ما عاشـته المـرأة في العـالـم العـربي الإسلامي وتعيـشه من تضيـيق وتمـيـيز وظـلم وطغــيان واستغلال وانتهاك واستباحة وتقتيل، عاشته المرأة في المجتمعات المتقدمة إبان القرون المظلمة بطرق أخرى، ومازالت تعيشه في كل العالم المتخلّف بمستويات مختلفة. قد لا تكون المقارنة أو القـياس مع وجود الفـارق الشاسع مسعِـفَين، لكن التـاريخ الإنساني واحد وأخطاؤه وعِبره واحدة.. المرأة كانت دوماً الحلقة الأضعف في حلقات الاستبداد البشري، حتى ذلك الذي مورس باسم الفقه أو باسم الكنيسة. فمثلما كان عليها أن ترضخ لكل سلطة تصادر كل حقوقها باسم المـقـدَّسات، كان عليها أن تستسلم أمام سـطوة التفسير البشري للنص الإلهي، بل وعليها أن تؤمن كامل الإيمان بـتأويل قاصر وفج للآيات القرآنية وبتعسُّف بيِّن في الموضوع من الأحاديث النبوية. إنها مطالَـبة بأن تلزم الصمت وأن تتصالح مع كل اعتداء تتعرّض له إنسانيتها، لأن الفقهاء ـ أو مثلما هم في الكهنوت "رجال الدين" الذين يمـتلكون "التفويض الإلهي" للحديث باسم رب الكون ـ يمتلـكون في جعبتهم استدلالات يمكنها تحريم كل مـباح وإبـاحة كل محرم، ويمكنها كذلك النظر إلى المستحب أو المكروه من زوايا أخرى متعارضة.
إن الأصلَ في عـرف من يمـتـلـكون "التـفـويـض الإلهي" "رجـلٌ" معـصوم من الخطأ. ولهم في الفتاوى والاستدلالات التي يصرِّفونها وفق ما يشتهون أداةٌ مشهورة تقضي بأن "المرأة" إنسان غير كامل الإنسانية أو الأهـلية أو القـدرة أو العقل أو الدين. فهـم يطالـبونها بمـوجب تلك الفـتـاوى والاستدلالات بـأن تخرس صوت العقل وأن تقبع تحت سلطة الرجل ووصايته طلباً لرضاه، وأن تلبي احتياجاته وتستجيب لما يحبه منها، دون أن تكـون لها ـ في عـرف الفـقه الذي وضعـوه ـ احتـياجاتٌ تنفـرد بها، على الرجل أن يلبيها، ومواطنُ تحبِّها فيه عليه أن يستجيب لها. لذلك كان عليها أن تخصِّب الحياة وأن تقـوِّي الـنسل لـبناء الأجـيال والشـعـوب والأمـم. وكان مطـلـوبا منها من جهة ثانية أن تلزم التـسامي وأن تلجـم جسدها وتمنحه لمالكه الشرعي كي يستمتع به بأن تمكِّن زوجها أو "مالكها" من كل حقوقه على جـسـدها الذي يمتـلكه متى شـاء وكيـف ما شـاء بمـوجـب "السـلـطـة الديـنـية" و"القـوامـة" و"الحـرث الحـلال"، وخـشــية "النـشـوز" و"اللـعـان" و"الضرب غير المبرّح" و"التعدُّد" أو خشية البيع من جديد في سوق النخاسة...
و كانت مسؤولياتها في هذا الجانب (و مازالت في أوطاننا إلا من رحمهن الله) مضاعــفة؛ فهي تحاسَب على ما يخــصها، وتحاسب كذلك على ما يخــص الرجل الذي له أن ينفرد بالقــيادة والقوامة والعصمة، وأن ينعَم بامتيازاتها.
إن عملية تنشئتها تتم وفق موقف مختل ومريض يجمع في تعامله معها بين متعارضات في منظور واحد، فهي الإنسان الناقص والأنثى العورة والجـسد المشتهى الفاتن والأمومة المعطاء التي لا تكل ولا تمل ولا تــتوانى عن العطاء استجابة لأدوار قد حـدِّدت لوجودها في الحـيـاة، ومُرِّرت إليها عبر ضوابط التربـية التي كانت تميِّـز منذ الطـفـولـة بينها وبين شقـيقـها أو قريـبها على مسـتـوى التـعـامـل والتـنـشـئة والتـدجـيـن والإكـراه... وكانـت (و مازالـت) كل الأوامـر والنواهي تمضي في اتجاه واحد تشحن به الفتاة أو الطفلة قبل أن تدرك معنى الأنوثة. فعليها هي الأنثى أن تلزَم العفة والحشمة والاستجابة لكل قـيود الأعراف المجتمعية مهما كانت قاسـية أو متغـطرسة، وعليها كذلك أن تتحمل وحدها مسؤولية انحراف الذكر وضلاله وإطلاقه لصوت شهوته ونهمه الجنسي دون أي رادع أخلاقي أو اجتماعي أو ثقافي أو ديني، بـتكميم جسدها وتغليفه حرصا على تسامي "الذكر" المصطَـنع. وعليها بمفردها لاحقا عند اتهامها ـ حتى دون إثبات شرعي يستوفي شروط الإقرار البيِّن المؤكد أو شهادة أربعة شهود عدول بواقعة المِرود في المكحلة والرشا في البئرـ والحدود شرعاً تُدرأ بالشبهات.. عليها بمفردها أن تتحمل العقاب قتلاً في قضايا الشرف بعيدا عن بنود القانون ومراسيم حقوق الإنسان الدولية، أو جلداً حتى الموت على عيون الأشهاد، دون أن يلحق أيُّ إيذاء شريكَها الجنسي في واقعة الاغتصاب/الزنى المُفترض دون إثبات شرعي.
هذا الواقع البـشع الذي يخـتصر المـرأة في وعـاء للتـخصيـب والحـمل، أو سـرير للمـتعة وللهجران، أو جسد للاشـتهاء والتكـمـيم، أو تـابـع للخـدمـة وللضـرب قد يُـسـبى ويـباع في سـوق النـخـاسة مثلما يُستـثمر في زواج المـتعـة وغيره، مثْـبتٌ في سـجـلات المـحاكم وتوثـيـقات الحقوقيين وهـيـئات المجتمع المدني، فحين يستقوي الاستبداد الاجتماعي والجمعي بسلطة تأويـل الديـن وتفسيره يغدو الأمر صعب التغيير، رغم التوقيع السياسي للدول العربية والإسلامية على البيان العالمي لحقوق الإنسان والتزامها بحماية بنوده.
لا يرتبط الأمر فحسب بنظرة فئة متطرَّفة في كل شيء إلى المرأة في المجتمعات العربية الإسلامية، اتخذت تلك الفئة من "فـقـه" اصطنعـته على مقاسِها قـوتَها واسـتـبدادَها في كل الأزمنة، وإنما يرتبط بنظرة الذات "الجمعية" العـربية الإسلامية إلى المـرأة وإلى هويتها وإلى حقها في الحياة بعدالة وكرامة. وهي نظرة "جمعية" يحملها المجتمع بأكمله للمــرأة منذ قرون ساد فيها ذلك "الفقه" وبحثَ لنفسه عن أسباب الخلود بعيدا عن الفكر أو الوعي أو أسباب التغيير.. فالثــقافة "الذكـورية" التي استبـدت بتـفـسير الـدين من منطـلقـاتها القاصرة، واستبدت بإضفاء طابع التـقـديس على نـص التفـسـير البـشري قطعت أشواطا في المغالاة والتشدّد في صلتها بالمرأة. وتعيد تلك الثقافة إنتاج ذاتها "المعصومة من الخطأ" في التربية والتعليم والتنشئة الاجتماعية. وتتحمل المرأة عزلاء من كل حـماية شرعية أو قانونية أو أخلاقية أو اجتماعية أو فكـرية توابع ذلـك التفسير ونوازغه، فالجهـود الفـكرية والقانونية التي تبذل ما زالت غير قادرة على استيعاب كل فئات المجتمع وعلى التغلغل عميقاً في ثوابته. وقد تحمل المرأة صنيعة "المجــتمع الذكـوري المتـشدد" بـدورها، نـفـس النـظـرة الـدونية لـذاتها في كثير من الأحـيـان وتشارك في ترسيخها، عن جهل مركَّب أساسه تقديس التفسير البشري للدين، وتمرِّرها بدورها دون وعي أو إدراك عبر التربية للجيل اللاحق.
لا يختلف الأمر عما كانت تـمـارسه السـطـوة الـذكـوريـة بـرعايـة سـلـطـات الكـنـيـسـة و"التفويض الإلهي" في مجتمعات الكهنوت في حق المرأة. فقد احتاج الوضع إلى أكثر من ثورة تحريـرية لإعـادة النـظـر إلى الـمـساواة بين المـرأة والـرجل من منـطلـقات العـدالـة والتكامل، ولم يفضِ ذلك إلى تجاوز إرث الماضي كلياً. لأجل ذلك منذ بدء التعامل مع مفهوم "التمكين" (Empowerment) في أفق الدراسات الإنسانية والثقافية لفائدة الفئات التي تم تاريخيا اقصاؤها وتهميشها، برزت إلى السطح رؤى وتصورات مدهشة أنثتِ العالَم وسعت إلى أن تعيد إليه معايير التوازن المنشود. لكن في أوطـاننا الأمر ما زال صرخةً في واد، لا تلقى الأصداء المرجوة منها لأسباب اجتماعية بالدرجة الأولى، أساسها تسيـيد تأويل واحد للنص الديني. وهو تأويل قاصرٌ مغرِق في الظاهر والالتصاق بالحرفية، ملتزِمٌ بأنساق لا علاقة لها بالدين قد تم التشكيك في صلاحها. لأن ذلك التأويل البشري قد أملـته سياقات سيـاسية وفكرية معيّنة في تواريخ وجغرافيات ندرك تفاصيلها، لكنه لا يملك حـق التـقـديس ولا يُـقـنع بصوابه أو بحسن اجتهاده في ضوء مـفاهـيم "إعمال العـقـل" و"درء السيئة بالحسنة" و"تحريــم قـتل النــفس" و"العـدل" و"الـحـق" و"العفو" و"المودة" و"الرحمة" و"التعاون" و"الجمال"... غير أن ذلك الاجتهاد البشري سائد بـقـوة العُـرف والعـادة النافـذين، تبلغ قوتهـما في مـداها التـقـديـس وفي سـطوتها الـقـتـل. وللأسف لا يرى ذلك السائد من التأويل البشري للتنزيل الإلهي، في المرأة سوى التـابع النّـاقص والعـورة الفـاتنة والخادم المُلبِّي لاحتياجات الرجل.
و للمرارة غدا وضع انحسار فـعـل الاجتهاد وانحصار آفاق التأويل القاصر للوحي الإلهي ـ بفعل التـقـادم التاريخي والبـؤس الحالي وسـيـاسات التجـهيل والإلـهاء التي تنهـجها الـدول ومؤسساتها وأجهزتها الاستخباراتية ـ في بعض المناطق والأقطار المنكوبة بأوهام "الجهاد المقدَّس" بمثابة "تفويض إلهي"، يمتلك بموجبه ذلك "الحيوان العاقل" فاقدُ البصيرة والبصر الذي يرى نفسه خليفة للإله على الأرض، "إلـهاً" ظالما يمتلـك بالطغـيان الأجـساد ويمثِّـل بها ويسفـك الدماء ويستـبيح الحـرمات ويقبض الأرواح ويحرق الأخضر واليابس ويحطم التاريخ والحضارة...