(دراسة مهداة الى صاحب القلب الكبير المفكر غالب الشابندر.. كتعبير عن مواساتي لفقد نجله الاكبر ومحبتي الدائمة بلا حدود)
معلوم ان هناك اتجاهين رئيسيين لتفسير علاقة السببية في الطبيعة، هما الاتجاه العقلي كما لدى المنطق الارسطي، والاتجاه الحسي التجريبي كما لدى جون لوك وديفيد هيوم والوضعيين والماركسيين وغيرهم. ويركز الاول على وجود عنصر ميتافيزيقي يتوسط بين السبب والمسبب، يطلق عليه (الضرورة) او الحتمية. أما الاخير فيميل الى اعتبار السببية مجرد تتابع اقتراني بين حادثتين تتصفان بثلاثة شروط، هي الاقتران المكاني والزماني والتتابع المضطرد، ويمكن تقليصها الى خاصتين حسيتين هما الاقتران المكاني والتعاقب الزماني المضطرد بين الحادثتين، وانه وفق هذا الاتجاه لا توجد علاقة اخرى تتخلل هذه الاقترانات، فالحس والتجربة لا يشيران الى عنصر اخر جديد في المعادلة، وبالتالي لا دليل على علاقة الضرورة او الحتمية، فهي مفترض ميتافيزيقي خارج نطاق الحس والتجربة. ويترتب على هذا الامر الزعم القائل ان من الممكن ان يحضر السبب من دون مسبب، او يحضر المسبب مع عدم وجود السبب، وبهذا المعنى تكون العلاقة بين ما يسمى (سبب) وما يسمى (مسبب) صدفوية رغم تتابعهما المضطرد.
فهذا هو المذهب الحسي التجريبي ويخالفه الاتجاه العقلي الذي يؤمن بان السببية تتضمن ضرورة موضوعية صارمة، وبالتالي فهو ينفي امكانية وجود مسبب من غير سبب، او العكس. وهو حينما يدعي ذلك لا يقدم دليلاً تجريبياً على دعواه، بل يشير فقط الى الجانب المضطرد للعلاقة، وبالتالي فالضرورة او الحتمية هي مفترض ميتافيزيقي يترتب عليه ان لا يتخلف المسبب عن سببه، ولا السبب عن مسببه، فعلاقتهما تتصف بالحتمية التي تقتضي المعاصرة او الآنية المطلقة.
ومع ان هناك من حاول اثبات الضرورة السببية عبر الدليل الاستقرائي، الا ان التحقيق يثبت ان هذه المحاولة خاطئة. ففي (الاسس المنطقية للاستقراء) سعى المفكر محمد باقر الصدر الى البرهنة على عنصر الضرورة من خلال الاختبارات الاستقرائية، لكن سعيه لم يصادف النجاح كما كشفنا عنه في (الاستقراء والمنطق الذاتي)، وقد تراجع الصدر ذاته عن هذه المحاولة في دراسة متأخرة؛ معترفاً بان الضرورة هي عنصر غيبي لا يخضع للاختبار التجريبي والاستقراء .
ان تحديدنا السابق للاتجاهين العقلي والحسي التجريبي لا يفرق بين السببية العامة والخاصة. فوفق الاتجاه العقلي انه مثلما تصدق الضرورة في حالة السببية العامة القائلة: لكل حادثة سبب ما، فانه تصدق ايضاً في حالة السببية الخاصة؛ مثل تخللها للعلاقة التي تربط تمدد الحديد بالحرارة. في حين يخالفه الاتجاه التجريبي بنفي الضرورة في كلا الحالتين (العامة والخاصة). وبالتالي فالمذهبان يفترقان حول ما سبق باتساق.
لكن توجد بعض الاتجاهات الوسطى التي تعالج السببيتين العامة والخاصة معالجة مختلفة، كالذي نجده لدى التفكير الكلامي الديني. فعموم هذا التفكير يعترف بالسببية العامة، وهو يعزو اساس الحوادث الى مبدأ الوجود الاول، فهو العلة الحقيقية التي تقف وراء جميع الحوادث وارتباطاتها. وبالتالي يعتمد هذا التفكير على السببية الغيبية في تفسير العلاقات الكونية، أما السببية الخاصة فنجد حولها شيئاً من الاختلاف مع الاعتراف بانها ليست ضرورية كما هي الحال لدى السببية العامة.
فهناك الاتجاه الذي يحدد علاقة السببية بالاقتران والتتابع من دون تضمّن الضرورة والتأثير، اذ يقتصر الاخير على السببية الغيبية او الارادة الالهية، وهي الفكرة التي تبناها الاشاعرة والكثير ممن ينتمي الى الاديان السماوية، فلديهم ان علاقات الطبيعة هي مجرد علامات، اي انها صدفوية تفسرها العادة النفسية من دون ان يتخلل التأثير فيما بينها. فالتأثير لدى الاشاعرة هو خلق متجدد باستمرار طبقاً لقاعدة (العرض لا يبقى زمانين)، فكل ما نراه من اتصال جسمي يعبّر في الحقيقة عن تفكك وانفصال دائم وإن أوهمنا باتصاله. فضآلة اللحظات او الآنات المتجددة بتجدد الخلق هي ما تجعل الاشكال الجسمية تبدو متصلة ومتناغمة؛ رغم انها مفككة على الدوام، والله هو من يعيد خلقها بعد افنائها في كل آن. وبالتالي لا تأثير للاشياء بعضها في البعض الاخر، بل الكل مفكك وخاضع للتأثير المباشر من قبل المبدأ الحق، وفقاً لقاعدة (لا فاعل في الوجود الا الله). فجميع الكائنات، سواء باشكالها الذاتية او بعلاقاتها الخاصة، تعبر عن أعراض تتجدد في كل آن وزمان، وان اقتراناتها تتصف بالمصحابة دون ان يكون لها ادنى تأثير، وما نعتبرها اسباباً انما هو بفعل الوهم والخداع نتيجة (العادة النفسية)، وهي المقولة التي رددها الفيلسوف الحسي ديفيد هيوم فيما بعد.
كما هناك الاتجاه الذي يقف وسطاً بين من يقول بالضرورة السببية ومن يرى انها تتابع مقترن، حيث الاعتراف بتأثير السبب على المسبب وان لم يصل الحد الى الضرورة، ويتمثل هذا الاتجاه بابن حزم الاندلسي صاحب نظرية الطبائع المخلوقة، وقبله الكثير من المعتزلة ممن يقولون بنظرية التوليد .
كذلك هناك الاتجاه الذي يستند الى السببية في بعدها المعرفي الذاتي لتحديد جانبها الموضوعي، كما يتمثل بمذهب فيلسوف القرن الثامن عشر الالماني عمانوئيل كانت. فهو يرى ان الاشياء بوصفها موضوعات للتجربة الممكنة، او القابلة للمعرفة، هي رهينة الافتراض القبلي للضرورة السببية وغيرها من المقولات، وبدونها تسقط هذه المعرفة. فمبدأ السببية هو مبدأ امكان التجربة التي تعمل على تنظيم الظواهر الطبيعية، وهو لا يمتد الى ما ورائها، اي الى (الشيء في ذاته). فمثلاً ان النفس البشرية كشيء في ذاته لها ارادة حرة لا تخضع لهذا المبدأ وقوانينه الحتمية. وكي لا يحصل تناقض بين القول بالضرورة السببية والارادة الحرة، كان لا بد من افتراض وجود عالمين مختلفين للشيء، ظاهر وباطن، وهما المطلق عليهما عالم الظواهر الخارجية (فينومينا) وعالم الشيء في ذاته (نومينا) . والاول هو عالم تنتظم موضوعاته وتتلون وفقاً لطريقة تصورنا عبر الحدس الحسي، فتصطبغ بهيئة (الشيء لذاتنا)، وبالتحديد انها تخضع لمبدأ السببية وسائر المقولات القبلية للذات البشرية، خلافاً للثاني الباطني (الشيء في ذاته) الذي يغيب عنده المبدأ المذكور مع غيره من المقولات القبلية بما فيها الرياضيات. ومع ذلك فان كانت يجعل الصلة بين العالمين رهينة السببية ذاتها، ويعبر عنها – هنا - بالعلية، وهي صلة الوصل بين الارادة الحرة للشيء في ذاته والضرورة السببية في عالم الظواهر الطبيعية . لكن يظل الشيء في ذاته غير خاضع للسببية الصارمة وغيرها من المقولات القبلية. فلكون هذا العالم يعبّر عن ارادة حرة فانه يكون خارج حدود امكان التجربة التي يؤسسها مبدأ السببية الحتمية وسائر المقولات.
ويظل الواقع الموضوعي لدى عمانوئيل كانت مزدوجاً بنوع من المفارقة، وهو يشابه ما يدعو اليه العرفاء من وجود عالمين متناقضين، احدهما ظاهر يمتثل لكل القضايا المنطقية والعقلية والضرورية، في حين ان باطن هذا العالم يتحرر كلياً من هذه القيود دون ان يمتثل لها أبداً. فحتى بخصوص مبدأ عدم اجتماع الاضداد فانه لا يتحكم بهذا العالم الخفي، فهو جامع الاضداد والتناقضات، وهو المتحرر من كل قيد وشرط ووصف، وهو الأحد بلا إسم ولا رسم ولا نعت . وهو بالتالي أشبه ما يكون (الشيء في ذاته) المجهول الهوية واللامشروط بحسب تعبير كانت.
وهذه الصورة هي ايضاً شبيهة بما دعت اليه النظريات الفيزيائية المعاصرة في التفرقة بين العالمين الكبير والصغير، او الجسمي المشهود والجسيمي الخفي المناقض للاول في علاقاته وقوانينه، ومنها تلك التي ركّز عليها كانت قبل اكثر من قرنين؛ كالسببية والزمان والمكان.
***
وباستثناء نظرية عمانوئيل كانت، تتفق الاتجاهات التي عرضناها آنفاً على نقطة رئيسية واحدة؛ هي اتصاف السببية بحالة الاقتران المكاني والزماني المضطرد في الواقع، كما تدل عليها النظرة الحسية، لكنها تختلف فيما بينها حول قضيتين غير حسيتين، هما التأثير والضرورة، والرابط بينهما هو الاقتضاء، اذ الثانية تقتضي الاول من دون عكس. فلو اننا آمنا بالضرورة السببية لاقتضى الامر الاعتقاد بالتأثير، أما لو اقتصرنا على الاخير؛ لما دلّ ذلك على الضرورة، مما يعني ان احدهما لا يكافئ الاخر او يساويه.
وبالتالي يمكن تحديد مواقف الاتجاهات السابقة من قضيتي التأثير والضرورة كما يلي:
فالمذهب العقلي الارسطي يثبت الضرورة، وهو ما يعني التزامه بمنطق التأثير ايضاً. وعلى خلافه المذهب الحسي الذي يكتفي باثبات الصفة الحسية للاقتران واضطراد العلاقة السببية، وينكر غيرها من العناصر الميتافيزيقية المفترضة كالضرورة والتأثير، رغم انه من الممكن الاستدلال على عنصر التأثير – دون الضرورة – لدى العلاقة السببية الخاصة بالدليل الاستقرائي . فالفارق الوجودي بينهما هو ان التأثير ليس بشيء كينوني، بل هو فعل يحتاج الى فاعل مؤثر وفق مبدأ السببية العامة، ويمكن الاستدلال على خصوصية هذا المؤثر (غير المحسوس) عبر منطق الاحتمال والدليل الاستقرائي. في حين ان الضرورة ليست بكينونة ولا بفعل، بل هي أمر عدمي اعتباري، فكل ما تعنيه ان الشيء يظل على حاله من الوجود او العدم دون ان تكون له قابلية على التغير مطلقاً، وهي من هذه الناحية العدمية غير قابلة للاستدلال.
يبقى ان الكثير من المعتزلة وابن حزم الاندلسي يؤيدون فكرة تأثير السببية الخاصة دون الضرورة. أما عمانوئيل كانت فله موقف آخر ازدواجي، فرغم انه يعتبر مبدأ السببية من الضرورات القبلية التي تصدق على الظواهر الطبيعية، لكنه ينفيها عندما يتعلق الامر بالشيء في ذاته العصي عن العلم والمعرفة.
الخميس مارس 24, 2016 10:55 am من طرف نابغة