يشير جمهور أم كلثوم الّذي نراه الآن في تسجيل حفلاتها إلى جمهور مثقف، ويرمز إلى مرحلة تنويريّة من الصعب تكرارها. وحتّى إن افترضنا أنّ جمهور أم كلثوم ينقسم في انتمائه إلى الأحزاب السياسيّة آنذاك، وفي انتمائه إلى تيارات إيديولوجيّة – إلاّ أنّ جمهور أم كلثوم كما نرى يؤمن ويتوحد ويوطّد ما سمته بياتريث سالو وهي تتحدّث عن مدن الحداثة “بالسيولة في التّداول الجمالي والاستعارة الجماليّة” ، في ذلك الحيز الّذي يشغله جمهور أم كلثوم من حيث هو جمهور لا ينتمي فقط للطبقة العليا، إنّما يشمل أيضا الطبقة الاجتماعيّة الدنيا.
تتعلّق تلك المرحلة التاريخيّة في الثّقافة العربيّة الحديثة ببرامج النزعة الإنسانيّة، وقد مثل كلّ تجديد آنذاك أساسا لترسيخ قيمة جماليّة. ومازلنا إلى الآن نستمتع بفرح تلك المرحلة التاريخيّة ومرحها وسعادتها ونحن نقرأ شعرها ونثرها، ونشاهد أفلامها، ونستمع إلى ألحانها وغنائها.
2
قبل أن يتبلور جمهور أم كلثوم كما نشاهده الآن، ولكي نعرف كيف تكوّن لا بدّ لنا من أن نعود إلى عام ( 1798 ) وهو عام الحملة الفرنسيّة. تتعلّق هذه البداية بالدّلالة الّتي اتّخذتها تلك الحملة بالنسبة إلى الثّقافة العربيّة الحديثة؛ فبسبب تلك الحملة أجرى العرب على أنفسهم تحولا عُرف بمرحلة النهضة . ثاروا فيه على الكيفيّة الّتي كانوا عليها في القرون الوسطى.
آنذاك كان المثَل المثير لإعجاب العرب هو الغرب، ولهذا أراد العرب أن يشكلوا ذواتهم حسب كيفية وجود الأوروبيين. وما اعتبره العرب أساسيًّا آنذاك هو العلم لكي يحرّر العرب من عاداتهم وتقاليدهم وخرافاتهم. وسرعان ما ولد سؤال النهضة العربيّة الّتي كانت وراء انبعاث الفكر العربي الحديث. ومن غير أن أتوقف عند بدايات اليقظة العربية، وتبلور أهدافها الوطنيّة والقوميّة والاقتصاديّة والثّقافيّة والاجتماعيّة، سأنتقل إلى تجربة ثقافيّة مميّزة في العصر العربي الحديث.
يمكن أن أسمي تلك المرحلة التاريخيّة بمرحلة العباقرة في الدين والعلم والشّعر والقصّة والرواية والمسرح والموسيقى والغناء والسّياسة والاقتصاد. سأمثّل هنا باسم واحد لا غير لكي أشير إلى هذه المجالات الفكريّة والجماليّة كالإمام محمد عبده في تجديد الدين، والشّاعر أحمد شوقي، والقاص محمود تيمور، والأديب طه حسين والمفكر أحمد لطفي السيد، والاقتصادي طلعت حرب، والممثل نجيب الريحاني، والملحن سيد درويش، والموسيقار محمد عبدالوهاب، والمغنية أم كلثوم.
عاش العرب مع هؤلاء العباقرة وبهم تجربة تحديثيّة رائدة تكمن في القدرة على إسعاد الإنسان العربيّ في أي مكان. كان السؤال الّذي طُرح آنذاك ومسّ العالم العربي كلّه هو: أين تتجلّى سعادة الإنسان العربيّ بما أن لا معنى لها إلاّ على مستوى الحياة البشريّة؟ في شعور النّاس بالرضا الّذي يحسون به نحو الحياة الدنيا، في تمنياتهم ورغباتهم ومشاريعهم الّتي يخطّطون لها.
إنّ من بين التّغييرات الّتي حدثت آنذاك في المجتمع العربي بهدف السّعادة لا شيء يكتسي أهميّة كبرى مثل الدعوة إلى تحديث المجتمع العربيّ في كلّ بناه السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والاقتصاديّة، وفي مشاريع جزئيّة أو شاملة، جذرية أو إصلاحيّة طبعت تلك المرحلة البديعة.
ترتب على ذلك التّحديث الاجتماعيّ والمعرفيّ أن تغيّر فهم العرب لأنفسهم، وما تبع ذلك من تغيير في فهم طبيعة العلم والفنّ والأدب. وإذا ما اقتصرت على الفنون فمن المعروف الآن أن ظهور نوع أدبيّ أو فنّ تشكيليّ أو لحن موسيقي جديد يأتي جزءا من الإجراءات الطويلة والمعقدة الّتي تغير فهم النّاس لمجتمعهم، وتقبلهم لأنفسهم، قبل أن يتغيّر الخطاب الّذي يعالج خبرتهم.
غدت القاهرة في تلك المرحلة التاريخيّة مثيرة لكلّ مواطن عربي من المحيط إلى الخليج. غدت من حيث هي ” فضاء مادي وأسطورة ثقافيّة ” في آن. وغدت فيها الحداثة أداة لتنقية الذّوق العربي، وهي بطبيعة الحال أداة لا غنى عنها في مدينة يرتادها بدو العالم العربي وبرابرتهم.
3
ثمّ قامت الثورة المصريّة عام 1952. ولا يخلو تحالف “العسكر” آنذاك مع جماعة الإخوان المسلمين من معنى ولو عند مستوى غير واضح، وهو أن ثورة 1952 في أحد مستوياتها لم تقم من أجل التّغيير؛ إنّما من أجل إعادة السّلطة إلى الماضي؛ لذلك فما بدا للشّعب العربيّ آنذاك على أنّه روح جديدة في ثورة 1952 لم يكن سوى محاولة لاستعادة سلطة الماضي وقد فُهم التّحالف على أنّه إعادة لسلطة الماضي على الأقلّ من وجهة نظر الأخوان المسلمين.
غير أنّ ما يلفت النظر هو أنّه لم يكن هناك استبداد لكي تحدث ثورة 23 يوليو فيما لو قارنا ما بعد الثورة بما قبلها؛ إنّما هناك “عسكر” أشعلوا العالم العربي بتوحيدهم بين الثورة والقوميّة؛ أي ثورة عربيّة وقوميّة ثوريّة. تتحدّث القوميّة العربيّة بلغة الثورة، وتثير الثّورة الجماهير برفع الشّعارات القوميّة.
قبل أو بعد ثورة 1952. في الثورات الّتي حدثت في سوريا والعراق وليبيا والسودان والجزائر، كان هناك حياة سياسيّة، تضمن حقّ التّظاهر السلمي، وتنظيم الانتخابات الدوريّة. ثمّ تعطّلت تلك الحياة السياسيّة بابتكار أعداء في الداخل وأعداء في الخارج تحت مفاهيم الرجعيّة والإمبرياليّة. رفضت القوميّة فكرة الأوطان، ورأت فيها فكرة ورّثها الاستعمار. وقد ناضل القوميون من أجل الوحدة العربيّة. وقد ساوق فكرةَ الرباط القومي فكرةُ الرباط الدينيّ لاسيّما بعد نكسة 1967، وقد عطّل القومي والديني إصلاح المجتمعات العربيّة وتحديثها؛ لأنّ كليهما استندا إلى فكرة إحياء على المستوى الديني، وعلى المستوى الحضاريّ. وإنّه من الدّلالة بما كان أن تُسمى الأحزاب بأسماء كالبعث والنهضة والنّور والوطني.
من هذه الخلفيّة نشأت ثقافة لا تهتمّ إلّا بالصّراعات مع ما كان يسمّى في تلك المرحلة التاريخيّة بالرجعيات المحليّة والعربيّة، والاستعمار الصهيوني والامبريالي. ثقافة كهذه لن تصنع سوى ثقافة ومثقفين مناضلين. وقد تحوّل هذا النّضال وبفعل نكسة عام 1967 إلى شعور متحفّظ إزاء الثّقافة والمثقف المناضل عبّر عنه عبدالله العروي بأنّ وظيفة المثقف ليس النّضال، إنّما ملئ فضاء المجتمع العام.
لا أريد أن أجمد المقدّمات التاريخيّة لتحديث المجتمع العربيّ والثّقافة العربيّة في مستوى ما قبل العام 1952 ولا أن أجعل صورتها الرمزيّة جمهور أم كلثوم، لكن هذا ما يبدو من حالة المجتمع العربي الّتي أعقبت ذلك التاريخ؛ حيث تراجع انفتاح المجتمعات العربيّة، وذبل العقل، واستسلم المجتمع العربي لحالة قدريّة. إنّني أعتقد أنّه فيما لو نجحت النزعة الإنسانيّة ودعاوى التّحديث والإصلاح الاجتماعيّ والثّقافيّ والسّياسي الّتي ظهرت في العالم العربيّ قبل ثورة 1952 لما ظهر التّطرف في العالم العربي الحديث.