ذواتتُعرف فلسفة الفيلسوف المصري المعاصر د.حسن حنفي بحيويتها وبتعدُّد حواراتها مع القضايا الأساسيَّة التي شغلت بال نخب في العالم الإسلامي/العربي، وهي الحوارات التي احتوتها نصوص كثيرة أخذت شكل سجالات ثريَّة بالمفاهيم الأصيلة، وهي في مجملها مشتقة من تراثنا ومن لغة العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة الغربيَّة الحديثة، والتي قدَّم حنفي نفسه متجاوزاً مشكلة الثنائيات المفهوميَّة ومرجعياتها الثقافيَّة.
ثمة أزمة فلسفة في عالمنا العربي، وهي مسؤوليَّة الفرد العربي والمجتمع والتاريخ.
إن السمة البارزة التي تطبع فلسفة المفكر حنفي إيمانه بأهميَّة الاختلاف الذي يجعل من التفاعل الحضاري والثقافي بين الشعوب أمراً ممكناً، ولعل محاورته للتراث الغربي الحديث دليل ثابت على انفتاحه وانهمامه الشديد بالمسألة الفلسفيَّة العامَّة التي تخدم تطور الأمم والشعوب، ويظهر ذلك جليّاً من خلال مشروعه حول "علم الاستغراب" ودراساته المتنوعة عن الفلسفة الغربيَّة الحديثة والمعاصرة، واشتغاله أيضاً على سيَر فلاسفتها ضمن ما سمَّاه بجدل الأنا والآخر.
وتركز دراسة أعدها الباحث والأكاديمي الجزائري الدكتور مونيس بخضرة ونشرت على موقع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث في قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، بعنوان "حسن حنفي وإتيقا الفلسفة أو: كيف يمكن لنا أن نكون فلاسفة؟" على مشروع حنفي الفلسفي وجهوده الفكرية التي تصبُّ في عملية بناء فلسفة عربيَّة خالصة لها معالم ثابتة وواضحة، مستفيداً في ذلك من إخفاق كلّ المحاولات السابقة لتحقيق ذلك، سواء في التراث العربي أو في عصر يقظة النهضة والفترة المعاصرة، وبتصنيفاته لما هو قائم واستشرافه لما هو قادم، وهي شروط ضروريَّة لعمليَّة التفلسف، وحتى يفتح حنفي مشروعه الفلسفي، شرَّح واقع الفلسفة العربيَّة من خلال قراءته للمشاريع الفلسفيَّة ولهفواتها ومنجزاتها.
وأوضحت الدراسة، أن الفيلسوف المصري اتّخذ في مجمل فكره مسار العقلنة بما يتطابق والواقع المعطى، فلم يكن، وفق الباحث، مغالياً في التشدق المثالي أو غارقاً في الفرضيات الطوباويَّة الحالمة، أو متمسكاً بخيوط الميتافزيقا، بقدر ما كان متفحصاً لما هو موجود في جغرافيا الفكر الإسلامي/العربي، وبما هو ماثل في التراث الغربي الحديث بمساءلته وإثارة أسئلة غير معلنة، وهي كلها سمات جعلت من فلسفته فلسفة واقع تترقب كلَّ ما هو راهني ومعاش في حياتنا اليوميَّة.
الفلسفة والواقع العربي
ويوضح الباحث أن حنفي في حديثه عن واقع الفلسفة في العالم العربي، يقرُّ بوجود أزمة فلسفة في عالمنا العربي، على أنَّها مسؤوليَّة الفرد العربي والمجتمع والتاريخ؛ إذ يرى أنَّ ملكة الإبداع المطلوبة هي في الأساس خاصة بالفرد، حتى وإن كان المجتمع مقلداً وتابعاً، نظراً لانحباس تاريخنا المعرفي في دائرة الحفظ والتدوين لا غير، بينما الفرد وتوجهاته واستقلاله الذاتي يستطيع أن يظهر وعيه للمجتمع، وهو قادر على الإبداع الذاتي، حتى وإن كانت ظروف مجتمعه لا تشجع على ذلك والظروف العامة غير مواتية والمرحلة التاريخيَّة التي يفكر تحتها يغلب عليها التدوين والتقليد، وفي بعض الأحيان المتميزون يظهرون في فترات انحطاط والإفلاس التاريخي.
ويتابع بخضرة ، أن حنفي يرى أنَّ الإبداع الفلسفي هو عملية معقدة وغامضة مقارنة بباقي الأنشطة المعرفيَّة الأخرى، على غرار الأدب والشعر والرواية وعلم التاريخ، فرغم أنَّ هذه المعارف شهدت نهضة كبيرة في العالم العربي، إلا أنَّ الفلسفة فيه ظلت متأخرة كثيراً.
وتشير الدراسة إلى أن حنفي يعتبر الإبداع فعلاً يقع فوق التمييز بين شكله ومظاهره وبين مضمونه، فهو عمليَّة عضويَّة واحدة لا يتمايز فيها الشكل عن المضمون .
أزمة الفلسفة العربيَّة متأصلة في الراهن العربي، وهي بحاجة إلى تخصيب حديث وإلى مقاومة معرفيَّة جديدة
وينوه الباحث إلى أنه تصعب التفرقة بين أزمة الفلسفة وشروط إبداعها، فالأزمة هي نتيجة غياب شروط تجاوز الأزمة؛ إذ يرى حنفي أنَّ العامل
الأول لتأخر الفلسفة عندنا هو عامل تكويني بيداغوجي، يتعلق بطبيعة المقررات ومناهج التدريس والتكوين ومستوى إمكانيات أساتذة الفلسفة التي يمكن اختصارها في جدل الشروط الماديَّة المطلوبة والإبداع كقدرات خاصة، ولم يتوقف حنفي، وفق الباحث، عند هذا المستوى فقط، وإنَّما وقف على الصعوبات الناجمة عن عملية التفرقة بين التجربة الشخصيَّة وقدرة الإبداع الفلسفي؛ أي بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي.
وتلفت الدراسة إلى أن الفيلسوف المصري يحصر عمليَّة الإبداع الفلسفي في شرطين أساسيين: الأول يتمثل في المادة العلميَّة التي يحللها الباحث ويكشف عن مكوناتها المعرفيَّة ومعرفة الجديد فيها، وهنا يكون البحث الفلسفي أقرب إلى تاريخ الفلسفة منه إلى الفلسفة، وحجَّته في ذلك هي توخّي الموضوعيَّة والحياد والأمانة العلميَّة، وبهذه الطريقة تصبح الفلسفة فرعاً من فروع علم التاريخ مثل التاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي.
أمَّا الشرط الثاني، فهو رؤية فلسفيَّة تؤوّل المادة العلميَّة لاكتشاف اللامنطوق فيها، وهي بذلك تتجاوز المنهج التاريخي المعروف وأبعاده، معتمدة على مناهج أخرى أكثر فعاليَّة وقدرة على خلق الفكرة وإقرار التصورات المشحونة بالدلالات والعلامات الجديدة، إلى ما هو مناهج أخرى أكثر فعاليَّة في التعامل مع الموضوع.
الفلسفة والتراث
يشخّص حنفي أزمة الفلسفة والتراث، وفق الدراسة، في وجود ثنائيَّة المصدر وهيمنتها على فكرنا الفلسفي المعاصر؛ فالفلسفة أتتنا من الغرب والتراث أتانا من ماضينا، ويعني هذا أنَّ الآخر هو الفلسفة، وكلُّ ما هو حديث، بينما (الأنا) هو الماضي القديم، وبالتالي يصبح التمايز بين (الأنا) و(الآخر) تمايزاً زمانياً بين الماضي والحاضر، وبين القديم والجديد، وبين التراث والفلسفة. أمَّا العنصر الثالث الذي يربطهما، فهو عنصر التفاعل الذي يظهر في العقل الخالص .
والضحيَّة الوحيدة للأزمة، وفق حنفي، هي الباحث بجميع أصنافه وتخصصاته ومحاصرته بين جبهات ثلاث: التراث، والفكر الغربي، وواقعنا الهش، وبسببها تتضاعف همومه وحيرته.
ويختصر المفكر حنفي أحد مظاهر الانحباس الفلسفي العربي في هيمنة الشق المتعلق بالعرض التاريخي للفكر الفلسفي، وعليه بقي الموضوع مجهولاً وبقي الحوار والنقاش مغيَّبين، والاكتفاء بترصيص الأفكار ونقلها، رغم وجود منهل غني لممارسة الفعل الفلسفي عندنا، والذي حدَّده حنفي في منهل التراث، فلا إبداع بلا مصادر. هو تراث الأمَّة الذي يخرج من الماضي السحيق ويحضر في الحاضر بلون جديد، فيمدّ حاضرنا بالقوة على النهوض من جديد، ممَّا يستطيع تعويضنا عن أزمة الإبداع في الحاضر .
ويرى حنفي، أنَّ البحث الفلسفي في العالم العربي اكتفى فقط بنقل المعلومات والأفكار دون إبداعها؛ لأنَّه استعجل التأليف والكسب والتوزيع، فالمشتغلون بالفلسفة بقوا متفرجين واكتفوا بنقل البضاعة وليسوا منتجي صناعة.
وينظر المفكر إلى أزمة الفلسفة العربيَّة، بحسب الدراسة، على أنَّها أزمة متأصلة في الراهن العربي، وهي بحاجة إلى تخصيب حديث وإلى مقاومة معرفيَّة جديدة.
ويُشخّص حنفي، بحسب بخضرة، نتائج أزمة الفلسفة في العالم العربي في نقاط عديدة؛ من أهمّها انفصال الفلسفة وفلاسفتها عن المجتمع وعن الشعب، وتراكم هموم الفكر والوطن، فنتج أن لا سياسة في الجامعة ولا جامعة في السياسة، مثل لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، ممَّا ساهم وبشكل كبير في انحطاط الأمَّة وتخلّفها.
ويتابع الباحث، أن المفكر يقترح عدة حلول لتجاوز ركود الحالة الراهنة، من أبرزها؛ العودة إلى التراث بما أنَّه ما يزال حياً في النفوس وفي الذاكرة الجماعية ، رغم اختلاف الظروف والعصور، ومن ثمَّ كان مستقبل الفكر الفلسفي مرهوناً بكيفيَّة التعامل مع هذا التراث القديم تجاوزاً للتكرار والاختيار الجزئي إلى إعادة البناء كله طبقاً لظروف العصر الحاضر، وما يزال التراث بعلومه دالاً على العصر وحاملاً للغته.
أمَّا فيما يتعلق بالعقائد التراثيَّة، فإنَّه يغلب عليها الطابع الإيديولوجي والسياسي، ومن ثمَّ يكون مسار علم العقائد في المستقبل هو التحوُّل من علم الكلام إلى علم السياسة، ومن اللاهوت العقائدي إلى لاهوت التحرير، ومن الذات الإلهيَّة إلى الذات الإنسانيَّة، حيث يصبح العلم والقوة والحياة صفات للإنسان بدلاً من الجهل والعجز والموت، كما يقول حسن حنفي، حتى يُعاد إنتاج الفلسفة ترجمة وشرحاً وتلخيصاً وعرضاً وتأليفاً وإبداعاً في التراث المعاصر لنا، وهو التراث الغربي، ويُعاد الانفتاح على العالم كما فعل الفلاسفة القدماء والمحدثون في الغرب.
وتستحيل إقامة فلسفة جديدة طالما أنَّ النص الفلسفي القديم ما زال طاغياً دون أن تفكّ رموزه، حسب حنفي، ويبقى التأويل منهج الفلسفة الأهم لنقل النص من الماضي إلى الحاضر وكمرحلة متوسطة حتى يتحرَّر العقل من النص ويصبح قادراً على التنظير.
مستقبل الفكر الفلسفي العربي
ويُحدّد حنفي جملة من مهام الفكر الفلسفي العربي في المستقبل، من بينها، وفق ما أوضحت الدراسة، إقالة الإصلاح الديني من عثرته، بما أنَّه تيار لم ينفتح بما هو مطلوب على الآخر واستنارته ضعيفة ولا يملك مشروعاً تحديثياً، وليست لديه أدلة مقنعة يدافع بها عن توجهاته، مع الإفراط في استبعاد كلّ ما لا يوافقهم الطرح؛ حيث إنَّ توجهه الأساسي بني على الله وليس الشعب، وغايته تطبيق الشريعة وليس تحقيق مصالح الجمهور، علماً أنَّ مستقبل الفلسفة مشروط بالتعدُّد والاختلاف والحوار، وعلى أن يعملوا على إيجاد بعد ثالث بين الخطاب السلفي والخطاب العلماني، حتى تكون عمليَّة المصالحة بين الماضي والحاضر ممكنة.
ويبقى على عاتق المفكرين العرب إقالة الفكر الليبرالي من انكساراته وكبواته، وأن يصححوا مساراته التي بقيت محصورة في خطابات النخبة فقط، والمطلوب أيضاً إقالة الفكر العلماني من عثراته، ووقوف حنفي عند هذه التيارات الثلاثة لم يكن بالمصادفة، وإنَّما لتصادمها وتقاطعها الذي لم يخدم تطلعات الشعوب العربيَّة.
تستحيل إقامة فلسفة جديدة، طالما أنَّ النص الفلسفي القديم ما زال طاغياً دون أن تفكّ رموزه، ويبقى التأويل منهج الفلسفة الأهم لنقل النص من الماضي إلى الحاضر،حتى يتحرَّر العقل من النص، ويصبح قادراً على التنظير
ويراهن حنفي، وفق الباحث، على الجيل الجديد الذي بات أكثر استعداداً لمجاوزة الأحاديات والتخوين، حيث صار الفكر والوطن متسعاً للجميع، يحدث هذا، رغم هيمنة قطبيَّة الدولة على طريقة الفرقة الناجية، ويرى أنَّ من محامد هذا الجيل إيمانه بالحوار بشكل عام وحوار أهل الفكر بشكل خاص، وكما تميّز بصفوة مفكريه ونباهتهم الذين استطاعوا تقديم مشاريع فكريَّة شاملة، يعبّرون فيها عن المرحلة التاريخيَّة الراهنة، وما يتضمنه الواقع العربي من تطلُّعات نحو التحرُّر والاستقلال والتغيير الاجتماعي والثوري.
ويرجع حنفي، بحسب الدراسة، أسباب انهيار الواقع العربي وتأزمه إلى إجهاض كلّ محاولات التجديد على المستوى النظري والفكري ووضعه ضمن دوائر الاتهام، تارة بالإلحاد والشيوعيَّة وتارة بالعمالة والنفاق، وتارة بالتغريب والتمزيق. إضافة إلى ما سبق من عوائق، يعزو الأمر أيضاً إلى عامل التعصُّب الشديد عوضاً عن تبنّي الوعي الفكري المنفتح بدلاً من استمرار قبضة الإيديولوجيَّة الدينيَّة، وهنا تأتي أهميَّة التنوير العقلي، حتى يتكرَّس الفكر النظري في أرض الواقع.
ويشير الباحث إلى أن محاولة تغيير الواقع بالقوَّة دون تهيئة الجماهير له واستعمال لغة العنف في هذا التغيير، فإنَّه سيولد اللَّااستقرار والفوضى والاستغلال والهيمنة التطبيقَّية، والتغيير لا يكتب إلا بثقة الجماهير فيه ومواكبته من قبلها، فتغيير الواقع بالوثوب على السلطة، وفق رأي حنفي دون مساندة الجماهير له، يعدُّ محاولة أشبه بالانقلاب منها إلى التغيير بالفعل، ومن نتائج هذا العمل هو الارتكان إلى ثقافة المؤامرات والعصابات للتحكُّم في الوضع العام .