في نقد الحجة السببية
عن ماذا نتحدث؟
لقد قدّم الكثيرون أطروحاتٍ تسخر وتعصف بالحجّة السّببيّة من سروالها، ولكنّهم عادةً لا يذكرون الصّورة العامة؛ فقبل البدء أعزائي تذكّروا بأنّ هذه الحجّة تقدّم لإثبات وجود الإله الإبراهيمي المذكور في الكتب المقدّسة – كالإنجيل والقرآن، إنّه الإله المطلق القوى، مطلق القدرات، مطلق المعرفة، مطلق الوجود، الإله الواعي ذو الصّفات الشخصيّة، الذي يثيره البشر ومحيطهم وعادةً – إن لم يكن دائمًا بشكلٍ مطلقٍ – ما يكون مهتمًّا جدًا لما يفعله البشر، كما أنه الإله الذي وصفته الكتب المقدّسة بأنّه قد أظهر نفسه وأحيانًا قدراته، بل وتدخّل شخصيًّا أحيانًا في محاولاتٍ لإثبات وجوده في كثيرٍ من الأحداث وفي كثيرٍ من مناطق الشّرق الأوسط، إنه الإله الذي عادةً ما تكون له متعةٌ في خرق القوانين والثّوابت الفيزيائيّة ويسميها المعجزات، ونحن نتكلّم عن كيانٍ يودّ منّا أن نؤمن به بشكلٍ يائسٍ، وقد حاول ذلك على مرّ التاريخ حتى يكاد ذلك أن يصبح همه الوحيد وشغله الشاغل، فإن نظرنا إلى هذه المواصفات وتمعنّا فيها، سنجد أنّ إثبات وجود هذا الإله سيكون أسهل من إثبات وجود القمر، ولكن هذا ما تكذّبه المحاولات المتكرّرة واليائسة والتي عادةً ما تكون فاشلةً – إن لم تكن كذلك في معظمها.
الفطرة ضدّ الفطنة، الحدس ضدّ الإبصار
إنّ الكائن البشريّ لهو كائنٌ فطريٌ، بمعنى أنّ لدينا نظرةً وفهمًا حدسيًّا مسبقًا حول الكثير من الأمور، ممّا يعطينا تفاعلاً خاصًا عاجلاً لما يدور من حولنا؛ فقد تكون البديهيّات الحدسيّة واضحةً أو مشوّشةً، قويةً أو ضعيفةً، محدّدةً أو عامّةً، والأمور التي تتعلّق بتلك البديهيّات لها مدىً واسعًا يمتدّ بدءًا من ما يدور حولنا في حياتنا اليوميّة إلى أمورٍ عميقةٍ وجذريّةٍ، فتمتدّ من الميتافيزيقيا إلى العلم الماديّ ومن الدفاعات الوقائيّة إلى الأخلاقيّات البشريّة، ونشير إلى تلك الكتلة من التفاعلات العاجلة بمصطلح «الفطرة السليمة»، ذلك المصطلح الغامض الضبابيّ، وأشدّد هنا على كلمة «سليمة»، ودعوني أتساءل: سليمةٌ من ماذا؟
لقد كان التاريخ البشريّ حافلاً بعمليّة تحرّرنا من أوهام الحدس الفطريّ، بوضع تلك الأوهام بين سندان العلم التجريبيّ ومطرقة الفطنة، وكقاعدةٍ يمكننا القول بأنّها لا تصمد جيدًا، ولكن في كلّ خطوةٍ من تلك العمليّة الطويلة يظهر لنا المنادون بالحدس الفطريّ مدافعين وبكلّ ما أوتوا من قوّةٍ عنه، مصرّين على أنّ منطق ودليل وحجّة الفطنة – أو على الأقل الطريقة التي تمّ التفسير بها – لابد أن تكون خاطئةً، كما يعتبر بعض مهلّليه بأنّ حدسًا فطريًا معيّنًا يجب إستخدامه في مواضيع محدّدةٍ، ويعتبره آخرون بأنّه طريقةٌ عامّةٌ لإستكشاف المحيط، أو بأنّه أساس الحصول على أيّ معرفةٍ كانت.
وعلى الرّغم من ظهورهم المتكرّر وكثرتهم، إلا أن التاريخ لم يكن لطيفًا مع المنادين بالحدس أو الحسّ الفطريّ؛ فلنبدأ بأكثر الحقائق وضوحًا في عالمنا، فكوكبنا يكون على شكل كرةٍ، يمكننا نفي هذه الفكرة بالإستعانة بتجاربنا الحياتيّة العامّة، بل لمعظم تاريخ البشر Homo Sapiens، كنّا على ثقةٍ بأنّنا نعيش على أرضٍ مسطّحةٍ، وبالفعل، لقد عارض هذا المفهوم معارضوه معتمدين على الحسّ الفطريّ – ودفع بعضهم الإيمان بالمقدّسات والموحيات الإلهيّة، ومن ثمّ جاءت حقيقةٌ أخرى وكانت قاسيةً جدًا على حدسنا الفطريّ، وهي فكرة لا مركزيّة الأرض، فلقد بدا جليًّا لألاف السنين أن الأرض هي مركز الكون ويدور حولها الشمس والقمر؛ فهكذا كانت تبدو لهم أليس كذلك؟ وأنا أتساءل هنا – كما تساءل لودفيج فلينكنشتاين – ماذا يتوقّعون لها أن تبدو إن كانت الأرض ليس مركزًا للكون؟ لقد إستغرقت البشرية حوال مئة عامٍ في بداية العلم المعاصر بدءًا من غاليلو إلى كوبرنيقوس لكي تقرّ أن الأرض ليست مركزًا للكون.
كانت مركزية الأرض النظرة الفلكية التي تبنّاها ألمع فيزيائيٍّ عصره، أرسطو؛ إذ قدّم أرسطو نموذجًا مفصّلاً في الفيزياء الميكانيكية، توسّع وازدهر في العصور الوسطى، ولكنه أبطل على يد الفيزيائيّ الشهير إسحاق نيوتن، وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي قامت به البشريّة لكي تتوجّه نحو الفيزياء النيوتنيّة، إلا أنّه يبدو بأنّ الفيزياء الأرسطولية مطبوعةٌ في أدمغتنا، كما أشارت عدّة دراساتٍ نفسيّةٍ
[1]، ويصحّ ذلك حتى على من قام بالفعل بدراسة الفيزياء النيوتنية؛ فإن أعطيتهم فرصةً ليفكّروا بالمكيانيكا الفيزيائية للقيام بأمرٍ ما، سيطبّقون الفيزياء النيوتنية الصّحيحة، ولكن إن وضعتهم في موقفٍ لا يسمح لهم بالتفكير أو التحليل العلميّ للميكانيكا الفيزيائية، ليستخدموا ما يتوصّل اليهم حدسهم الفطري، فسيعودون بشكلٍ تلقائيٍ إلى العصور الوسطى حيث يزدهر نموذج الفيزياء الأرسطولية، فعلى الرّغم من مئات السنين من الأدلّة والتجارب والتعليم والتطبيقات النّيوتنية للفيزياء، ويبدو أنّنا لا يمكننا ان نزحزح شبح الفيزياء الأرسطولية.
هذا مثالٌ بسيطٌ يوضّح الفرق بين النموذج النيوتني والنموذج الأرسطولي ولمزيدٍ من الأمثلة قم بمتابعة دراسة أرثر مكلوسكي على مجلّة Scientific American؛ إذ يوضّح فيها كيف أنّنا نسقط تلقائيًا بخطأ نموذج الميكانيكا الأرسطولية نتيجةً لحدسنا الفطري.
وليست الفيزياء وحدها من عانت من الحدس الفطريّ الخاطئ الذي ازدهر لدى إغريق العصور الوسطى؛ إذ بنيت الهندسة الإقليديّة التي يدرسها معظم طلاّب المدارس الإبتدائيّة على أساس الحدس الفطري، فقد أسّس إقليدس هندسته على خمسة مسلّماتٍ، مبادئ وصفها بأنّها «لا تتطلّب إثباتًا عقلانيًا، لأنّه لا شخصٌ عقلانيٌ من الممكن أن يشكّ في صحّتها»، ولقد بقيت قناعة المهندسين لمدّة ألفيّ سنةٍ بأنّ مسلّمات إقليدس الخمسة لا يمكن لشخصٍ واعٍ بالهندسة أن ينكرها، ولسوء حظّ قناعتهم، اكتشفنا خطئهم مرارًا وتكرارًا، ففي القرن التاسع عشر، حدثت واحدةٌ من أكبر التطوّرات في علم الهندسة حين قام رياضيّين إثنين بوضع أولى النّماذج للهندسة غير-الإقليديّة، وحينها خرقوا مسلّمة إقليدس الخامسة (مسلّمة التوازي)
[2] ، وجاءت في القرن العشرين نظريّة إينشتاين في النّسبيّة لتقوم بوصف هندسة كوننا الذي نعيش فيه بشكلٍ أقرب صلةً بالواقع من إقليدس، واقتنع الكثيرون بأنّ الزمكان له هندسةٌ هي بالفعل غير-إقليدية، وحتى القرن العشرين لم تكن لدينا أي تكنولوجية من الممكن أن تكشف عن خرقٍ للهندسة الإقليدية، ولكن تنبّأ أينشتاين أنّ مثل هذه الخروقات لها وجودٌ في الكون، وتمّ التحقّق من هذه التنبّؤات بكشف الخروقات في وقتٍ لاحقٍ من قبل الملاحظات التجريبيّة كالانحناء الطفيف في ضوء النّجم خلال الكسوف الشّمسي في عام 1919، وهذه الاعتبارات هي الآن في الحقيقة جزءٌ لا يتجزّأ من برامج تحديد المواقع GPS في التكنولوجيا المعاصرة.
[3]لقد أذلّ نجاح الهندسة غير-الإقليدية ثقتنا بأن نقوم باستخدام حدسنا الفطريّ لكشف الحقائق، ولم يكن وحيدًا في هذا الفعل؛ فبالإضافة إلى قلب النّموذج النيوتنيّ في الفيزياء – والذي اقتنع العلماء بنجاحه بشكلٍ باهرٍ وظنّوا أنّ معظم الأسئلة العلمية تمّ حلّها ولم يبقى سوى هيكلة التّفاصيل – قام إينشتاين بقتل حدس فطري آخر، وهو التزامن Simultaneity، وعلى الرّغم من الحدس الفطريّ القويّ الذي يحاول أن يؤكّدها، إلا أنّ فكرة أنّ حدثين تزيد المسافة بينهما عن صفر يحدثان في نفس الوقت هي فكرةٌ خاطئةٌ، فالأحداث تقع في الوقت ذاته فقط نسبةً إلى الأطر المرجعيّة Frames of Reference، وبالنسبة لإطارٍ مرجعيٍ آخر قد يكون الحدث (أ) يسبق الحدث (ب)، وبالنسبة لإطارٍ مرجعيٍ آخر أيضًا قد يكون الحدث (ب) يسبق الحدث (أ)؛ إذ أنّ الزمن، والذي ظنّ الإنسان أنه مطلقٌ منذ أن بدء يفكر به، أصبح الآن نسبيًّا، ومرةً أخرى نرمي الحدس الفطري بعيدًا نتيجةً لضوء الاكتشافات العلميّة.
ولكن أكثر المجالات العلميّة تناقضًا مع الحدس الفطري هي الميكانيكيّة الكمومية Quantum Mechanics، فهنالك الكثير من الظواهر الغريبة والتي تعارض وتنتهك الحدس الفطري حتى وصفها ريتشارد فاينمن Richard Feynman – أحد أعظم العلماء في المئة سنةٍ الماضية – بقوله المشهور: «لا أحد يفهم الميكانيكية الكمومية»؛إذ تخبرنا الميكانيكية الكمومية بأن الفوتون هو موجةٌ بالإضافة إلى كونه جسيمًا، والجسيمات المتشابكة Entangled Particles من الممكن أن تؤثّر بعضها بعضًا بشكلٍ فوريٍّ أسرع من سرعة الضوء ومن مسافاتٍ بعيدةٍ جدًا، حتى أن بعض الجسيمات بإمكانها أن تسافر وتعود عبر الزّمن؛ فيصرّح مبدأ الشك لهايزينبيرغ Heisenberg Uncertainty Principle بأنّ عملية تحديد الموقع الدقيق لجسيمٍ ما، بإمكانها أن تلغي عملية قياس سرعته، وعملية قياس سرعته بإمكانها أن تلغي عملية تحديد موقعه، وبتعبيرٍ آخر – ربما يكون أكثر فهمًا – في ظل ظروفٍ معيّنةٍ يمكن للجسيمات أن توجد ولكن ليس في موقعٍ محدّدٍ، وبإمكانها أن تتحرّك، ولكنها لا تتحرّك بإتّجاهٍ محدّدٍ أو بسرعةٍ محدّدةٍ، وعلى الرّغم من الغرابة الكبيرة التي تظهر على الأسطر السّابقة، إلّا أنّ القوة الرّياضيّة التي تدعم الميكانيكا الكمومية تمكّننا من أن نقوم بقياساتٍ تنبّؤيةٍّ بدقّةٍ كبيرةٍ جدًا، وهذه الظواهر الغريبة، يشار إليها في بعض الأحيان بمصطلح: «الغرابة الكمومية» ويصّوّر لنا هذا الاصطلاح كم هي متناقضةٌ مع الحدس الفطري الإنسانيّ.
إنّ معضلة الحدس الفطريّ الإنسانيّ تتزايد وتعظم حتى تتخطّى قوانين الكون الذي نعيش فيه، بل وتصل إلى المنطق والرياضيات؛ فلمعظم تاريخ الرياضيات، تمّ افتراض أن الرياضيّات بصورةٍ عامّةٍ مبرّرةٌ عقلانيًّا، ومتماسكةً، وكاملةً، ومحسوبةً، وكما وصفها ديفيد هيلبيرت – أحد أكثر الرياضياييّن ألمعيّةً في القرن العشرين، بقوله: «في الرياضيّات، لا يوجد ما لن نعلمه»، كما كتب عملاقا الرياضيات، بيرتراند راسل وألفرد نورث وايتهيد، كتاب Principia Mathematica والذي حاولا فيه جاهدين أن يجمعما به الرياضيات كلها، ولم يفق هذا الكتاب إلا فشل محاولته على يد كيرت جيرتل Kurt Godel في العام 1931؛ إذ نشر كيرتل إثباتين إثنين، وكانا دامغين إلى أعلى درجةٍ من الممكن أن تصل إليها الرياضيات، بأنّ الرياضيات بنفسها وبحكم الضرورة غير مكتملة، وفي كلّ نظامٍ حسابيٍّ يوجد حقائقٌ لا يمكن إثباتها، كما أنّه لا يمكننا أن نبالغ في تصوير حجم هذه النتيجة؛ فلمعظم تاريخ البشريّة كنّا ممتلئين قناعةً بأن الرياضيات هي أعلى نماذج اليقين والعقلانيّة والحقيقة بنفسها، وها هو هذا النموذج يطير من نافذة كيرت كيرتل مع الريح ويصبح جزءًا من التاريخ.
بعد هذا صرّح كيرت جيرتل بالقول التالي: «لقد كانت نتيجةً مذهلة، بأن حدسنا الفطري المنطقي يكون حدسًا مناقضًا لنفسه بنفسه». إن كان لا يمكننا أن نثق بحدسنا الفطري حول الحقائق الرياضيايّة والفيزيائيّة والهندسيّة ، فكيف لنا أن نثق بحدسنا حيال أيّ أمرٍ أخر؟
بعد كل هذا، أثبت الحدس الفطري فشله مرارًا وتكرارًا، وهو تمامًا ما يعتمد عليه اللاهوتيون وآخرون من المؤمنين للبدء في الحجّة السّببيّة. ويتمّ صياغتها كالتالي:
[list="text-align: justify;"]
[*]كلّ ما بدأ أن يوجد، له مسبّب.
[*]الكون قد بدء بالوجود.
[*]لذا، فالـ كون له مسبّب.
[*]الله هو التفسير الأفضل لهذا السبب.
[*]الله له وجودٌ وتحكمٌ في خلق الكون.
[/list]
نعم إنّه الحدس الفطري الذي يناصرونه ويدفعون به ليبرّروا النقطة رقم (1) بأن كلّ ما بدأ أن يوجد، له مسبب؛ إذ لا يوجد ما يبرّر النقطة رقم (1) سوى الحدس الفطري، ويعترف بهذا معظم من يطرح الحجة السببيّة، فمنذ البداية إذًا نرى أن الحجة السببيّة الكلامية مبنيّةٌ على أساسٍ هشٍّ جدًا لطالما أشبعه التّاريخ هزائم متلاحقة.
الدوافع النفسيّة–الاجتماعيّة للإيمان بالحجة السببيّة
أحد أهم النّقاط في هذه الحجة، هي الطريقة التي يقدمها المؤمنون بها، ففي معظم الحالات تتميّز هذه الحجة بأن تقدّم بدايةً بذكر «أسرار» و«أحجيات» الإنفجار الكبير، والميتافيزيقيا السببيّة، وتذكيرٌ هامٌ يتواصل ذكره بأن الكون له عمرٌ محدودٌ، وبما أنّ الكون لا يمكن أن يقفز فجأةً إلى الوجود، لابد من وجود مسبّبٍ لهذا الوجود، وأن هذا السبب لا يفهمه ولن يصل إليه العلم، نعم لقد حزرت، إنه الله.
تعدّ هذه الطريقة في التقديم أحد أوضح التطبيقات العمليّة لما يعرف بـ «الحاجة إلى الوصول المعرفي Need for cognitive closure»، والتي تعرّف على أنها: الحاجة للإجابة على سؤال – أي إجابةٍ كانت – للإبتعاد عن الغموض وعدم اليقين، وهذه حالةٌ نفسيّةٌ لها ظواهرٌ وتطبيقاتٌ كثيرة
[4]، بل عدها البعض وربطها بشكلٍ مباشرٍ مع الإيمان الديني
[5]، ومن المهم أن نعلم أن الكثير من البشر لا يشعرون بالراحة النفسيّة حين يتعرّض إيمانهم للشك والغموض، وتعدّ هذه الحالة من حالات «الانحيّاز المعرفي Cognitive Bias».
وبالإضافة إلى هذا، لدينا حالةٌ نفسيّةٌ-إجتماعيّةٌ أخرى تعرف بإسم «العزو الاجتماعي اللاإرادي Spontaneous Social Attribution» وتعرف على أنها الميل إلى إدراك المحيط بأنه مجموعةٌ من الإجراءات المتعمّدة من قبل أطرافٍ أخرى كأن تكون – أي تلك الأطراف – كائناتٍ بشريّةٍ أو حيواناتٍ أخرى أو حتى كياناتٍ ميتافيزيقيةٍ فائقةٍ للطبيعة، وتعرف هذه الحالة أيضًا بإسم «العاملية Agenticity»، كما ربط مايكل شيرمر Michael Shermer هذه الحالة النفسية بالأديان بشكلٍ مباشرٍ وعزا وجودها لأسبابٍ تطوّريّةٍ واضحةٍ في كثيرٍ من كتاباته
[6]، وفضلاً عن ذلك، يؤمن المؤمن بأن الزلازل والبراكين والأمطار كلها بتحكم عملاءٍ فوق الطبيعة (ربما إلهٌ أو ألهة) ومن الطبيعي أن نجده يؤمن بأن الكون ما هو إلا إجراءٌ متعمّدٌ أيضًا.
لذا، وبعد أن نعلم وجود هاتين الحالتين في الفطرة النّفسيّة للإنسان، فمن الطبيعيّ جدًا أن نجده يعزو الأحداث الغامضة التي لا يعلم لها آليةً معيّنةً إلى وجود الإله، وبالتحديد إلى إلهه الشخصيّ؛ إذ يباري بذلك شكه وعدم يقينه، ومن الطبيعيّ جدًا أيضًا، أن نجده يحارب الأفكار «العلمانية» التي تضع الكيانات فوق الطبيعية جانبًا فتبدو تلك الأحداث طبيعيّةً بشكلٍ كاملٍ، ويقوم بتأليف كتابٍ كاملٍ عنوانه «السّيف البتار على من قال أن المطر من البخار»، ونجده في القرن الواحد والعشرين ينادي ويصرخ بأنّ أسباب الزلازل ليست إلا عاقبةً دنيويةً للفساد و«تقصير التنّورات».
[7]لدينا أيضًا تفسيراتٌ نفسيةٌ أخرى لن أذكرها بتفاصيلها، ولكن لمن يودّ الاطّلاع فهنالك «التفكير الغائي Teleological Thinking»
[8] و«التأنيس اللاإرادي المضطرب Impaired Spontaneous Anthropomorphizing»
[9]، ومن الجدير بالذّكر، أن علماء النّفس يجدون في هذه الدوافع النفسيّة-الاجتماعيّة وشبيهاتها سببًا لبداية الأديان وكذلك نجدها سببًا لوجود الفطرة الحدسيّة التي تؤكّد على أن كلّ ما بدأ يجب أن يوجد له مسبب.
[10]ومن هنا نرى أن الحجة السببيّة تفتقر وبشكلٍ كبيرٍ إلى الموضوعيّة، ويلجئ مقدّموها إلى الضّغط على دوافعٍ نفسيّةٍ تجعل المتلقّي يعدّها أمرًا مقبولاً إلى درجة أن يكذّب الحقائق العلمية، وبعد هذه المقدّمة الطويلة، والتي قد يجدها البعض أنّها كافيةً لعدم الأخذ ببقيّة ما تطرحه الحجة السّببيّة الكلاميّة، سنحاول في الجزء – أو ربما في الأجزاء – القادمة أن نناقش القضايا الفلسفيّة أو العلميّة التي تقدّمها الحجة السببيّة الكلاميّة، ونرى ما إن كانّت قويةًّ فعلاً إلى درجة أن تجعلها تقدم على أنها واحدةً من أقوى الحجج لإثبات وجود الله.