكون سهلا، فما أوفر النصوص، في هذا البلد العربي أو ذاك، التي
تحترم جملة الحقوق السياسية والمدنية أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية، ولكنها زينة "أنظمة الحكم" لا روح نظام الدولة.
كما أن توزيع مقاعد البرلمان يكون "قسمة" بين الطوائف، أو موزّعا بين
شركاء(أحزاب أو لوبيات أو أفراد) تجمعهم مصلحة تثبيت نظام حكمٍ.
أما عن "السلطة القضائية" فإنها تكتفي بالنظر في الخلافات اليومية بين
رعايا الدولة في المعاملات وقضايا الطلاق والعنف والسرقة، وليست قادرة على
مجابهة القضايا الكبرى حيث يقع العبث بالقانون أو متابعة من هم فوق
القانون، في تواطؤ مفضوح نتج عنه تدريجيّا تفشّى الفساد داخل المنظومة
القضائيّة ممّا يهدّد سلامة المجتمع وأمنه بسبب الرشوة والمحسوبية، ونلاحظ
كيف تضيع حقوق دون حسيب أو رقيب.
إن كان هذا حال سلطتين بإمكانهما أصلا وتشريعا مراقبة ومحاسبة "السلطة
التنفيذية"، وقد أمكن لأنظمة الحكم تهميشهما حتى فقدتا هيبتهما، وأمكنها
احتواؤهما حتى كانتا في خدمته، فكيف يمكن أن يكون حال الإعلام تلك "السلطة
الرابعة"؟
وبالعودة إلى ما قدّمنا من نص عمر قدّور، سيكون تأويل قوله: من باب المجاز
الحديث عن "سُلطات". وإذ نختلف نقول: كلّها سلطات فعلا لا مجازا، ولكنّها
غير مستقلة. هي سلطات لأن فيها قوّة السلطة وفعلها وإلزامها. وإن مؤشّرات
السلبية والرضوخ لقوّة السلطة المهيمنة لا يشمل بهذا المنطق الإعلام فقط،
بل إن الإعلام أقلّها امتثالا.
فعلى أساس المعطيات والوقائع يمكن التأكيد أنّه مع "السلطة الرابعة" لا
تتوقف لعبة الترويض الدائمة، حيث يمكن أن تقع الهيمنة على مجلس نيابي لمدّة
نيابية فتقع المصادقة على قوانين، أو عدم المصادقة على شيء، فقط مباركة ما
يأتيه "الزعيم" لمدّة سنوات في انتظار تعيين مجلس آخر "انتخابيا".
ولقد احتكرت الأنظمة العربية مؤسسات "الإعلام" الرسمية ، ودجّنت في
حضيرتها صحفا حزبية وبعثت إذاعات وقنوات تلفزيّة خادمة لمشروعها
"الأيديولوجي" أو "السياسي"، لكنّ الفعل الإعلامي لا يخضع تماما لفضاءات
مخصوصة، والاحتكار لا يكون مطلقا أو كليّا. فعلى سبيل المثال لا يمكن
لمعارضة ليست شريكة في الحكم أن تكون لها يد في فعل مؤسسات الدولة
التنفيذية، ولا تُمثَّل في البرلمان، ولا تستردّ حقّا مسلوبا بتسييس أحكام
القضاء، ولكنّها تمتلك دائما جزءا من "السلطة الرابعة"، فثمة دائما حيّز
يُفتكّ ولا يُمنح، ولا يحتاج توفيره انتخابات ديمقراطيّة وتعدّدية قد لا
تأتي قبل عقود، أو جهازا قضائيّا يوفّر العدل قبل ثورة في القيم لا يمكن أن
تأتي صدفة ولا يمكن أن تكون الأولى.
وتُطالب كلّ جهة يقع إقصاؤها بحظّها من برامج القنوات الرسمية بما أنّها
مموّلة من المال العمومي، وتحتجّ على القنوات والجرائد "الخاصّة" التي لا
تقدّم أنشطتها ومشاريعها، ولكن بإمكانها دائما أن تخلق حيّزا إعلاميا. قد
تصل مادّتها الإعلامية إلى الفئات المهتمّة والمُتابعة فقط، ولكنّ الفضاء
العمومي لا يخلو تماما، وفي أحلك الظروف، من الصوت المختلف بكلّ الأدوات
التي يُوفّرها كلّ زمان. وقد مررنا من المنشورات السريّة يدويّة الطباعة
إلى الفضاء الإلكتروني والمواقع الاجتماعيّة التي تجاوزت زمان البيان
المكتوب الإخباري إلى الصّورة والفيديو الذي يقدّم كلّ التفاصيل ألوانا
وأصوات.
وإن كانت السلطات الثلاث لها مركزيّتها وحدودها داخل الدول، فإن "السلطة
الرابعة" مُعولمة حتى قبل الحديث عن "العولمة" خلال العقود الأخيرة،
والمعلومة كانت تهرب دائما من الحدود، وقد زادت سرعةُ تنقلها بشكل مذهل حتى
أننا لم نعد نذهب إليها لأنها تحلّ عندنا بما توفّر من تقنيات يمتلكها كلّ
يوم عدد متزايد من الناس عبر العالم.
ويبدو أنّ عددا من الأنظمة ومراكز القرار تُحسن الآن التعامل مع
المستجدّات وبدأت تستوعب التغييرات فتفوّت في سلطاتها الرقابية والدعائيّة
لوكلاء بعد أن ثبت لديها، ولدينا، أن "الجمهور" أصبح ينسحب تدريجيّا عن
منابرها الإعلامية، فهي الآن تذهب حيث يذهبون وترصد الميزانيّات الضخمة
ليكون لها منظوروها في فضاءات بدأت ضدّها. لكنّ الدائرة تتّسعُ كلّ يوم.
ونعتقد أنّ هذا الانفجار الإعلامي في العالم العربي لازال في فوضاه الأولى
وأنّ تشخيص الحال يجب أن يخضع لتحديث مستمرّ. فلا يمكننا مثلا أن نجزم مع
"حميد زناز" أن الإعلام العربي هو
طابور
الأصوليّة الخامس رغم كلّ ما يمكن أن نتفق فيه معه. ونقرّ أنّ
"الأمميّة الاسلامويّة" أكبر مستثمر راهنا لهذا الانفجار الإعلامي، ولكنّنا
نتأنّى لاعتقادنا أنّ الغالب في الإعلام غالب في المجتمع فسُوق اللحية
والحجاب في صعود، والله يباع على الهواء مباشرة، والنّاس تهرب هناك حيث لا
مهرب فتُغرقها الدعاية للآخرة حتّى يتمكن أصحاب القنوات من أكل الدنيا. كما
أنّنا لا نجزم مع حميد زنّاز لأنّه يمكن أن نستعمل كلمة "أغلب" أو "أكثر"،
ويمكن أن نَعْدِلَ ونُعدّلَ أصلا فنقول أنّ غالبيّة الإعلام العربي طابور
خامس عند الأنظمة التي تملك فعلا المؤسّسات ولكنّها إمّا تأسّست على
مرجعيّة أصوليّة أو أنّها تستعملها لتخرج الناس من أرضهم إلى سماء، ومن
واقع إلى أحلام وأمنيات تجعل الولاء سُنّةً والفقير حبيب ربّه والعدالة من
شأن الله وخلفائه أولي الأمر.
ولنقل أيضا أنّ الأنظمة القمعيّة التسلطيّة نجحت، ومعها الأصوليّات، في
اكتساح أكثر المساحات الإعلامية دون خوض معارك مصيريّة ضدّ نقيضها، فلسنا
على يقين أنّها قويّة رغم أنّنا متأكدون أنّها الأقوى وأنّ نقيضها ضعيف ولم
يجد مرتكزات وُجوده داخل الساحات.
ولندقّق في هذا الأمر، فعندما نتحدّث عن صحف حزبية معارضة لأنظمة الحكم أو
صحف رأي أو نشريّات منظمات حقوقيّة لا تجد حظّها من الانتشار وأنّها
تُصادر أو أن لا إقبال عليها، فذلك مرّده أمران أوّلهما ما يتصدّر خطب
صالونات النضال الجديد وبيانات الاحتجاج أو المساندة وهو أفعال السلطات
المناهضة للتعدديّة والديمقراطية وحريّة الرأي والتعبير. وثانيهما حال
الهياكل الحزبية والجمعيّاتية التي تمتلك هذه الجرائد والمجلّات، فكما يكون
حال أهلها يكون حالها. وكيف لجمعيّات وأحزاب ضعيفة لم تستطع أن تُطوّر من
أدوات عملها وقبل ذلك من خطابها، أن تكون قريبة من الجمهور؟ وكيف لجمهور
يجهلك أن يعتني أو حتّى ينتبه لما تنشر؟
وربّما بالنسبة لصحف الرأي يتجاوز الأمر هذا التشخيص، فالاهتمام بها
تفترضه درجة من الوعي وثقافة وتكوين شعب، فالأمر ليس بالضرورة مرتبطا
بالمادّة التي تقدّمها بل بما أعدّته لها مؤسّسات أخرى، وفي مقدّمتها
مؤسسات التربية والتعليم، من جمهور قادر على تقبّل الفكر وإنتاجه.
ونعتقد إجمالا، أنّه رغم الاكتساح الواسع للخطاب الرسمي أو الأصوليّ أنّ
النجاح هشّ، فهذه الأطراف لا تحمل مشروعا مجتمعيّا له أسس وهي تسوّق
لدعايات ترتبط غالبا بأجندات محدّدة في الزمن ومصالح آنيّة. وهذا الخطاب لن
يصمد أمام الهزّات الاجتماعيّة الممكنة بحكم معاناة أغلب الفئات
الاجتماعية وحاجتها المتجدّدة للعيش الكريم والعدالة والحريّة. وقد لا تبدو
للتغيرات الاجتماعيّة، التي يمكن أن تأتي من نُخب أو من الجمهور، مؤشرات
واضحة راهنا، ولكنّ التاريخ علّمنا أنّ أسبابها كامنة.
ولننتبه إلى المادّة الإخبارية أو التحليلية والدعائيّة التي تقدّمها
وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية في العالم العربي. لقد أصبحت في جلّها
مبتذلة وتكاد تضيق لغة الخطاب هذه عن إمكانية "التسميل" euphémisme أو
التلطيف بالتبديل والتحوير وتعديل جملة بمرادف يجعلها تعيش أكثر، ولم تعد
تحضى بمصداقيّة. فالجهات الرسميّة (أو خبراؤها) كلما انتبهت أنّ خطابها
تآكل تعمل على تجديده من داخله بصناعة شعارات جديدة وتسويق "أحلام" خلاص
بالعبث داخل المعجم عوض التجديد ببرامج حقيقيّة تستجيب لتطلعات الشعوب.
كما أن الخطاب الديني يمكن أن ينحسر بوجود ما يهزّه نقدا وإرجاعا إلى
"بيوت الله" فلا يحلّ بديلا عن القانون والفكر والحداثة والحريّة والإنسان.
وأكثر من هذا يمكننا أن نختلف مع الآراء التي تنظر إلى هيمنة دوائر القرار
الكبرى في العالم على كبرى المؤسسات الإعلامية على أنه دليل قوّة أو
امتلاك دائم لها. فهو ليس بدليل قوّة لأنّه لو كانت لها مصداقيّة لما
"اشترت" كلّ تلك المؤسسات ولكانت هذه المؤسسات سندا معبّرا لها وهي في أيدي
أهلها من إعلاميين، وعليها أن تبذل جهدا الآن لأنّ الجميع يعرف أنها
المالك، فهي الناطق. وهي لن تملكها أبدا لأنّ الموازنات تتغيّر وتتبدّل وقد
يذهب تصوّر وسياسة بذهاب من يحمله من أشخاص وبتغيّر الجالس على كرسيِّ
حُكم.
وقد كان الإعلام دائما هاجس صاحب السلطة يسعى لامتلاكه والسيطرة عليه، وقد
قدّم سعيد ناشيد من خلال
مساهمته في هذا الملف أمثلة راهنة على ذلك.
ونعتقد أنّه من الضروري ألا يكون تشخيص واقع الإعلام اليوم مغرقا في
التشاؤم رغم كثرة ما يُشير إليه، وأن نؤمن بحركة التاريخ التي من شأنها أن
تفعل مستقبلا نحو مزيد الحد من هيمنة قوى التسلّط التي تعمل على طمس
الحقائق وتزييف الوقائع وتعمية الجمهور. ونلاحظ أن القرارات الدوليّة أو
المحليّة الكبرى تُصنع عن طريق الإعلام، وتروّج السلع والخوف من الأوبئة.
وتروّجُ مسلَّمات الضُّعف والقوّة والهيمنة والارتهان.
لكنّنا نلاحظ أنّه في العالم العربي لم تستطع كلّ الأموال المهدورة،
والشاشات من كلّ لون أن تنجح في خلق رأي عام، بهذا يكون الدور الموكول لكلّ
وسيلة إعلام يمكن أن تعمل لصالح مجتمع حداثيّ ومتقدّم أن يكون هدفها خلق
رأي عام.