أدت سيرورة العولمة إلى الكثير من التغيرات والانزياحات الواسعة والعميقة في مفهوم السياسية اليوم، سواء أطلقنا عليها "السياسة الدولية"، أو "العلاقات الدولية"، أو "السياسة العالمية"؛ علماً بأن هذا الجدل حول مفهوم السياسة العالمية قد أخذ عمقه الابستيمولوجي الحديث منذ أن تم تأسيس أول فرع أكاديمي منفصل تحت اسم "السياسة الدولية" عام 1919م في جامعة أبيريستوث / ويلز على يد ديفيد ديفيس، والذي كان يعتقد بأن هدفه "أن يكون عاملا ً مساهماً في منع نشوب الحروب في أوروبا والعالم". ([1]) وفي قلب هذه التغيرات والانزياحات، يتموضع جل المناظرات المعاصرة حول مفاهيم: النظام الدولي والمجتمع الدولي، والمجتمع العالمي؛ والتي يبدو التمييز بينها صعباً جدّاً حتى على المتخصصين في العلوم السياسية والفلسفة السياسية.
الثابت في أمر السياسية العالمية المعاصرة اليوم، هو حجم وعمق وسعة التغير المترافق مع الميوعة المفاهيمية، وإصرار عجيب من منظري المقاربات الكبرى المتضاربة (الواقعية، الليبرالية، النظام العالمي الحديث، والمدارس النقدية) على التمسك بالنصوص التأصيلية لها وإنكار ضخامة التغيرات التي حصلت في العالم اليوم.
لقد بعثرت سيرورة العولمة "النظام" و"العالم" الذي كنا نعرفه - أو ندعي أننا نعرفه – إلى الأبد؛ فليس هناك مفهوم سياسي الآن، يعبر بنفسه عن ذات المعنى الذي وجد معبراً عنه قبل عقد من الزمان؛ كل شيء يتغير ويتبدل ويتموضع وبتسارع مدهش يفوق قدرتنا على المتابعة والتحليل.
وفي هذا المجال؛ طرح المنظر السياسي الأمريكي / ريتشارد هاس - رئيس مجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة الأمريكية- (وهو بالمناسبة جمهوري ومن أهم منظري مقاربة "أن على أمريكا أن تكون الشرطي الدولي" في السياسة الدولية، ومن أنشط الدبلوماسيين الأمريكان في مجال التنظير والتأليف) قائمة بالمصطلحات والمفاهيم التي لم يعد استخدامها ملائمًا في تنظير وخطاب وممارسات العلاقات الدولية في مقاله المنشور بمجلة "الفورين بوليسي " الأمريكية في 3 فبراير/ شباط 2017، وكان على رأسها مفهوم "المجتمع الدولي" على اعتبار أنه أصبح تقليداً فاقداً للمعنى يتموضع في عملية استخدام مفاهيم غامضة في وصف التفاعلات الدولية. ([2]) وفي كتاب جديد له- رسم هاس صورة كئيبة لما أسماه "النظام العالمي"، واصفا ً إياه بأنه قد بلغ مرحلة الانحلال، داعياً إلى استبداله بنظام جديد يحدّث المبادئ التقليدية المتمثلة في سيادة الدول والقوة العظمى، وركز على مفهوم جديد هو "الالتزامات السيادية".
وتضمن الكتاب الصادر (في 10 كانون ثاني 2017م ) باللغة الإنجليزية بعنوان "عالم تكتنفه الفوضى: السياسة الأمريكية الخارجية وأزمة النظام القديم"، والذي نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية عرضاً موجزاً له، أن النظام الذي تقوده أمريكا، ويقوم على التحالفات قد أصبح غير مستقر بسبب انتقال القوة بعيدا عن الغرب، وانتشار المخاطر الانتقالية، وترنح النظم الإقليمية في أوروبا والشرق الأوسط وشرق آسيا. ([3]) وفي هذا الكتاب، كشف هاس أزمة أعمق، وهي: انهيار "نظام وستفاليا" الذي دام أربعة قرون، والذي تأسس على مفهوم الدولة المستقلة ذات السيادة، مشيرة إلى أن "النظام العالمي" منذ القرن السابع عشر استقر على وجود الدول، والقوى العظمى، وتوازن القوة. ويلفت هاس إلى القوة الجارفة لسيرورة العولمة، ويتحدث عن ماركة وعلامة جديدة لسيرورة العولمة، فيقول: "لكن في عالم تسوده العولمة، فاٍن النظام العالمي المبني فقط على أساس احترام السيادة – الذي يطلق عليه النظام العالمي 1.0 – أصبح غير كافٍ على نحو متزايد.
لم يعد هناك شيء محلي، ويستطيع أي شخص وأي شيء، من السياح والإرهابيين واللاجئين إلى رسائل البريد الإلكتروني، والأمراض، والدولارات، والغازات المسببة للاحتباس الحراري، الوصول إلى أي مكان. والنتيجة هي أن كل ما يجري داخل البلاد لن يكون الشغل الشاغل لهذا البلد وحده. وتدعو حقائق اليوم إلى نظام حديث – النظام العالمي 2.0 – مبني على التزام السيادية، القائم على فكرة أن الدول ذات السيادة لا تتمتع بالحقوق فقط، ولكن أيضا بالتزامات تجاه الآخرين.
وسيتطلب هذا النظام الدولي الجديد أيضا، مجموعة موسعة من القواعد والترتيبات، بدءاً بأساس متفق عليه من أجل نظام الدولة. إن الحكومات القائمة ستوافق على النظر في عروض الاستقلال فقط، عند وجود مبرر تاريخي ومنطقي، ودعم شعبي، وحيث يكون الكيان الجديد المقترح حيويا
يجب أن يشمل (النظام العالمي 2.0) أيضا الحظر على تنفيذ أو دعم الإرهاب بأي شكل من الأشكال؛ والأكثر إثارة للجدل هو أنه يجب أن يشمل المعايير المدعومة التي تحرم انتشار أو استخدام أسلحة الدمار الشامل. كما هو عليه، في حين يميل العالم إلى الاتفاق على تقييد الانتشار عن طريق الحد من حصول البلدان النامية على التكنولوجيا والمواد ذات الصلة، نجد أن غالبا ما يتفكك الإجماع كلما ظهر انتشار الأسلحة النووية. ينبغي أن يصبح هذا موضوعاً للمناقشة في الاجتماعات الثنائية والمتعددة الأطراف، ليس لأنه سيؤدي إلى اتفاق رسمي، ولكن لأنه سيركز الانتباه على تطبيق عقوبات صارمة أو القيام بعمل عسكري، والذي سيتمكن بعد ذلك من تقليل احتمالات انتشار الأسلحة النووية.
عنصر أساسي آخر لنظام دولي جديد هو التعاون بشأن تغير المناخ، والذي قد يكون المظهر الأساسي للعولمة؛ لأن جميع البلدان معرضة لآثاره، بغض النظر عن مساهمتها في ذلك. وشكل اتفاق المناخ في باريس عام 2015 – حيث وافقت الحكومات على الحد من انبعاثاتها وتوفير الموارد اللازمة لمساعدة الدول الفقيرة على التكيف – خطوة في الاتجاه الصحيح. كما يجب أن يستمر التقدم في هذا المسار.
ويضيف هاس أنّ الفضاء الإلكتروني، الذي يتميز بالتعاون والصراع، هو أحدث مجال للنشاط الدولي. ينبغي أن يكون الهدف في هذا المجال هو خلق ترتيبات دولية لتشجيع الاستخدامات الحميدة للفضاء الإلكتروني وتثبيط الاستخدامات الخبيثة. وعلى الحكومات أن تعمل باستمرار داخل هذا النظام كجزء من التزاماتها السيادية – أو مواجهة العقوبات وردود الفعل العنيفة.
كذلك؛ تشكل الصحة العالمية مجموعة مختلفة من التحديات. في عالم تسوده العولمة، يمكن لتفشي الأمراض المعدية في بلد واحد انتشارها بسرعة وتُصبح تهديداً خطيراً على الصحة في أماكن أخرى، كما حدث في السنوات الأخيرة مع السارس، والإيبولا، وزيكا. لحسن الحظ، فقد تقدم مفهوم الالتزام السيادي بالفعل في هذا المجال: الدول مسؤولة عن كشف حالات تفشي الأمراض المعدية، والاستجابة بشكل مناسب، وإنذار الآخرين في جميع أنحاء العالم
وبخصوص اللاجئين، يدّعي هاس أنه ليس هناك بديل للعمل المحلي الفعال الذي يهدف إلى منع الحالات التي تولد تدفقات كبيرة من اللاجئين في المقام الأول. من حيث المبدأ، هذه حجة للتدخل الإنساني في الحالات الانتقائية. لكن سيظل تنفيذ هذا المبدأ صعبا للغاية، نظراً لأجندات سياسية متباينة وارتفاع تكاليف التدخل الفعال؛ حتى بدون وجود توافق في الآراء، هناك حجة قوية لزيادة التمويل للاجئين، وضمان معاملتهم الإنسانية، وتحديد حصص عادلة لإعادة توطينهم.
أما بخصوص العولمة الاقتصادية، فإن هاس يقول إن "الاتفاقيات التجارية هي، بالتحديد، عبارة عن التزامات سيادية متبادلة بشأن الحواجز الجمركية وغير الجمركية. عندما يعتقد طرف أنه لم يتم الوفاء بالالتزامات، فإنه يلجأ إلى التحكيم لدى منظمة التجارة العالمية. لكن تصير الأمور أقل وضوحاً، عندما يتعلق الأمر بالإعانات الحكومية أو التلاعب في العملة. وبالتالي، يتمثل التحدي في تحديد التزامات سيادية مناسبة في هذه المناطق في اتفاقيات التجارة المستقبلية، وخلق آليات لمساءلة الحكومات".
إن ترسيخ مفهوم الالتزامات السيادية، باعتبارها ركيزة النظام الدولي سوف يستغرق عقوداً من المشاورات والمفاوضات – وحتى آنذاك- ، سيكون قبوله وتأثيره متفاوتان. وسيكون التقدم طوعا، من البلدان نفسها، وليس مفروضاً من فوق. واقعيا، سيكون من الصعب التوصل إلى اتفاق بشأن التزامات الدول السيادية المحددة، وكيف يجب تطبيقه.
ويؤكد هاس أنّ العولمة وُجدت لتبقى. التحرك نحو نظام دولي جديد يضمن الالتزام بالسيادة هو أفضل وسيلة لمواجهة الموقف. النظام العالمي 2.0 المبني على التزام سيادي هو بالتأكيد مشروع طموح – لكن يجب أن يكون مبنيا على النظرية "الواقعية، وليس على النظرية "المثالية"([4]) ؟! مشكلة مقاربة هاس أعلاه وحديثه حول نقد مفهوم المجتمع الدولي؛ هي أنه ظل يريد معالجة السياسة العالمية وتأثيرات وتجليات العولمة (الإرهاب العالمي ، اللاجئين ، التجارة الدولية، المناخ والاحتباس الحراري، وثورة التكنولوجيا) بأدوات بالية للنظرية الواقعية من خلال طرحه لمفهوم رخو وملتبس، مثل "الالتزامات السيادية" التي يفترض أن تكون بين أطراف فاعلة من الدول فقط ، ما يعني أن هاس، وهو يتحدث عن العولمة التي تعني تخطي الحدود القومية ظل أسيرا لمفهوم "النظام الدولي " أو "المجتمع الدولي"، وهو مجتمع عامر بالدول فقط؛ أي لفضاء الدولة وحدودها القومية فقط .
ومن المعروف في حقل وأدبيات العلاقات الدولية، أن مفهوم المجتمع الدولي أو "النظام الدولي" الذي انتقده هاس يعد من أساسيات مقاربات "المدرسة الإنجليزية"، وعلى رأسها منظرها الشهير / هيدلي بول.
وتُعرف هذه المدرسة الكلاسيكية النظام الدولي بأنه "عندما يكون هناك ترابط بين دولتين ويكون هناك تأثير كاف في قرارات بعضهما البعض يدفعهما للسلوك والتصرف - على الأقل في بعض المقاييس- كأجزاء من مجموع".
ولعل من أهم إسهامات هذه المدرسة وهيدلي پول شخصيا ً مقاربتها أن "النظام" يمكن أن يوجد في ثلاثة مستويات مختلفة، وهي: النظام الدولي، والمجتمع الدولي، والمجتمع العالمي
ولقد كان التميز والفرق بين معنى هذه المفاهيم أهم مجالات النقد للمدرسة الإنجليزية نظراً للتشويش واللبس الذي يتركه المفهوم للمتابع العادي وحتى للمتخصصين في العلاقات الدولية ولذلك، فإن أحدث المقاربات في فهم هذا النظام تحاجج كما تدعي البرفسورة (رينيه فلوكهارت) بأنه نظام متعدد الأنظمة([5]). وضمن هذا السياق الواسع من المراجعات؛ يقول المنظر البرازيلي في العلاقات الدولية وليفر ستونكل في كتابه الجديد (عالم ما بعد العالم الغربي: كيف تقوم القوى الصاعدة بتشكيل النظام العالمي2017م )؟ أن الحديث يدور الآن حول انزياحات وتغيرات واسعة وعميقة جداً في العالم، ويثار السؤال لدى الأوساط الفكرية الغربية والأمريكية حول شكل النظام القادم .
وقد قام المنظر والفيلسوف جون اكنبيري باستعراض لهذا الكتاب في مجلة الفورين أفيريز الأمريكية عدد شباط – آذار -20177؛ وفي هذا الكتاب يحطم ستونكل الأسطورة الغربية والمركزية الغربية التي يحملها حول ريادة العالم الغربي، وتفوق حضارته الغربية ويحاجج بأن مفاهيم مثل الحريات الدينية وحقوق الإنسان والسيادة ليست من اختراع الغرب، بل هي مفاهيم ساهمت بها ثقافات أخرى في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. وأن الحداثة ليست هدية من الغرب، بل هي مشروع عالمي بمصادر متنوعة من الإلهام.. وإذا فهمت الحداثة بهذا الشكل، فإن الصراع بين الغرب وبقية العالم سيظهر على حقيقته وكما هو؛ بمعنى آخر إنه ليس صراعا بين القيم العميقة والفلسفية "للنظام الدولي"، بل على العكس هي تطور عضوي للسياسة العالمية من حيث إن : القوة ، والسلطة ، والدولة ، والامتيازات كلها يعاد توزيعها، لتجعل من النظام الموجود حاليا أكثر عدلاً وفعالية ([6]). أعتقد أن "النظام" سواء أطلقنا عليه العالمي، أم الدولي أو متعدد الأنظمة، أو غيره من المسميات قد تغير وإلى الأبد، وتاريخياً هو يلفظ أنفاسه الطويلة الأخيرة.
مرة أخرى؛ أعتقد أن سيرورة العولمة عملت على تفتيت وإزاحات عميقة في صلب هذا المفاهيم المتمحورة حول وجود الدولة الحصري كطرف فاعل وحيد ورئيس في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. هناك إزاحات تكتونّية عميقة لبنى وأطراف فاعلة فوق الدولة، وما دون الدولة، تعيد تشكيل النظام اليوم بإصرار وعنف أحيانا ً كما هو لدى الجماعات الإرهابية .
وسواء وافقنا على حديث ( ريتشارد هاس، أو رينيه فلوكهارت ، أم أوليفر ستونكل) أم لا، فإن السياسة العالمية وشكل النظام؛ هذا -إن كان له شكل أصلاً- قد تغيّر.
مرة أخرى؛ أعتقد أن سيرورة العولمة عملت على تفتيت وإزاحات عميقة في صلب هذا المفاهيم المتمحورة حول وجود الدولة الحصري، كطرف فاعل وحيد ورئيس في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.
هناك عالم آخر يتشكل بتسارع حولنا؛ عالم مختلف، من / (ومع) عوالم أخرى تكتشف كل يوم. وفي هذا المجال، ذكر المسؤول في إدارة البعثات العلمية في وكالة الطيران والفضاء الأمريكية (ناسا) توماس زورباشين في فبراير/ شباط 2017م؛ إن ناسا اكتشفت (7) كواكب جديدة تشبه الأرض، ويمكن أن تكون صالحة للحياة البشرية، وأن هذا الاكتشاف يأتي في إطار البحث عن وجود كواكب - يمكن أن- تصلح للحياة . ([7]) وبعد؛ هل لنا أن نتخيل كيف سيكون شكل نظامنا كبشر على هذا الكوكب بعد قرنٍ من الزمان مثلاً ؟
الأحد أبريل 09, 2017 4:07 pm من طرف هند