شكلت الأدوار الدينية للنساء في الأديان التوحيدية محطة بارزة في مجالها التاريخي، لاسيما إذا طُبعت بنشاط تأويلي يسعى للخروج على الأنساق البطريركية العامة، المتحكمة بالنصوص المقدسة. تنظر المنظومات الأبوية إلى الحراك النسوي الديني في مساره المتشكل، فعلاً وإدراكاً، نظرة اقصائية، فتعمل على عزله أو السكوت عنه، إذا ما تجاوزت حركيته القواعد العامة الضابطة لإيقاع التفسيرات السائدة، خصوصاً في الإسلام، الذي عرف وشهد وعياً أنثوياً فاعلاً. لقد أوْلت الدراسات النسوية شرقاً وغرباً، في العقود الأخيرة، اهتماماً بارزاً في دراسة مواقع النساء في أبواب المعرفة الدينية، فصدرت كتب هامة كشفت عن ثقافة التهميش التي مارسها “العقل الأبوي” إزاء الإشعاع الأنثوي في تاريخ الأديان.
برزت في الغرب اتجاهات في نقد النصوص المسيحية واليهودية عبر التأسيس لما يعرف بـ “اللاهوت النسوي” (La théologie féministe)، ومن أشهر أعلامه اللاهوتية النسوية الألمانية “إليزابيت شوسلر فيورينزا” (Elisabeth SchüsslerFiorenza) التي حاولت من خلال تطبيق ماتسميه “هرمنيوطيقا الشك”، رصد عملية الرقابة والتنقيح التي كثيراً ما تُستغل للحفاظ على التقاليد الذكورية في المسيحية، فتشكك في كل أشكال التفسير التي تُهمِش المرأة أو اهتماماتها. وأدى تطور الدراسات النسوية الغربية إلى تبلور مصطلح لاهوتي، أُطلق عليه “ثيالوجي” (Thealogy) (وهو تحريف مقصود للفظ (Theology)وهذا المصطلح نحتته الباحثة الكندية نعومي غولدنبرج (Naomi Goldenberg) في كتابها (Changing of The Gods: Feminism and the End of Traditional Religions) (1980) ) بغية لفت الانتباه إلى غياب الأنثى عن اللاهوت المسيحي واليهودي في الغرب والربط بين الذكورة والألوهية. (راجع: سارة، جامبل، النسوية وما بعد النسوية، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، الطبعة الأولى، 2000، ص 274).
لم تبتعد النسويات في العالمين العربي والإسلامي عن استنهاض الذاكرات التي تُغيِّب الظهور النسوي في المجال الديني، فنُشرت مؤلفات ودراسات كثيرة، وعُقدت مؤتمرات، فعملت على إعادة إحيائه، واهتمت بشكل ملحوظ بالشخصيات النسائية المنسية في الإسلام والمذاهب والفرق الناشئة عنه.
الطَّاهرة: النَّشأة والنُّبوغ والدَّعوة
تُعد زرّين تاج أو قرَّة العين الملقبة بـــ “الطاهرة” (هو اللقب الذي أطلقه عليها بهاء الله عليها) من الشخصيات النسائية الاستثنائية. اعتنقت الدعوة البابية ودعت في ما بين إيران والعراق إلى نسخ الشريعة الإسلامية، وتبديل تعاليمها، وهجرت زوجها. وفي مؤتمر البابيّين الذي عُقد عام 1848، فاجأت المجتمعين وهي تدخل عليهم سافرة متزينة، وكان هذا على خلاف عادتها، إذ كانت قبلئذٍ متمسكة بالحجاب الشديد على طريقة النساء في زمانها، وكأنها أرادت بعملها هذا أن تنسخ حكماً من أحكام الشريعة هو تحريم التبرج الذي نزل به القرآن.(انظر: بن سلامة، رجاء: نقد الثوابت آراء في العنف والتمييز والمصادرة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص، 34-35؛ انظر أيضاً: الوردي،علي: هكذا قتلوا قرَّة العين، منشورات الجمل، بيروت، الطبعة الثانية، 1997، ص 45). فمن هي قرَّة العين التي ينظر إليها كرمزٍ من رموز الحداثة الدينية؟
“تتحدر قرَّة العين من بلدة قزوين، بشمال إيران، ومن أسرة دينية ذات جاه، فوالدها هو المجتهد محمد صالح القزويني، وعمها ووالد زوجها، المجتهد محمد تقي القزويني، كبير علماء قزوين. وصفها أخوها قائلاً: “إننا جميعاً من إخوة وأولاد عمّ، ما كنا نقدر أن نتكلم في حضرتها، لأن علمها كان يرعبنا، وإذا تصادف وتكلمنا عن مسألة، فإنها كانت تتكلم عنها بكل وضوح وإتقان على البداهة، حتى نعلم أننا أخطأنا السبيل، ونتركها ونحن متحيرون”. وإلى جانب ذلك كانت فاتنة”. (راجع: الخيّون، رشيد، الأديان والمذاهب بالعراق، ماضيها وحاضرها، الموسوعة الكاملة، الجزء الأول، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي، الطبعة الأولى، 2016، ص 578-579).
في كتابه “هكذا قتلوا قرَّة العين” يشير عالم الاجتماع العراقي علي الوردي إلى أن “زرين تاج (اسم فارسي ويعني التاج الذهبي) المولدة عام 1814، تميزت بجمالها الفتان وذكائها المفرط، وقد بدأ نبوغها بالظهور منذ صباها الباكر. قيل أنها كانت تحضر دروس أبيها وعمها التي كانا يلقيانها على الطلبة، فكان يوضع لها ستار لتستمع إلى الدروس من ورائه، وسرعان ما أخذت تشارك في المجادلات الكلامية والفقهية، التي تُثار بين رجال أسرتها، وكثيراً ما كان أبوها يظهر أسفه قائلاً: “لو كانت ولداً لكان أضاء بيتي وخلفتني” (…) كان أهل قزوين في ذلك الحين كأهل كربلاء منقسمين إلى فريقين متنازعين: “بشت سري” و “بالا سري” أي شيخيين وخصوم الشيخيين. وكان هذا الانقسام قد سرى إلى بيت قرَّة العين، فكان عمها الكبير الملا محمد تقي من خصوم الشيخيين بينما كان عمها الآخر الملا علي من الشيخيين. وقد نشأت قرَّة العين في هذا الجو الفكري المفعم بالجدل، ولا شك أنها استطاعت أن تستوعب بذكائها الشيء الكثير من ذلك الجدل وتنتفع به (…) “زفت إلى ابن عمها الملا محمد بن الملا محمد التقي” وسافرا إلى العراق لطلب العلم (…) “ومكثا في كربلاء ثلاث عشرة سنة تقريباً رزقا بها بولدين هما إبراهيم وإسماعيل، والظاهر أن حياتهما في كربلاء لم تخلُ من خصام ومناقرة، فهي أخذت تميل إلى السيد كاظم الرشتي الذي كان يرأس الشيخيين يومذاك، بينما كان زوجها يميل إلى “البالاسري” (…) أصدر والد زوجها فتوى أعلن فيها تكفير الشيخيين بينما هي ازدادت من جانبها ولعاً بالعقائد الشيخية وتعلقاً بالسيد كاظم الرشتي. وسارعت قرَّة العين تكاتب الرشتي تستفسر منه عن بعض المعاني الغامضة في كتاباته، ثم قررت أخيراً أن تترك زوجها وأولادها وتهاجر إلى كربلاء لتكون قريبة من الرشتي وتنضم إلى حوزته العلمية. وفي عام 1843 سافرت قرَّة العين إلى كربلاء، وكانت حينئذٍ في التاسعة والعشرين من عمرها وفي قمة نضوجها، وحين وصلت إلى كربلاء فوجئت بأن الرشتي الذي أتت من أجله كان قد توفى قبل أيام قليلة، فأصيبت بخيبة أمل وشاركت في مأتمه” (الوردي،علي: هكذا قتلوا قرَّة العين، مرجع سابق، ص 6-7-8).
أسست البابية والبهائية –كما يلفت الباحث العراقي رشيد الخيون في موسوعته “الأديان والمذاهب بالعراق”- “على يد مسلمين في الأصل. ظهرت بإيران كانشقاق عن الإحسائية الشيخية، على اعتبار أن الباب كان تلميذاً للسيد كاظم الرشتي أو كريم خان، وهما قطبا الشيخية أو الإحسائية. ويشار إليها على أنها الحركة الأبرز في الشرق خلال القرن التاسع عشر التي استوعبت المتغيرات الجديدة (…) قاد الإيمان بالتطور البابية والبهائية إلى الوقوف بجدية أمام الشرائع الدينية؛ وقررت بعد صراع مرير بين أقطابها نسخ عدد من نصوص الشريعة الإسلامية. فأقرت النسخ الجزئي في المعاملات، كالموقف من النساء. ثم قادها التطور إلى نسخ العبادات. إن روح العصر، حسب تصورها، تتعارض مع أوقات الصلاة والصوم والحج الزمنية. جعلت، بشكل عام الدين، عبادات فقط بعد اعتبار المعاملات شأناً اجتماعياً يتعلق بوصايا دينية”. (الخيّون، رشيد، الأديان والمذاهب بالعراق، مرجع، سابق، ص 546-547).
قرَّة العين واعتناق البابية
حين اعتنقت قرَّة العين الدعوة البابية كانت كغيرها من أتباع الدعوة تلتزم التقية، ولكنه أخذت تنشط في الاتصال بالناس لتمهيد الأذهان نحو قبول الدعوة الجديدة. يشير الوردي إلى “أنها كانت في تلك المرحلة من حياتها تلقي الدروس الدينية في منزلها ويجتمع إليها عدد كبير من الطلبة والمستمعين، فكانت تجلس في غرفة صغيرة وراء باب عليه ستار، ويجتمع الطلبة والمستمعون في غرفة أخرى واسعة، وهي تتحدث إليهم من وراء ستار”. كانت قرَّة العين من الأركان الأساسية في حركة الباب الشيرازي، فمنذ تعرفها على فكر الشيخ أحمد الإحسائي مصادفة في قزوين في بيت أقربائها، اتضح أمامها الطريق الذي ستسلكه لخوض حياة قدر لها أن تكون الأعقد والأكثر جرأة وخطورة بالنسبة لامرأة عاشت حياة دينية واجتماعية صارمة في القرن التاسع عشر، امرأة خرجت من الحاضنة الشيعية الإيرانية للخلاص المهدوي. (راجع: بكاء الطاهرة، رسائل قرَّة العين، مجموعة من المؤلفين، دار المدى للثقافة والنشر، سوريا، الطبعة الأولى، 2008، ص 8).
السُّفور ونسخ الشَّريعة: رمزيَّة الأنثى المتألهة
انتقلت قرَّة العين بعد كربلاء إلى الكاظمية ومن ثم إلى بغداد جراء السجال الدائر والانتقادات التي وجهت إليها من بعض أتباع البابية. “وكانت قد صرحت للملا أحمد الخراساني تلميذ السيد كاظم الرشتي، “بأنها تريد رفع التقية، والدعوة جهراً لمقام الباب، وقد عارضها الخراساني في قرارها هذا، وظل متمسكاً بمبدأ التقية، وعزل النساء عن الرجال في المجالس والاجتماعات. إلاّ أنها أصرت على الاستمرار بإباحة الاختلاط في مجالسها ومناظراتها”. غادرت العراق إلى إيران “مع وفد كبير من أتباعها (…) وخلال رحلتها كانت تدعو إلى الباب في كل مدينة تمر بها، حتى قيل إن حبرين من يهود همدان الإيرانية تأثرا بدعوتها، بعد أن عرضت عليهما آيات من التوراة، فيها إشارة رمزية لظهور الموعود (…) وصلت قرَّة العين إلى طهران سراً في حين كان الباب [علي محمد الشيرازي] مسجوناً في قلعة (ماكو بتبريز)، ومهدداً بالموت في أي لحظة، ولغرض إنقاذه عقدت البابية مؤتمراً سرياً العام 1848، بقرية بدشت بإيران، وكانت محاور المؤتمر نقطتين، هما: إنقاذ الباب من اعتقاله، والثانية مسألة النسخ، وهل للفروع الإسلامية تبديل؟”. لم يجد المؤتمرون وسيلة ناجحة تنقذ الباب من حكم الموت؛ لذا تركز اهتمامهم في نسخ الشريعة. وانقسم المؤتمر إزاء ذلك إلى جماعتين متضادتين، تزعمت قرَّة العين الجماعة المؤيدة للنسخ، فأصرت على وجوب إتباع الباب، وإشعارهم بأن للقائم (الباب) مقام المشرع حق التشريع. ووسط اتهامات المعارضين، واستفزازاتهم، أعلنت قرَّة العين تجدد النبوة ونسخ الشريعة الإسلامية، بما يخص معاملة النساء، فأسفر ذلك الإعلان الخطير عن إلغاء تعدد الزوجات والحجاب، ومساواة النساء بالرجال في الميراث، كما طال النسخ بعض العبادات” (راجع: الخيّون، رشيد، الأديان والمذاهب بالعراق، الجزء الأول، مرجع سابق، ص 585-586). يخلص علي الوردي إلى أن مؤتمر بدشت مهم جداً إذ إنه يفصل بين عهدين في تاريخ الدعوة البابية. فقد كانت هذه الدعوة قبل المؤتمر تعتبر فرقة من الشيخية لا تختلف عنها إلاّ في بعض الجزئيات التي لا أهمية لها، أما بعد المؤتمر فأصبحت الدعوة البابية فرقة قائمة بذاتها، أو هي بعبارة أخرى أصبحت ديناً جديداً.
أحدث دخول قرَّة العين سافرة ومتزينة إلى خيمة بهاء الله حيث كان القوم مجتمعين صدمة، فأثارت بلبلة. تُعد هذه المحطة من أكثر المحطات غرابة وصدماً في حياة “الطاهرة” في مواجهة جماعة دينية تقليدية، ويمكن اعتبار هذا الفعل الأنثوي/ الثوري الأكثر خطورة في مسيرتها. لقد “ظلت، بعد مؤتمر بدشت وموافقة الباب على النسخ، ناشطة دؤوبة، تواجه المخاطر بالخطابات الحامية المثيرة، داعية إلى تغيير شيء من الشريعة الإسلامية، وإقناع الناس عبر الحوار وتقديم الحجج، قامت بمثل هذه المخاطر وهي مطاردة من قبل السلطة السياسية والفقهاء معاً. وعلى إثر محاولة اغتيال الشاه ناصر الدين اعتُقلت بطهران وقدمت للمحاكمة. كان وصولها إلى قاعة المحكمة مشهداً مثيراً للغاية، فقد شُدت ظفائرها الطويلة بذيل حصان، وقيل بغل، وأُتي بها مسحوبة على هذه الحالة. لكنها –مع ذلك- أصرت أمام المحكمة أن الباب هو الموعود، ولم تتراجع عن آرائها الأُخر، فصدر الحكم بحرقها حيةً، غير أن الحكومة أمرت بتأخير الحرق إلى ما بعد موتها. كانت نهايتها السنة 1852 أن خنقت ثم طرح جسدها على النار حتى صار رماداً (راجع الخيّون، رشيد، الأديان والمذاهب بالعراق، مرجع سابق، ص 588).
تمثل قرَّة العين رمزاً للأنثوي الرافض للسائد دينياً. يمكن اعتبارها الشخصية الأولى في تاريخ الحركة النسوية الإيرانية. يصفها البعض بــــأنها “رمزية الأنثى المتألهة” الخارجة على التقاليد. ذهبت بإيمانها إلى النهايات؛ ولا ريب أنها تبقى الشعلة الخالدة الثائرة على الموروث الديني والاجتماعي.