”لقد تسرع العلماء حين قالوا أن أصول الكون لا يمكن تفسيرها بالعلم وحده. صحيح, أن مثل هذا الأمر صعب إنجازه, ولكن كثيراً من الأمور التي إعتقدنا إستحالة إنجازها لم يكن سبب هذا الإعتقاد إلا محدودية مخيلتنا”
أليكساندر فيلينكن – من كتاب عوالم عدة في عالم واحد (Many Worlds in One)
نحن لم نبدء بعد
تذكر عزيزي القارئ, أننا لم نبدء بعد بنقد الحجة الكونية السببية, ولكننا منذ الجزء الأول وجدناها على أساس متزعزع جداً لا يحتمل أن تضع فوقه جملة واحدة. لتلخيص ما ذكرناه في الجزء السابق, يمكننا القول بأن الحدس الفطري أضعف من أن يحتمل أن تبنى عليه أي حجة كانت, وهذا هو ما أثبته لنا التاريخ وتكلمنا فيه كثيراً, وبالإضافة الى هذا فالحدس الفطري الذي يدعم مفهوم السببية له أسباب نفسية إجتماعية مدروسة من نواحي تطورية, مما يجعله يفتقر وبشكل كبير الى الموضوعية.
خطأ مبدأ السببية تؤكده مشاهدات فيزيائية على المستوى الذري والدون ذري تفتقر الى سبب ظاهر, على سبيل المثال, حين تهبط ذرة من مستوى طاقة محفز الى مستوى أدنى وتطلق فوتوناً Spontaneous emission فهي تخترق وبشكل واضح وصريح مبدأ السببية(11). ولا يتضح السبب أيضاً وراء تفكك النواة المشعة وكثير من الأحداث الكمومية تفتقر وتنتهك مبدأ السببية(12)(13)
كلمة حول الخلق وبداية وجود الكون
السؤال حول من خلق الكون هو سؤال فاسد ولا ينفع أن يتم الإجابة عليه, ذلك أنك تفترض أن الكون مخلوق وتشير الى الخالق بـ “من” وتضع هذا الفرض في منطوق السؤال. الأفضل أن تتم صياغة السؤال على نسق “من أين أتى الكون؟” أو “كيف جاء الكون” أو “كيف بدء الكون بالوجود”. ربما لاحظ بعض اللاهوتيون فساد هذا السؤال مما جعلهم يعيدون الصياغة الى “ما سبب بداية وجود الكون؟” أو “ما سبب بداية وجود كل شيء؟”. لعبة الكلمات هذه كثيراً ما نجدها في الحجج التي تحاول إثبات وجود الإله, فسبب إستخدام “بدء بالوجود” يعود الى أنهم لا يودون تطبيق هذا المبدأ على الإله, فهو بحسب وصفهم له “أبدي الوجود” و”لم يبدء بالوجود مطلقاً” وبهذا التغيير البسيط للمصطلحات قاموا بإستثناء الإله من مفهوم السببية. بإمكاننا أن نلعب دوراً في لعبة الكلمات هذه فنقول: “كل ما في الكون وبدء بالوجود فلا بد أن يكون له مسبب”, وبهذا نحن نستثني الكون من مفهوم السببية.
حينما تستمع لأحدهم وهو يقول لك أن الشيء الفلاني “بدء في الوجود”, ما الذي يخطر على بالك؟ فإن كنت كمعظم الناس ستفكر مثلاً في طاولة تضعها في المطبخ, ولابد لهذه الطاولة أن يكون لها تاريخ صنع يمثل بداية وجودها. أي أن بداية وجودها كانت حينما قام النجار بإعادة ترتيب بعض الأخشاب بإستخدام المسامير والغراء بطريقة معينة لتكون لدينا طاولة نستفيد منها. يمكننا القول وبشكل أمن أن الطاولة كان هنالك سبب لبدء وجودها وهو عمل النجار. ويشار الى هذه العملية بإعادة التريب أكثر مما يشار اليها بالخلق أي أنها خلقت من مادة Creato Ex Materia. هذا الوصف ينطبق على كل ما وجدناه في الكون وعلى كل ما شهدته البشرية منذ بدايتها. ويمكننا القول, بحسب ما وصلنا اليه من التقدم العلمي المعرفي, أن هذا النوع من الخلق ليس بحاجة إلى تدخل إلهي خارج الطبيعة ولا الى معجزة كانت.
ولكن ما تشير اليه الحجة السببية بقصدها من الخلق هو “الخلق من العدم” Creato Ex Nihilo. أي أنه لا طاقة ولا جسيمات فيزيائية ولا نسيج الزمكان ولا حتى أي شيء أخر. فيبدو الخلق كعملية نشاهدها فقط في أفلام الكارتون, طق, لدينا مادة, طق, لدينا طاقة, طق, لدينا مجالات فيزيائية, والى أخره من الطقطقات. لا يوجد لهذه العملية أي تصور أو دليل بشري ممكن. فعلى الرغم من أننا نجد هذه العملية لابد أن يكون لها سبب معين, كما ينوه لنا حدسنا الفطري, إلا أننا نشير الى عملية لم نشهدها مطلقاً. وهذه مغالطة منطقية واضحة. تابع معي الحجة التالية والتي تشابه في مغالطتها المنطقية الحجة الكونية السببية:
[list="border: 0px; font-family: Tahoma, Arial, sans-serif; font-size: 15px; margin-right: 1.15385em; margin-bottom: 1.5em; margin-left: 0px; outline: 0px; padding-right: 0px; padding-left: 0px; vertical-align: baseline; color: rgb(64, 64, 64); line-height: 24px; text-align: right; background-color: rgb(255, 255, 255);"]
[*] جميع أحاديي القرن تشابه الحمار الوحشي في شكلها الخارجي.
[*] الحمار الوحشي من الثدييات.
[*] جميع الثدييات لها فرو يغطي جسدها.
[*] جميع أحاديي القرن لديها فرو يغطي جسمها.
[/list]
لاحظ أننا نجادل حول حيوانات أحاديي القرن, التي ليس لها أي وجود, سوى في الثقافات الأسطورية الخرافية للإنسان. فجدالنا إذاً, حول وجود فرو يغطي جسدها, يعتبر بحد ذاته مغالطة منطقية.
إن كان هنالك من بين المؤمنين من يود أن يدافع عن الحجة السببية, فعليه أولاً أن يجتاز هذا التحدي, بأن يذكر لنا قائمة من الأمثلة لحالات خلق من العدم. ولكن في الحقيقة, ليس لديهم هذه القائمة بتاتاً. وعندما واجه الفيلسوف اللاهوتي ويليام لاين كرايغ هذا التحدي – وهو أحد أهم الفلاسفة اللاهوتيين في هذا القرن من المدافعين عن الحجة السببية, وهو في الحقيقة من قام بإحياء الحجة الكلامية من التراث الإسلامي ليجلبها بصيغة معدلة, كما طرحناها في بادئ المقال ويضعها كإحدى أهم حجج الدفاع اللاهوتي – قام ويليام لاين كرايغ بإعادة تشكيل تصوره لبدء الكون, ليكون خلقاً من مادة. ولكنه هنا يناقض ما أتى به اللاهوت المسيحي (والإبراهيمي بشكل عام) بأن الخلق الإلهي للكون كان من عدم(14)(15). وحتى إن كان الخلق من نوع “إعادة ترتيب” أي Creato Ex Materia, فهل يتوجب أن يكون دوراً للإله فيه؟
ويليام لاين كرايغ
قدم أينشتاين عام 1905 نظريته النسبية, وفيها أوضح أن المادة Matter من الممكن أن تتكون من طاقة ومن الممكن أن تختفي الى طاقة. ويمكن إختصارها بمعادلته المشهورة:
E = MC2
حيث أن E هي الطاقة Energy وM هي المادة Matter وCهو ثابت كوني يكافئ سرعة الضوء في الفراغ Vacuum. أي أن وجود المادة في الكون لا ينتهك أي قانون طبيعي, فيمكن للمادة أن تأتي من الطاقة.
ولكن, من أين إذن تأتي الطاقة؟ فقانون الثيرموداينميك الأول First Law of Thermodynamics والمشهور بقانون حفظ الطاقة يتطلب أن تأتي الطاقة من مكان ما. كان من الممكن أن تكون فرضية الخلق مقبولة لدرجة ما إن كان يشترط حصول معجزة ما لكي تخرق قانون حفظ الطاقة وتأتي الينا بالكون. ولكن لا المشاهدات ولا النظرية تدعم هذا, فقانون حفظ الطاقة يسمح لها أن تتحول من شكل الى أخر ما دام المجموع ثابتاً. ومما يثير الإهتمام هو أن الطاقة الكلية للكون تساوي صفر.(16)(17)
وهنا أقتبس من عالم الفيزياء الكونية ستيفن هاوكينغ قوله: “يمكن للمرء إثبات أن الطاقة السالبة للجاذبية تلغي بالضبط الطاقة الموجبة التي تمثلها المادة. وبالتحديد ضمن أخطاء قياس ضئيلة, فإن كثافة معدل الطاقة في الكون هو بالضبط ما يتوقع لكون ظهر من حالة مبدئية بطاقة صفرية, مع لا يقين كمي ضئيل”(18)
في الحقيقة, هذا هو ما توقعت به أخر الإضافات المعاصرة لنظرية الإنفجار الكبير, والتي تدعى بالإنفجار التضخمي الكبير Inflationary Big Bang, ووفقاً لهذه النظرية مر الكون بفترة من التضخم السريع الأسي Exponential Inflation خلال كسر ضئيل من الثانية الأولى. لقد مرت مؤخراً نظرية التصخم بسلسلة من إختبارات المشاهدات التي كانت قادرة على تخطئتها, وحتى الأن, إجتازت النظرية هذه الإختبارات بنجاح.(19)
بإختصار, وجود المادة والطاقة لم يتطلب إختراقاً لحفظ الطاقة, ولا معجزة كانت مطلوبة لخلقهما وهذا ما تشير اليه البيانات وبقوة.
بداية الوجود واللانهائية
اللانهائية هي فكرة رياضية مجردة تمت صياغتها بدقة في عمل الرياضي جورج كانتور في أواخر القرن الثامن عشر. ولكن رمز اللانهائية ∞ يستخدم في الفيزياء كإختصار يعني “رقم كبير جداً”. في الفيزياء, الزمن هو عدد دقات الساعات. يمكنك أن تعد للخلف وكذلك للأمام. فالعد للأمام قد يوصلك الى رقم موجب كبير جداً والعد الى الخلف يوصلك الى رقم سالب كبير جداً, وكما أننا لن نصل الى اللانهاية الموجبة, فلن نصل الى اللانهاية السالبة. إن لم يكن في الكون عدد لا نهائي رياضياً من الأحداث في المستقبل, فإنه لا يحتاج لأن تكون له نهاية. وبالمثل, لو لم يكن في الكون عدد لا نهائي رياضياً من الأحداث في الماضي, فإنه لا يحتاج لأن تكون له بداية. يمكننا دوماً أن نجد حدثاً يتبع أخر, ويمكننا دوماً أيضاً أن نجد حدثاً يسبق أخر.
يشير اللاهوتيون في محاولاتهم للدفاع عن الحجة السببية الى الفردانية أي ما يعرف بالـ Singularity. مفهوم الفردانية صاغه كل من ستيفن هاوكينغ وروجر بينروز في العام 1970 حيث “أثبتوا” أن حالة من الفردانية كانت موجودة في بداية الوقت, وعلى فرض أن يكون نموذج إينشتاين صحيحاً في ذلك الوقت – أي في وقت أقل من زمن بلانك, فتكون هذه الفردانية لا متناهية في الصغر ولامتناهية في الكثافة.(20) ويصر اللاهوتيون على أن الوقت في هذه الحالة يجب أن يتوقف وهنا يجب أن يحصل الخلق.
الطريف في الأمر, هو أن ستيفن هاوكنغ عانى في إقناع الوسط العلمي بالفردانية Singularity ولكنه تخلى عنها ويحاول إقناع الوسط العلمي بأن لا وجود لها كما يشير في كتابه تاريخ موجز للزمان: “في الواقع, لم يكن هنالك أي حالة من الفردانية في بداية الكون”(21). إستنتاج ستيفن هاوكينغ, والذي وافق عليه روجر بينروز أيضاً, يأتي من الميكانيكا الكمومية, بنقض فرض أن نموذج النسبية العامة لإينشتاين صحيحاً في أبعاد أقل من زمن بلانك, وبهذا يمكننا القول بأن إستخدام الفردانية لإثبات بداية الزمن أمر غير صحيح, فالفردانية ليس لها ما يدعمها بحسب معرفتنا المعاصرة عن الكون.
يعود المدافعون اللاهوتيون بالدفاع عن الحجة السببية وبداية الوقت بالقول: “إن كان الوقت لانهائياً فيجب أن يستغرق مدة لا نهائية ليصل الى هذه اللحظة”. رد الفيلسوف كيث بارسونز على هذا التصريح بقوله: “القول بأن الوقت لا نهائي لا يعني أن له بداية كانت منذ زمن لا نهائي, بل يعني أن ليس له بداية على الإطلاق”.(22)
وبعيداً عن الفردانية, قدم مدافعون لاهوتيون أخرون تصوراً خطياً عن الوقت أوضحوا من خلاله أن الوقت لا بد أن يكون نهائياً ولابد أن تكون له بداية, على سبيل المثال لديك هذه الحجة (تم عرضها من قبل ويليام لاين كرايغ أيضاً أكثر من مرة):
[list="border: 0px; font-family: Tahoma, Arial, sans-serif; font-size: 15px; margin-right: 1.15385em; margin-bottom: 1.5em; margin-left: 0px; outline: 0px; padding-right: 0px; padding-left: 0px; vertical-align: baseline; color: rgb(64, 64, 64); line-height: 24px; text-align: right; background-color: rgb(255, 255, 255);"]
[*] سلسلة الأحداث المتواصلة, هي تجميع للإضافات المتعاقبة للأحداث.
[*] التجميع الناتج عن الإضافات المتعاقبة للأحداث لا يمكن أن يكون لانهائياً.
[*] لذا فسلسلة الأحداث لايمكن لها أن تكون لا نهائية.
[/list]
أي وبتعبير أخر, إن كان الوقت لايمكن له أن يعود الى ما لانهاية, فلا بد للكون أن يبدء من نقطة حيث لايوجد فيها الوقت, أي أنها العدم. حين يتكلم المدافع اللاهوتي عن الوقت فهو يتخيل تركيب خطي يصف به الوقت. حيث يقع على هذا الخط الزمني, الحاضر والمستقبل والماضي, ولابد أن ينتهي الماضي بنقطة بداية الوقت. وهذا تصور ساذج, على الرغم من أنه يتفق مع حدسنا الفطري ومع معاملاتنا للطبيعة والمحيط بشكل يومي, ولكنه خاطئ بشكل فاحش. أي شخص لديه أي معرفة عن الفيزياء المعاصرة لابد له أن يعلم بانه لاوجود لشيء إسمه الوقت ككيان مستقل, ولكن كتكوين رباعي الأبعاد يعرف بـ “الزمكان”. وحتى هذه النظرة للزمان تعتبر غير مكتملة, لإنها تفشل في وصف أبعاد أقل من أبعاد بلانك بحسب الفيزياء الكمومية Quantum Mechanics كما أشرنا في الأعلى.
حجة أخرى يستخدمها اللاهوتيون في الدفاع عن بداية مطلقة للكون هي مقالة علمية نشرها كل من بورد وجوث وفيلينكن عام 2003, مستوحاة من نظرية التضخم الأبدي Eternal Inflation, كان عنوانها Inflationary Spacetimes are not complete in past direction(23). تفسر نظرية التضخم الأبدي والتجانس الكبير الذي يعتلي الكون وسبب كونه مسطحاً, ولكنها تقترح على أن الكون لم يولد وحيداً بل هنالك عدداً من الأكوان المتوازية ويستمر توليد الأكوان, ولهذا سميت بـ”التضخم الأبدي”. إن كان التضخم لانهائياً بإتجاه المستقبل, فهل هو لانهائياً بإتجاه الماضي؟ هذا ما حاولت المقالة العلمية أن تجيب عليه, ولكن المدافعين اللاهوتيون بالغوا في إستخدامها لإثبات أن الكون له بداية, متناسين سطراً تحتويه يذكر التالي: “..بالتالي فإن نماذج التضخم تتطلب نماذجاً فيزيائية أخرى عدا التضخم التضخم, لتصف حد الماضي من منطقة التضخم في الزمكان”. وفي مراجعة علمية لألان جوث بنفسه لنظريته عام 2007 صرح بالتالي: “لا يوجد أي إستنتاج يدل على أن نموذج التضخم الأبدي كانت له بداية فريدة من نوعها”…”وهنالك نماذج تقترح مناطق إنكماش داخل منطقة التوسع وبإمكان هذه النماذج أن تزيغ نظريتنا” (24). يشير جوث هنا الى ما قدمه أنتوني أجيري Anthony Aguirre والذي قدم مقالته العلمية في نفس العام وإقترح فيها على أن التضخم الأبدي يكون أبدياً بإتجاه الماضي أيضاً, أي أنه حاجج على أن نظرية التضخم الأبدي Eternal Inflation لا تشترط بداية للكون.(25). بالإضافة الى هذا, سأل فيكتور ستينجر أحد ناشري المقالة المشار إليها في الأعلى, أليكسنادر فيلنكن: “هل أثبتت نظرية التضخم الأبدي أن هنالك بداية للكون” وأجاب فيلينكن بالنفي, مشيراً مرة أخرى الى الإنكماشات التي أشار اليها ألان جوث أعلاه.(26). نفي بداية للتضخم الأبدي والإنكماشات المشار اليها هي ما أكدته بحوث الجاذبية الكمية الحلقية Loop Quantum Gravity (LQC), وبالذات ما نشره عالم الفيزياء الكمومية أباي أشتكار Abhay Ashtekar عام 2009 مؤكداً على خطأ الإعتقاد ببداية للتضخم الأبدي وأن هذا الإعتقاد يناقض الجاذبية الكمية الحلقية.(27).
تذكر أننا حين نتكلم عن اللحظات الأولى للإنفجار الكبير, فإننا ندخل متاهة من الجهل البشري, في تلك المتاهة لا يمكنك أن تخوض نقاشاً ذو معنى دون أن تعرض نفسك لسنين مجهدة من الفيزياء والرياضيات. فلا يهم ما تظن أنك تعلمه, لأن كل الإستنتاجات التي تأمل بالوصول اليها لتفسير الحقيقة المطلقة للكون, لن تكون أكثر من تخمينات كبيرة. وعلى الرغم من هذا, يصر المدافعين اللاهوتيين بأن لعبة الكلمات الفلسفية هي كل ما يتوجب أن يحملوه ليدعموا به نتائجهم المطلقة. ولكن يبقى أمن ما يمكن قوله أنني لا أعلم ولا أنتم تعلمون, ولكن إله الفجوات God of The Gaps ينادون به دوماً على أية حال.
سيناريوهات طبيعية مقبولة لتفسير الأصول
مسمار أخر يدق على نعش الحجة الكلامية, فكما نرى إدعاء أن الكون بدء بالوجود مع الإنفجار الكبير هو إدعاء لا تدعمه أي من المعرفة الفيزيائية والكونية المعاصرة, فالمشاهدات التي تؤكد نظرية الإنفجار الكبير لا تنفي أبداً إحتمالية وجود شيء ما سابق للإنفجار الكبير, ومما تجدر الإشارة اليه هو أن تعبير الإنفجار الكبير ليس إلا مصطلحاً كان يستخدم تهكماً ببدايات النظرية, أما النظرية بحد ذاتها لا تشترط وجود فردانية Singularity كي تنفجر. وأود هنا أن أقترح على القارئ مقالة بعنوان A Tale of Two Big Bangs لمعهد ماكس بلانك للفيزياء الجاذبية(28), يوضح الكاتب فيها خطأ الإعتماد على نظرية الإنفجار الكبير لإثبات الفردانية Singularity, ويوضح الكاتب أيضاً الفرق بين طور الإنفجار الكبير Big Bang phaseوالذي نشأ عنه الكون قبل 13.7 مليار سنة, وما يفترض أن يسبق هذا الطور وما يعرف بالفردانية, وموقف المجتمع العلمي لكل منهما.
لقد تم نشر عدة نماذج نظرية تقترح أليات لتفسير بداية الكون والإنفجار الكبير من كون سابق, كأن يكون نفقاً كمومياً Quantum Tunneling أو ما يسمى التذبذبات الكمومية Quantum Fluctuations(29). ومعادلات علم الكونيات Cosmology التي تصف الكون المبكر تنطبق تماماً على الجانب الأخر من محور الزمن, وبالتالي ما من سبب يدفعنا لإفتراض أن الكون بدأ بالإنفجار الكبير.
في كتابه الكون القابل للفهم The Comprehensible Cosmos, قدم عالم الفيزياء النظرية Victor Stenger تتابعاً محدداً لأصل طبيعي لا يتطلب أي معجزة لنشوء الكون(30), وكان قائماً على نموذج غياب الحدود nonboundary model لجيمس هيرتل وستيفن هاويكنغ(31). في ذلك النموذج, ليس للكون بداية أو نهاية في الزمان أو المكان. وفي التتابع الذي قدمه ستينجر, يوصف الكون بأنه قد “تغلغل” عبر الفوضى في زمن بلانك من كون سابق كان موجوداً طوال الزمن السابق.(30)
بالإضافة الى هذا, نشر أليكساندر فيلينكن مقالة علمية بعنوان Creation of Universe From Nothing, إقترح فيها سيناريو ممكن لوجود الكون من لاشيء, ليس زمكان فارغ بل لاشيء بشكل حرفي عبر النفق الكمومي. وفي مقالته أيضاً, أشار الى أنه لا سبب مطلوب لهذا السيناريو.(33)
كذلك نشر فيزيائيون وعلماء كونيات بارزون, في مجلات علمية مرموقة, عددا من التتابعات الأخرى التي يمكن للكون فيها أن ينشأ “من لا شيء” وبشكل طبيعي(34)(35)(36)(37). لا يمكن “البرهنة” على أي منها حالياً لتمثيل الشكل المضبوط الذي ظهر به الكون, ولكنها تفيد لتوضيح أن أي برهان على وجود الإله يقوم على هذه الفجوة في المعرفة العلمية يفشل, لأن أليات طبيعية معقولة يمكن تقديمها ضمن إطار المعرفة الحاضرة, وعلى المؤمن أن يقوم بغمس نفسه في سنوات مجهدة من الرياضيات والفيزياء والكونيات ويحاول أن يفند إحتمالية هذه الأليات ويثبت أن معجزة إلهية كانت مطلوبة لخلق الكون, وبعد هذا من الممكن أن يؤخذ لكلامه إعتبار حين يجادل في الحجة السببية الكلامية.
يمكننا أن نلخص كل هذا, وبإختصار شديد, بقولنا: أن الأدلة التجريبية والنظريات التي وصفت نجاح البيانات والمشاهدات تدل على أن الكون لم ينشئ من خلال خلق هادف, وبناء على أفضل معارفنا العلمية المعاصرة, ما من خالق ترك بصمته الكونية على خلقه الهادف.
إله غير مادي, ولكنه واعٍ؟
عادة ما يوصف الإله في الأديان أو بشكل عام بصفات تفترب أكتر الى عقل واعٍ. فهو يحاسب وهو يغضب ويفرح ويراقب ويتابع. وذلك متوقع جداً, بما أننا نعلم أن هذا الإله هو بالفعل كيان تم فرض وجوده في سنوات كانت مخيلة العقل البشري محدودة الى درجة ما. وحتى في التفسيرات العامة لمصطلح الإله, نجد أنه يوصف كقوة واعية أو كطاقة واعية. ويمكننا أن نرتب الأوصاف التي تعزى الى الإله على سلم. درجة هذا السلم العليا, هي أقرب الدرجات للمواصفات الواعية البشرية بمخيلة محدودة. ودرجته الدنيا, هي أبعد للمواصفات الواعية البشرية.
[list="border: 0px; font-family: Tahoma, Arial, sans-serif; font-size: 15px; margin-right: 1.15385em; margin-bottom: 1.5em; margin-left: 0px; outline: 0px; padding-right: 0px; padding-left: 0px; vertical-align: baseline; color: rgb(64, 64, 64); line-height: 24px; text-align: right; background-color: rgb(255, 255, 255);"]
[*] كيان يجلس على عرشه في مكان يسمى السماء السابعة. يشبه البشر عامة وقد خلق البشر على صورته, له قدرات مطلقة.
[*] كيان لا يشبه البشر أبداً, يبتعد عن أي تصور إنساني, له قدرات تفوق البشر.
[*] كيان حسي واعٍ يقع فوق الزمكان.
[*] قوى أو طاقة واعية مطلقة الوجود.
[*] إرادة حرة واعية.
[*] كيان موجود واعٍ فحسب.
[/list]
تتعدد وتكثر درجات هذا السلم بعدد الألهة والأديان, فلا يمكنني أن أذكرها كلها. ولكن يمكننا القول بأن هذا الإله إن كان موجوداً فأقل درجات وجوده من حيث التشابه مع صفات البشر هي كونه قوى أو طاقة أو إرادة حرة فحسب. وجميع هذه النماذج تشترك بأن تفترض لهذا الإله وعياً. ولكن نحن نعلم, وبحسب ما تشير اليه المفاهيم العلمية المعاصرة بأن الوعي ما هو إلا نتيجة لنشاط العقل المادي, وهو مفهوم أكثر من كونه واقع. ويمكننا حصر وجود الدماغ – مسبب الوعي – في الزمكان الفيزيائي. وأكثر من هذا يمكننا عزو وجود الوعي الى أسباب تطورية.(38) فكيف لمفهوم يشترط وجود مسببه بوجود الزمكان, ويعزى الى أسباب تطورية داروينية أن يكون سبباً في وجود الكون والزمكان؟
لماذا هنالك شيء بدلاً من لاشيء؟
لماذا هنالك شيء بدلاً من لاشيء؟ هذا السؤال كثيراً ما يكون الملجأ الأخير للمؤمن بالله الذي يحاول المجادلة لإثبات وجود الله من الفيزياء والكونيات ويجد أن سائر بارهينه كلها تفشل. وصف الفيلسوف بيد راندل Bede Rundle هذا السؤال بـ “السؤال المركزي” و “الأشد تحييراً”. وجوابه البسيط – وكان طوله 200 صفحة يختصر بـ “لابد من وجود شيء ما”.(29)
من الواضح أن عدة مشاكل تصورية ترتبط بهذا السؤال. فكيف نعرف اللاشيء؟ وما هي خواصه؟ وإن كان له خواصاً, ألا يجعله هذا شيئاً؟ يدعي المؤمن أن الله هو الجواب, ولكن لماذا يوجد الله بدلا من لاشيء؟ بإفتراض أن بإمكاننا تعريف اللاشيء لماذا بجب أن يكون اللاشيء حالة أكثر طبيعية للأمور بدلاً من الشيء؟
في الواقع يمكننا تقديم سبب علمي معقول يقوم على أفضل معارفنا الحاضرة في الفيزياء والكونيات لكون الشيء أكثر طبيعية من اللاشيء. فبما أن اللاشيء هو أبسط ما يمكن, فلا يمكننا أن نتوقع له أن يكون مستقراً جداً, وعلى الرغم من غرابة هذا الإقتراح إلا أن المعرفة العلمية المعاصرة تدعمه بقوة كمبدأ التنظيم الذاتي Self-organization (40), فمن المرجح أنه سيخضع لتحول طور تلقائي الى شيء أكثر تعقيداً, ولا يستبعد أن يكون كوناً يحتوي على مادة. هذا التحول من اللاشيء الى الشيء هو أمر طبيعي, ولا يتطلب أي فاعل, وكما صاغها الفيزيائي الفائر بجائزة نوبل فرانك ويلتشيك Frank Wilczek: “إن الجواب على السؤال القديم, لماذا هنالك شيء بدلا من لاشيء سيكون إذاً أن اللاشيء هذا غير مستقر”(41)
وتجدر الإشارة الى ما ذكره ألان جوث في كتابه The Infaltionary Universe: “السؤال حول من أين أتى كل شيء في الكون لم يعد خارج نطاق البحث العلمي. بعد ألفي سنة من البحث العلمي, يتبين لنا الأن أن لوكريتوس كان مخطئاً. “كل شيء” من الممكن أن يكون قد أتى من “لاشيء”, و “كل شيء” ربما يحتوي على أكثر مما نراه. ومن منظور التضخم الكوني Inflationary Cosmology, من الأمن أن نقول أن هذا ينطبق على الكون, وأن الكون وجبة غداء مجانية”.(42)
وأقتبس من كتاب Many World in One لأليكساندر فيلينكن قوله: “إن كان لايوجد أي شيء قبل أن يولد الكون, فما الذي سبب النفق الكمومي ليبدء الكون بالوجود؟ بشكل مثير للإهتمام, الإجابة على هذا السؤال هي لا سبباً مطلوباً لذلك. في الفيزياء الكلاسيكية, تحكم السببية ما يحدث من لحظة الى أخرى, ولكن في حالة الفيزياء الكمومية بطبيعتها لايمكن التنبؤ بها والكثير من الأحداث الكمومية لا تتطلب سبباً على الإطلاق.”(43)
وفي نموذج غياب الحدود nonboundary universe الذي إقترحه هوكينغ وهيرتل, يمكن فعلياً حساب إحتمالية وجود شيء بدلا من لاشيء, وهي أكثر من 60 بالمئة.(30)
بإختصار, الحال الطبيعية هي شيء بدلا من لاشيء. واللاشيء في الحقيقة يتطلب إلهاً ليبقيه لاشيء, أي بالعمل المستمر وحده لفاعل خارج الكون, مثل الله, يمكن لحالة من العدم أن تدون, وحقيقة أن لديناً شيئاً هي بالضبط ما نتوقعه لو لم يكن الله موجوداً.
كلمة ختامية
ربما اطلنا الموضوع وخاصة في هذا الجزء, ربما كان كافياً الجزء الأول لإقناع البعض, وربما دخلنا في تفاصيل علمية يصعب على القارئ المبتدئ إستيعابها, ولكن لم يكن هذا إلا ليرى القارئ مدى ضحالة هذه الحجة على الرغم من ما يظهر على قشرتها. قدمنا الحجة السببية في الجزء الأول بخمسة نقاط كانت:
[list="border: 0px; font-family: Tahoma, Arial, sans-serif; font-size: 15px; margin-right: 1.15385em; margin-bottom: 1.5em; margin-left: 0px; outline: 0px; padding-right: 0px; padding-left: 0px; vertical-align: baseline; color: rgb(64, 64, 64); line-height: 24px; text-align: right; background-color: rgb(255, 255, 255);"]
[*] كل ما بدء أن يوجد, له مسبب.
[*] الكون قد بدء بالوجود.
[*] لذا, فالكون له مسبب.
[*] الله هو التفسير الأفضل لهذا السبب.
[*] الله له وجود وكان له دور في خلق الكون.
[/list]
في هذه المقالة رأينا كيف أن مفهوم السببية هو مفهوم خاطئ ويفتقر الى الموضوعية ولا يمكننا بناء أي حجة عليه. ورأينا كيف أن إدعاء الكون قد بدء بالوجود هو إدعاء لا تدعمه المعرفة العلمية المعاصرة. بالإضافة الى هذين النقطتين رأينا كيف أن الإله لا يعد تفسيراً جيداً لخلق الكون إن كان بالفعل له بداية وله سبب, وقدمنا سيناريوهات مقبولة علمياً كلها ممكنة لإيجاد الكون دون أي تدخل من الإله. وعرضنا في النهاية إجابات علمية مرموقة – على الرغم من أنها مختصرة – للسؤال الذي أرق البشرية منذ أن بدأت بالتفكير, لماذا هنالك شيء بدلاً من لاشيء.
عزيزي القارئ, كما تتوقع أنت بعد قراءتك لهذه المقالة, تشير أخر الإحصائيات الى أن أغلبية علماء الفيزياء الكونية هم بالفعل ملحدون لا يؤمنون بتدخل إلهي لخلق الكون(44). ولكن هذا لا يعني أن جميعهم ملحدون, فهنالك من العلماء المؤمنين من لهم إنجازات علمية كبيرة في مجال الفيزياء الكونية, فلنترك أخر السطور ليملئها أحدهم: “بقدر ما أستطيع أن أرى, هذه النظرية [نظرية الإنفجار الكبير] تقع تماماً خارج أي سؤال ميتافيزيقي أو ديني, فهي تترك المادية لتنفي أي كينونة إلهية متعالية. وبالنسبة للمؤمن فهي تزيل أي محاولة لمعرفة الله, وتتفق مع أشعيا حين تحدث عن ذات الله الخفية, خفية حتى في بداية الكون”.(45) – جورج لاميت, أول من وضع نظرية الإنفجار الكبير.