هناك طرق مختلفة للسؤال عن الجنة، ومن بين أسئلة الدار الآخرة الأساسية كسؤال البعث والحساب وسؤال النار وسؤال العذاب وسؤال رؤية الله تعالى سأسأل سؤالا واحدا هو : ما الجنة؟ هذا السؤال قديم، لكن الجديد فيه يكمن في أنه يمكن أن يٌطرح دائما من جديد. يمكن أن نتحدث عن جنة الآخرة، ويمكن أن نتحدث عن جنة الدنيا، لكن فيما لو أخذنا تصوّر جنة الدنيا مقياسا للحديث عن جنة الآخرة، فإن فهم جنّة الآخرة لن يتم إلا بقفزة في التفكير الإنساني.
2
ما الجنّة؟ سيُجاب: الجنة هي الجزاء والمآل في الآخرة. هذا له معنى؛ لكن ليس هذا فقط هو الجنة. فالنار كذلك دار جزاء ومآل في الآخرة. وإني لأتخيل القراء يردّدون: لا معنى لسؤالك، ولا جدوى من وراء طرحه. بربّك ما الذي سنحصل عليه من سؤال ما الجنة؟! لا شيء .لا نحتاج من سؤال الجنة أكثر من نعيمها الأبدي، وعيشها الرغيد. الجنة كالوردة، عليك أن تشم رائحتها، لا أن تلمسها؛ لأنك ما إن تفعل حتى تذبل. إن سألت: ما الوردة؟ فلن يجاب برائحتها. ولن يقتنع هؤلاء أن سؤال الجنّة متعلق بما لا يكون اليومي مدخلا ومعْبرا إليه كالوردة .
3
ما الجنة؟ هذا سؤال لا معنى له، لكن في الحقيقة نحتاج إلى أن نفكر في السؤال أكثر من أن لا معنى له؛ ذلك أنه سؤال قديم. وسيكون من المفيد أن نحدد هذا السؤال من زاوية تاريخية هي تاريخ الإسلام، وأن نوغل في التاريخية إلى حد لا يستثنى أن يكون في الجنة خيلٌ أو إبل أو طيور.
لنقرأ: عن عبد الرحمن بن ساعدة قال: كنت أحب الخيل فقلت: يا رسول الله هل في الجنة خيل؟ فقال: إن أدخلك الله الجنة يا عبد الرحمن كان لك فيها فرس من ياقوت، له لجناحان يطير بك حيث شئت ( رواه الطبراني). بناء على هذا يجب أن نحدد السؤال: ما الجنة؟ بوصفه سؤالا يثير الاستغراب، وكيفما كان السائل فيجب أن يكون هناك ما أثار استغرابه. لنقرأ مرة أخرى. عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أهل الجنة يتزاورون على نجائب بيض كأنهن الياقوت، وليس في الجنة شيء من البهائم إلا الإبل والطير”.( رواه الطبراني وفيه جابر بن نوح وهو ضعيف) .
من خلال تحديد السؤال عن الجنة وصلنا إلى إشارة هامة تميّز الجنة. الجنة هي ذلك المكان الذي لا تكون فيه الأشياء على ما كانت عليه في الحياة الدنيا. فالفرس من ياقوت وليس من لحم ودم، لا يجري إنما يطير. وكذلك الإبل. لا تشبه الجنة الدنيا التي يوجد فيها البغال والحمير. لا يوجد فيها من كائنات الدنيا إلا الخيل والإبل والطيور والنباتات. لا يوجد فيها جمادات. وهكذا فليس تعيين مفهوم الجنة بهذا الشكل مجرد استغراب، بل هو تعيين ينبغي التمعّن فيه.
4
لن نملّ من السؤال. ماذا نعني بقولنا جنة؟ نعني دار السلام، دار الخلد، دار المقامة، المأوى، عدن، دار الحيوان، الفردوس، النعيم، المقام الأمين، مقعد صدق، قدم صدق، نعيم الآخرة، دار الصالحين في الآخرة، نُزُل الأبرار، فوق ما يخطر في البال أو فوق ما يدور في الخيال. لكننا أيضا قد نقول عن رغد العيش، وعن الراحة، وعن الطمأنينة في الحياة الدنيا جنّة، ونقول عن الطبيعة الساحرة جنّة، نتكلم عن ما يسعدنا في الدنيا على أنه جنّة، وعن ما يبهجنا على أنه جنة. نتحدث عن الأطفال الهادئين على أنهم جنّة، وعن الكبار الطيبين على أنهم جنة. قد نطلق على لوحة طبيعية معلّقة على الحائط جنّة، وعلى المدينة التي نعيش فيها أو التي زرناها أو شاهدنا صورها على أنها جنة. وعلى السيارة التي نركبها على أنها جنّة. وعلى الجو الذي نعيش فيه على أنه جنة.
في مقابل هذا لا نطلق على الشقاء جنة، ولا نقول عن البؤس إنه جنة. نتردد في أن نطلق على الطفل الشقي جنة، وكذلك على الكبير سيء الخلق. نتردد في أن نسمي طبيعة قاحلة جنة، وكذلك على السيارة غير المريحة. لا نطلق على الحر الشديد، ولا البرد الشديد جنة.
هذا غيض من فيض، لكننا نعتقد أننا وضحنا بهذا الغيض أننا نفهم كلمة الجنة في دلالة ضيقة، وفي دلالة أخرى واسعة. الجنة بمعنى ضيق يدل على ما هو غير مرئي، على غير ما هو ملموس ومحسوس، على ما هو غير موجود في دنيانا كجنة الآخرة. أما الجنة بالمعنى الواسع فتدل على كل ما يسعدنا ويبهجنا ويريحنا. ما قد يكون حولنا.
5
لكن هناك معنى أوسع من هذا المعنى الواسع وهو إمكان كل واحد منا أن يتخيل الجنة. تلك هي الجنة المتخيّلة كما فعل أبو العلاء المعري . نحن نعرف أن أبا العلاء المعري لم يكتب رسالة الغفران إلا بناء على حافز هو رسالة ابن القارح، وأن استحضار الجنة كان استطرادا في المقدمة التي كتبها لرسالته. إن المقدمة التي كان من المنتظر أن تتركز في بضعة أسطر أو بضع صفحات قد تمددت وتضخمت وصارت غاية في الأهمية، بحيث إن القارئ يندهش ويحتار حين يصل إلى القسم الثاني، إلى الموضوع ( الأساس ! ) للرسالة. هكذا فإن مركز الرسالة؛ يعني القسم الثاني، صار بالنسبة لنا ثانويا وهامشيا، بينما القسم الأول، الذي هو مجرد استطراد، صار ذا أهمية بالغة ( كليطو، أبو العلاء، أو متهات القول، ص 21) .نحن هنا أقرب إلى مفهوم ” الجنة في ذاتها “. الجنة في ذاتها تعني أنها ليست في متناولنا نحن البشر بالتجربة. حينما نسمي الجنة جنة فإننا نقصد أن الجنة ليست عدما. يمكننا أن نفكر في الجنة لكننا لا يمكن أن نعرف الآن الجنة بالتجربة كما نعرف القلم الذي يمكن أن نتحقق منه تجريبيا.
6
أتكون الجنة موجودة الآن؟ يثبت هذا صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتابعون وتابعوهم وأهل السنة وأهل الحديث. لكن هناك من ينفي وجود الجنة الآن كالقدرية والمعتزلة. يتعلق إثبات وجودها الآن ونفيه بالنقل والعقل. ينقل الأولون وجودها معتمدين في ذلك على النصوص، بينما يفكر فيها الآخرون وأدلتهم عقلية، فليس من المعقول أن توجد الجنة قبل الجزاء. إن خلقها وتعطيلها عبث؛ فلن يكون حكيما الملك الذي يعد دارا للضيافة ويمنع دخولها قرونا طويلة.
6
لنسأل من جديد: ما الجنة؟ ذلك أن الجنة موضوع السؤال؛ أي أن الجنة التي نسأل عن ماهيّتها تتأرجح دلالاتها. إننا نعرف أن ما يكون موضوع السؤال يجب أن يكون محدّدا بصورة كافية حتى يصبح السؤال سليما؛ لذلك فالجنة بأي معنى؟ هل الجنة بالمعنى الضيق؟ أعني الجنة بالمعنى الذي لا تكون فيه في الدنيا كجنة الآخرة ، هل الجنة بالمعنى الواسع؟ أعني إضافة إلى جنة الآخرة جنة الدنيا. هل الجنة بالمعنى الأوسع ؟ أعني جنة الآخرة وجنة الدنيا والجنة المتخيّلة.
فهم الجنة بالمعنى الضيّق هو الفهم الديني ، وبالمعنى الواسع هو الفهم المشترك بين الناس، وبالمعنى الأوسع هو الفهم الأدبي. وهنا حين نسأل: ما الجنة؟ سنركز على الفهم الأول ثم نسير في اتجاه لفهم الواسع ثم الأوسع. إذن حينما نسأل الآن ما الجنة؟ نضع في بالنا ما ليس موجودا في الدنيا، ما لم يُرَ مثله أو يُسمع أو يُتخيّل.
7
سنسأل مرة أخرى ما الجنة؟ يشير الفعل ( جنّ ) في المعجم العربي إلى الستر والتّستّر. ويضم إلى الجنة كلمات أخرى نكتفي بالشائع منها كالجنّ والجنين ( ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، 1991، جـ/421، 422 ) . ويبدو أن لا فائدة من المعجم العربي حتى ولو استعنا بأضخم معجم عربي وأشمله كلسان العرب الذي يكتفي بأن الجنة دار النعيم في الآخرة ( 1992،جـ13/100 ).
وجود كلمة ( جنة ) في المعجم هو قبول ضمني بأنها كلمة. أما أنها تعكس واقعا، وأما أنها تخفيه، وأما أنها تعلن غيابه، أما أنها لا ترتبط بأي واقع، فذلك ما لن نجيب عنه الآن ونكتفي بالقول إن الاعتراف بها ككلمة، وإدراجها في المعجم يتطلب مدلولا تعمل الكلمة من خلاله.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهذا المدلول لا يُشترط أن يكون مرجعا واقعيا محتملا للكلمة المُدرجة في القاموس. لا يعني هذا عدم وجود نواة من المعنى يمكن أن يُبنى عليه عدد من وحدات المعنى، وجذر لغوي واحد ينتج عنه عددا من الكلمات. سنتتبّع معجما عربيا في خطاه لنحصل على قائمة من الكلمات كالجنّة والجنّ والجنين والجنان ( الليل ) والجنن ( القبر/ الكفن ) والجنين (المدفون ) والجنان ( القلب/ الروح ) والمجنّ ( الوشاح / الترس ) والجُنة ( السّترة/ الدرع ) .
كل هذه الكلمات تعود إلى معنى نواة هو السّتر والتستّر . وإذا كان هناك مرجع واقعي لأغلب هذه الكلمات، فإن السؤال الذي يبرز هو: كيف تكوّن مرجع كلمة كالجنّة التي لا مرجع لها في الدنيا؟. وهو ما يتطلب منا أن نتوقف عند أمثلة لتكوّن مرجع لكلمات تشابه الجنّة.
8
مدن الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو غير المرئية. قرية الكاتب المكسيكي خيراردو ماريا ( ناتو سالين ). لأسباب تتعلق بالشهرة سأبدأ بقرية ( ماكندو ) التي أنشأها الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في روايته مائة عام من العزلة، وأوجد فيها عائلة ( بونيدا ) بدءا من مؤسسها؛ الجد الأول خوزيه أركاديو بونيدا، والجدة الأولى أرسولا، ثم تقصى عبر الرواية سلالة الأسرة إلى أن انتهى الجد الأول مقيدا ومربوطا في شجرة كستناء، وآخر فرد منها يلتهمه النمل. وبالرغم مما قيل عن نواة واقعية لهذه القرية إلا أن ذلك لا أهمية له؛ ذلك أن من قرأ الرواية سيحدس أن لا وجود لهذه القرية خارج الرواية، ولا مرجع واقعي لها.
بالرغم من عدم واقعية ماكندو؛ أعني عدم وجود مرجع خارجي لها إلا أن هناك سببين لكي تصبح قرية واقعية. الأول أن ماركيز كتب عنها، والثاني أن أغلب ما فيها ينافي العقل من الناحية العملية. دخلت قرية ماكندو إلى الفن ورضخت له. ومما له أهمية هنا أن ماركيز رفض مرارا وتكرارا لأن تتحول الرواية إلى فيلم لكي لا يكون لها مرجع يحضر في ذهن القارئ . ولكي تبقى قرية ماكندو القرية الأضخم من الحياة، والأكبر ما تستطيع أن تكونه أي قرية حقيقية.
استخدم ماركيز قرية ماكندو استخداما جمالي فنيا؛ أي أنها تحولت إلى قرية جمالية. امتصها الفن، واستقرت في تقاليده؛ أي أن هناك سببا لاستخدامها. أهناك ما تطابقه ماكندو؟ ما تمثله أو تشبهه في حياتنا؟ لا مجال لأسئلة كهذه تنتمي إلى الكتابة وعلاقتها بالواقع. أنا معنى هنا بأن ماكندو من دون مرجع لها في الحياة، لذلك لا أستطيع أن أقول: إنها واقعية أو غير واقعية؛ لأن لدينا كلمتين بديلتين هما: الوهم وتعني لا واقعي، والخيال وتعني الإبداع. قرية ماكندو مكان في كتاب هو مائة عام من العزلة. وكذلك الجنة في كتاب هو القرآن. لكن يبدو أننا نخسر ولا نكسب، فلا نستطيع أن نقول عن الجنة أنها الخيال الذي يعني الإبداع كما هي ماكندو.
9
في مقابل كالفينو وماركيز وماريا فالله هو القاص الأول، وما يقصه هو أحسن القصص، ولا يقارن مع غيره . قصّه صادق من الوجهة التاريخية، وقصصه تخضع القارئ أو السامع، وتجسد تعاليمَ أو نواهٍ ووعدا أو وعيدا أو عبرة واتعاظا. لم تُسرد قصصُ القرآن الكريم لكي تعجب القارئ أو السامع، إنما سُردت لكي تخضعه. يقرأ القارئ، أو يستمع السامع إلى القصص القرآني وهما مضطران إلى أن يصرفا انتباههما عن القصة المسرودة ليتجها إلى العبرة منها.
ترتّب على هذا أن كسر القرآن الكريم القانون الأساسي للتعامل مع القصص؛ أي أن يعرف القارئ أو السامع أن ما يُسرد ليس سوى قصص متخيلة؛ لذلك لا يتظاهر قصص القرآن الكريم بأنه حدث، إنما يؤكد حدوثه من الوجهة التاريخية. نحن هنا نخسر إجابة ولا نكسبها. وهذا يدعم ما سبق أن قلنا عن جدوى السؤال عن الجنة. ومع ذلك لن يبرد عزمنا عن البحث في : ما الجنة؟ وسيكون من الضروري أن ماذا نريد أن نعرف بالتحديد. إذن سنسأل من جديد : ما الجنة؟
10
إذن حين نسأل: ما الجنة؟ يبدو أننا لا نريد أن نعرف المكان الذي لا يوجد في الواقع. لا نريد أن نعرف كيف تختلف الجنّة عن مكان لا مرجع له في الواقع كقرية ماكندو أو ناتو سالين أو مدن إيتالو كالفينو المخفيّة. هكذا نحن نقفز بسؤالنا عن الجنة فوق هاتين القريتين وفوق مدن الخيال إلى ما يجعل من الجنّة جنّة؛ أي أن نسأل عن ذلك الذي يوجد في الجنة لكي تكون جنة.
لنقرأ ” في الجنة لا يقال ألف ألْف سنة، بل ولو أن الإنسان عد ألوف السنين لا ينقضي عدده وكان له نهاية فبقاء الآخرة لا نفاذ له ( ابن الجوزي، صيد الخاطر، 1994، ص 308 ) . يتعلق الزمن بزمن الجنة. إزاء زمن الجنة تهجر الكلمة( زمن ) معناها الذي نعرفه في الحياة الدنيا. لا يغدو الزمن الدنيوي معروفا. والتركيب ( زمن الجنة ) تركيب إضافي من دون أن يكون له معنى. يحضر التركيب بصريا. يمكن أن نكتبه أو أن ننطقه، لكن في خبرتنا المباشرة لا يوجد مكان يستوعبه.
لنقرأ لمرة أخرى ” آدم خلق في آخر ساعة من اليوم السادس من الأيام التي مقدار اليوم الواحد منها ألف سنة من سنيننا، ثم نفخ فيه الروح، فكان مكثه في السماء بعد ذلك ومقامه في الجنة إلى أن أصاب الخطيئة وأهبط إلى الأرض ثلاثا وأربعين سنة من سنيننا، وأربعة أشهر ( الطبري، تاريخ الأمم والملوك، جـ1/119 ) . كيف توصل الطبري إلى هذا التحديد الزمني الدقيق؟ تحرّر أولا من شبكتنا اللغوية المتعلقة بالزمن، فاليوم هناك ليس هو اليوم الذي نعرفه هنا، وكذلك السنة؛ أي أنه تحرر من الأصول لغتنا الاشتقاقية. ثم تحرر من مقاييسنا الزمنية. في الوقت الذي أوهمنا فيه الطبري بأنه تحرر من لغتنا وقوانيننا التي تنظم زمننا، إلا أنه اعتمدها مقياسا. مأزق تحديد الطبري أنه طبق مقاييس بشرية على زمن غير خاضع لقوانين البشر. وقد نتج المأزق عن التفكير الديني لذي يعتمد القياس من حيث هو رد اللامتناهي إلى المتناهي.
نحن نريد أن نعرف ما لا يريد ابن الجوزي والطبري معرفته. وفوق ذلك ما لم يخطر على بالهما أن يعرفاه. لا نشك في أنهما عالمان كبيران، وشكنا الذي وجهناه إليهما مبني على أنهما يعاملان اللامتناهي بالمتناهي. صحيح أن الآيتين ” إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ( الحج، 37 ) . والآية ” ثم يعرج إليه في يوم مقداره ألف سنة مما تعدون ( السجدة، 5 ) . تهزان كل عادات زمننا، وتزعزعان كل الخطط التي كرسناها لتنظيمه. تصبح الثواني والدقائق والساعات والأيام والأسابيع والشهور والأعوام والعقود والقرون لا فائدة منها. عمل لكن لا تضبط الوقت. لكننا نسأل هل الزمن الأبدي هو مقياس معرفة الجنة؟ أم أن هناك مقياسا وربما مقاييس أخرى؟ إن ما نطمح إليه هو معرفة الجنة أكثر من معرفة زمنها اللانهائي. لنسأل إذن ومن جديد : ما الجنة؟
11
لنقرأ “سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ( سورة الحديد، آية، 21 ) . تبدو الجنة هنا شكلا هندسيا ضخما يدفعنا إلى أن نسأل عن القوانين التي يخضع لها هذا الشكل. لا أحد منا يعرف؛ لأنه شكل مرتبط بما لا يوجد في عالمنا مما يستلزم منا قفزة في التفكير.
هنا عالمنا الذي نعرفه ( عرض الأرض والسماء ). صُعّد هذا الواقع إلى ما يجب أن نفكر فيه لكي نفهم ( الطول أطول من العرض ). الجنة! إذا عرضها كعرض عالمنا فما بالك بطولها! بهذا نقفز بالتفكير لكي نصل إلى حقيقة جنة الآخرة. لابد من أن يطول تفكيرنا لكي يستعيد وعينا وجود الجنة. وعينا الذي ألف كلمة ( جنة ) ؛ الألفة التي قادتنا إلى أن تكون كلمة عادية. إن إحدى وظائف الآية هي أن تزحزح الواقع الدنيوي إذا ما تعلق الأمر بجنة الآخرة.
لنقرأ ” في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (الحديث في مسند أحمد عن أبي هريرة ) . لا بد من قفزة في التفكير. يحتل العيان ( مالا عين رأت ) الصدارة لأن العيان مكفول بتجربة المعاين. إذا استحال العيان يكون الخبر ( ما لا أذن سمعت ) وإذا استحال الخبر يكون الخيال ( لا خطر على قلب بشر ). العيان والخبر والخيال مصادر الحقيقة في عالمنا، لكنها لا تشكل مصدرا لحقيقة الجنة؛ فلا العيان ولا الخبر ولا الخيال يمكن أن توصلك إلى حقيقة الجنة؛ لأنها لا تتطابق مع كل ما رأيناه أو سمعنا به أو تخيلناه في الدنيا.
12
إذن لا زمان الجنة زمن الدنيا، ولا مكانها مكان الدنيا. لذلك فأن نتلفظ بكلمة الجنة فنحن لا نلفظ سوى كلمة لا تمثل شيئا. لا يقابلها زمان ( الآن ) ولا مكان ( هنا ) ولا جسم (هذا). ليست واقعية، وهناك ما هو أكثر لكي تغرق في لا واقعيتها . لنقرأ ” والله إني لأتخايل دخول الجنة ودوام الإقامة فيها من غير مرض ولا بصاق ولا نوم ولا آفة تطرأ؛ بل صحة دائمة، وأغراض متصلة لا يعتورها مغص. في نعيم متجدد في كل لحظة إلى زيادة لا تتناهى فأطيش، ويكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الشرع قد ضمنه ( ابن الجوزي، صيد الخاطر، المكتبة العصرية، 2010، ص 248).
13
لا تدخل الجنة. إن أردت فعليك أن تتخيل أنك تدخل الجنة. هناك حيث لا وجود لتفصيل من تفاصيل حياتك التافهة كالبصاق. تفصيل صغير وتافه لكنه يجعلك تشك في أن تكون في مكان لا تبصق فيه. تشك في ان يوجد مكان كهذا؛ لولا أن هناك دليل هو الشرع، وضمان هو الوحي.
لا تُعرف الجنة بالعقل؛ ذلك أن ليس من المعقول أن يكون هناك مكان لا يبصق فيه البشر. لأنك لا تبصق في الجنة فهي تنتمي إلى ما فوق العقل. يهون كل ما يكون هناك ؛ ألا تنام، ألا تمرض؛ أن تكون خالدا. لكن ألا تبصق فذلك هو ما يجعلك ” تطيش ” . ما الذي يمكن أن نخرج به من هذا؟ أن كل الحجج العقلية تتلاشى أمام اقتناع هؤلاء بالجنة، فهم مستعدون لأن يضحوا بكل شيء بما في ذلك وجودهم؛ ذلك أن غريزة بقائهم لم تعد ذات أهمية أمام أن هناك مستقبلا أبديا هو مكافأتهم الوحيدة؛ أعني الجنة.