• ليس لليهود الآن ما يعزونه لأنفسهم مما هو خليق بأن يضعهم فوق سائر الأمم.. وبالنسبة إلى الذهن وإلى الفضيلة الحقة، فلم تُخلق أمة متميزة عن الأخرى في هذا الصدد (اسبينوزا)
• أيها اليهودي، وافق دستور الدولة، واعمل بجميع عادات وقوانين البلد الذي تحل فيه، ولكن في ذات الوقت كن أميناً على دين آباءك وأجدادك. (موسى منلسون)
===================================
▬ كان فيلون يُسلّم بصدق ما جاء به "الوحي" في التوراة، كما يٌسلم أيضاً بصحة الفلسفة اليونانية؛ فالوحي والعقل عنده متفقان، وإن كان يرى أن الفلسفة اليونانية هي ضرب من الوحي العميق على حين أن الكتاب المقدس وحي واضح جلي لبيان حقائق الكون. وكان يرى أن الفلسفة اليونانية مأخوذة من التعاليم العبرية، وأن أفلاطون وأرسطو أخذا تعاليمهما من موسى، وهذا هو مصدر ما لديهما من حكمة. وعلى هذا كان انحيازه للوحي واضحاً إذ عارض كثيراً من النظريات الفلسفية اليونانية، وعدل من بعضها، وأول بعضها الآخر للتتواءم مع ما صرح به الوحي. وهو يُعد مسئولا عن خلط تعاليم الفلسفة اليونانية بالوحي وبالإلهام الشرقي على العموم. صــ 21
▬ يرى اسبينوزا أن الله أنزل وحيه على الأنبياء بألفاظ وصور محسوسة أو متخيلة، وأن الأنبياء لم يُمنحوا عقلاً أكمل من عامة العقول وإنما مُنحوا مخيلة أقوى؛ فقد كان منهم الأميون، وكان منهم الحكماء، مثل سليمان، من لم يوهبوا النبوة. ولما كان الأنبياء قد أدركوا الوحي الإلهي بالإستعانة بالخيال، فلاشك أن كثيراً من تعاليمهم قد تعدت حدود الذهن، لأننا بالكلمات والصور نستطيع أن نكون أفكاراً تزيد عن تلك التي نكونها بالمباديء والمفاهيم الذهنية التي تقوم عليها معرفتنا الطبيعية. وقد تمنتع الأنبياء بقدر أعظم على الخيال الحي، لا بفكر أكمل، وكلما زاد الخيال قل الاستعداد لمعرفة الأشياء بالذهن الخاص، وعلى العكس من ذلك نجد أن من يتفوقون في الذهن ويرحصون على تنميته تكون قدرتهم على التخيل أكثر اعتدالاً وأقل انطلاقاً، وكأنها حبيسة حتى لا تختلط بالذهن. وعلى ذلك فإن البحث عن الحكمة ومعرفة الأشياء الطبيعية والروحية في أسفار الأنبياء ابتعاداً عن جادة الصواب. على هذا يضع اسبينوزا تفرقة حاسمة بين الدين والعلم، وترسيما واضحاً لحدود كل منهما، أو بعبارة أدق بين اللاهوت والفلسفة. فالعلم هو معرفة العلل الطبيعية للأشياء بطريق العقل الإنساني لا بطريق الخيال واستكناه أسرار الرموز [...] والنتيجة التي ينتهي إليها سبينوزا هي أن "النبوة"، من هذا الوجه، أقل من المعرفة الطبيعية التي لا تحتاج إلى آية ما، بل تتضمن بطبيعتها اليقين، والواقع أن هذا اليقين النبوي لم يكن يقيناً رياضياً، بل كان يقيناً خُلقياً فحسب، وهذا ما يؤيده الكتاب نفسه. ومن هنا لا يجد سبينوزا حرجاً في القول بأن موسى علّم العبرانيين كما يعلم الآباء الأطفال الذين لا عقل لهم على الإطلاق، ولذلك فمن المؤكد أنهم جهلوا تماماً سمو الفضيلة والسعاة الحقة.. صــ 140 ، 141
▬ إن المشكلة الفكرية الكبرى التي تعرض لها الفكر الديني اليهودي والمسيحي في القرن التاسع عشر هي ما تعرض له العهد القديم من الكتاب المقدس للنقد. فمنذ أن حل شامبليون رموز حجر رشيد وأخذت الحفريات تنقب عن آثار الأقدمين سواء في مصر أو فلسطين وسوريا ولبنان والعراق، أخذت علوم الشرق القديم، من تاريخ وجغرافيا وأدب ولغة ودين وميثلوجيا تتدفق على الأوساط العلمية الغربية. وقد أسفرت هذه العلوم عن حقائق كثيرة ثبت بعضها ما جاء في الكتاب المقدس ونقض الكثير منه. وزاد الطين بلة نشأة العقلانية وسيطرة فلسفتها على تفكير العصر كله، مما أدى إلى إضعاف الإدعاء الديني بأن الكتاب المقدس وحي يجب تصديقه وإن تخالف مع العقل. هذا إلى جانب أن العلوم الطبيعية كانت قد أجرت خلال القرنين السابقين تجارب كثيرة ناقضت الكتاب المقدس في مواضع عديدة. صــ 147
▬ أثناء القرن الثامن عشر زعزعت حركات التحرر السياسي، في عصر التنوير، قومية اليهود "الدينية" من أساسها، إذ ظهر تعارضها مع القوميات الأوربية الوليدة التي استهدفت أنصار مختلف عناصر الأمة في هوية سياسية واحدة تتوازن فيها حقوق المواطنة وواجباتها، وأن اعتبار للانتماءات الدينية أو اللغوية أو العرقية. وتبع هذا التغير في مفهوم الولاء تعديل لاهوتي يقضي بتصور "الشتات" اليهودي في العالم جزاءً إلهياً لزم للتكفير عن الخطايا، ومناسبة لنشر اليهود التوحيد بين جميع الأمم. غير أن تعثر تحرير اليهود وعدم تمتعهم بكامل المواطنة في الكثير من المجتمعات الأوربية الحديثة، غرباً وشرقاً، وظهور نزعات التعصب من جديد ضد اليهود، وهو ما ُعرف "بالعداء للسامية"، ولأن الكثيرين قد ضاقوا بالفعل من نجاحات اليهود وتفوقهم - وبخاصة في دوائر المال والأعمال - أوقظ روح التعصب الأوروبي ضد اليهود. وارتبط هذا التعصب بنشأة قوميات متطرفة كالفاشية والنازية. وقد أدى ذلك إلى تأجيج مشاعر اليهود، وإلى بعث الصهيونية من مرقدها، وبخاصة بين اليهود المحافظين، وإلى مراجعة اليهود لمواقفهم من مفهوم "الدولة" الحديثة، بسبب خيبة أملهم في المسيحيين الأوربيين الذي "أعطوا فندموا، فأخذوا ما أعطوه عنوة، فتلوا". وترسخت فكرة القومية اليهودية من جديد، وعاودهم التوجه إلى فلسطين قبلتهم. وشرعوا في محاولات الاستعمار الزراعي للأرض المقدسة فلسطين، وروجوا للهجرة الجماعية إليها تمهيداً لإقامة "وطن قومي" لهم فيها. صــ 162 ، 163