كنّا ننتظره بوجل، تجول أبصارنا بحثا عن شيء يعلمنا بدنوه منا، ننصت بكثير من الرهبة لندرك أقل حركة ترشدنا إلى حضوره. كنّا ننتظره ولا نعلم لحضوره المتوقع وقتا. هو لا يأتي في أوقات معلومة، هو الخارق لكل المواعيد والحسابات، هو لا يجري عليه الزمان. أرهقت أبصارنا من انتظاره، لكننا بقينا ننتظره، ننتظره ونحن على يقين من أنه سيأتي بغتة ودون أن يشعرنا بحضوره.
كنّا ننتظره ونحن نخشى رؤيته ونجهل صورته وهيئته، بينما هو يدرك صورنا وهيئاتنا، ويعلم الوقت المحدد للقائنا.
إن التفكير بلقائه يثير الرهبة في النفوس. رهبة عظيمة تكبر وتتضاعف كلما شعرنا بدنوه منا. لو كنّا نعلم الشيء اليسير عن أوصافه أو عن وقت حضوره إلينا ليصطحبنا معه فرادى إلى حيث لا ندري؛ لو كنّا نعلم شيئا عن ذلك لعرفنا ربما كيف سنواجه الموقف أو على الأقل لكنّا بذلنا جهودا نفسية ومادية تمكننا من الاستعداد للمواجهة الأكثر صعوبة على قلب أي إنسان.
كنّا ننتظره فحسب. كل منّا ينتظره. كل واحد منّا يخفي أو لا يريد الاعتراف في قرارة نفسه بالحقيقة الصعبة. كل واحد منّا يحاول أن يبعد عن نفسه شبح التفكير بهذه الحقيقة: حقيقة الانتظار الأكثر قسوة على القلب. يحاول كل واحد منّا أن يشغل نفسه بالعمل المضني أو إنفاق ما تبقى من الوقت في البحث عن متع الحياة والغرق فيها، لكن قليل من الناس يواصلون التفكير بحقيقة الانتظار، فمنهم من ينتظر وكأنه يعيش مسجونا في نفق طويل مكتظ بأعداد هائلة من الناس، الذين يصطفون خلف بعضهم البعض، ولا أحد منهم يعرف الآخر، ولا يعرفون أيضا كم يزداد عددهم يوما بعد يوم، ويجهلون إلى أين ذهب من يختفي منهم؟
أمّا البعض الآخر من المنتظرين وهم الفئة الأقل عددا، فينتظرونه بصبر، وقد أعدوا العدة لانتظاره، ينتظرونه دون خوف ودون حزن، ينتظرونه بسكينة، ينتظرونه ليصطحبهم إلى حيث يحبون.
لكن المنتظر هل ينتظرنا؟ وبماذا يشعر في حال انتظاره؟
لا أعتقد أنه ينتظر أي شيء أو أي أحد، فهو دائم العمل. المنتظر يملك قائمة طويلة جدا، ربما هي أطول قائمة في الكون، قائمة كتبت فيها أسماؤنا وأماكن تواجدنا والأوقات التي يجب أن يحضر فيها إلينا لينجز مهمته. لا بد أنّه يحفظ كل القائمة جيدا، وهذا أمر مؤكد، يبرهنه عمله الذي ينفذه بدقة متناهية.
المنتظر لا يعيقه عائق، يتمتع بقوى خارقة، فهو يخترق البروج المشيدة والغواصات المحصنة والمراكب الفضائية. هو لا يصعب عليه شيء حتى أهوال الطبيعة والحوادث الكونية التي تثبت قدراته العجيبة. دائما يحضر في الوقت المحدد، وعند حضوره لا يستطيع أي أحد مهما أوتي من قوة أن يستقدم ساعة أو يستأخرها.
يحضر المنتظر ويدخل دون استئذان ودون أن يقرع الأبواب، ويتخذ مكانا عاليا، يليق بمقامه الرفيع، ويبدأ بالتحليق أمام من آتى إليه، ويشرع البصر بتتبعه وهو يحلق على مقربة منه، ويبدأ من حان موعد لقائه يحادث نفسه هل رآه حقا؟ لكنه لا يستغرق في تساؤلاته، لأن المنتظر يكون قد بدأ عمله كعادته بنزع الحياة من الساقين، وبكل هدوء تغدو الأطراف باردة كالثلج، وتختفي قوة الجسم، ويتراخى كليا، ويضيق النفس، ويسكت الدماغ ويليه القلب ويخرج النفس الأخير ويبلغ الحلقوم، وتشخص الأبصار، وتنكشف عنها الحجب، فتصبح كالحديد ،وترى المنتظر بشخصه الكريم ، لكنها تعجز عن الكلام والوصف بعد قبض المنتظر على السر المقدس.
ويبتعد المنتظر بعد أن ينجز عمله، وينتقل بسرعة تتجاوز سرعة البرق إلى اسم آخر في مكان آخر وموعد آخر، فالقائمة لديه طويلة جدا، وتنتظره أعمال لا يحصيها إلا من له الدوام.