"منصور" أو "قصة طفل من مصر" رواية باللغة الفرنسية كتبها الدكتور أحمد ضيف، أستاذ الأدب والنقد والبلاغة بالجامعات المصرية، ولم تترجم إلى اللغة العربية أو تما ترجمتها ولم تذع أو تنتشر.
اتهم ضيف عميد الأدب العربي، طه حسين بسرقتها عندما كتب كتابه "الأيام"، فهل الأيام لطه حسين مسروقة من رواية أحمد ضيف "منصور"؟ ولماذا لم تترجم إلى اللغة العربية؟ وإذا كان قد تمت ترجمتها بالفعل، فلماذا لم تنتشر بين جماهير القراء؟
كان طه حسين واحدا من صناع المستقبل أو صناع الغد، انتقل إلى رحاب الله، وروحه باقية، وفكره ماثل أمامنا، ورأيه المحترم يستحق منا كل حب وتقدير و تبجيل، ويستحق المناقشة والدرس والتحليل إذا كنا نحب الحياة بالفعل، ونريد حياة أفضل لنا وللأجيال القادمة، فطه حسين بحق رجل كان يفكر من أجل صنع الحياة.
لنقف قليلا أمام هذه القضية. كان أحمد ضيف سابقا لطه حسين في البعثة إلى فرنسا، وقد عاد ضيف إلى مصر أثناء الحرب العالمية الأولى، وغرقت الباخرة التي كان عائدا بها إلى مصر، وتعلق بخشبة منها، وكتب مذكراته الفريدة في مقالات جميلة تحت عنوان "أنا الغريق" في مجلة "الثقافة" المصرية القديمة التي كان صاحبها ورئيس تحريرها أحمد أمين.
أما طه حسين فإنه عاش في فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، وعاد إلى مصر نجما زاهرا من نجوم الأدب والفكر والعلم. وتلاقى طه حسين وأحمد ضيف لقاء الفنان الأديب مع الباحث الدارس.
وكانت أزمة أحمد ضيف أنه ألف قصة أو رواية أسماها "منصور" في العاصمة الفرنسية باريس، وهي الجزء الأول من رباعية قصصية أو روائية لم يكتب لها أن تولد، اشترك معه فيها كاتب فرنسي يدعى فرانسوا بونجان، الذي كتب قصة أو تاريخ الأزهر الشريف، بعد أن كتب أحمد ضيف قصة "منصور".
اعتقد أحمد ضيف طوال حياته أن طه حسين سرق منه قصة "منصور"، عندما كتب كتاب "الأيام"، وقام ضيف بحملة شعواء في كل مكان ضد طه حسين. وكانت الأحوال العصيبة لأحمد ضيف بعد غرقه في البحر المتوسط وإنقاذ العناية الإلهية له، ونجاته على ظهر خشبة، وعودته إلى الإسكندرية في حالة صحية ونفسية يرثى لها، قد أثرت في أعصابه وفقا لما رواه من عاصره من الأساتذة أو الأدباء أو أهل الفكر والرأي، وظل يقول دائما إن طه حسين سرق منه كتاب "منصور" وسماه "الأيام".
حدثت مشاجرات عديدة بين طه حسين وأحمد ضيف حول قضية كتاب "الأيام" وهل هو مسروق من كتاب "منصور"، وكان ضيف يقول لكل من يقابله أو يتحدث معه إن طه حسين سرق منه كتابه "منصور".
كان أحمد ضيف أستاذا عظيما في الأدب والنقد والبلاغة، إلا أنه كان يشعر دائما بأنه مضطهد في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وكان يقوم بتدريس وتحليل بعض النصوص الأدبية للطلاب، وكانت لديه مقدرة رائعة في أن يفتح عقول الطلاب حتى يفهموا معنى الفن والأدب، ويحاول أن يرتقي بمشاعرهم في تحليل وفهم هذه النصوص.
أحمد ضيف صاحب كتاب "بلاغة العرب في الأندلس"، وكتاب "مقدمة لدراسة بلاغة العرب"، والمشارك في كتاب "المنتخب من أدب العرب" الذي ألفه مع أحمد الإسكندري، وأحمد أمين، وعلي الجارم، وعبد العزيز البشري. هذه الكتب التي تعلمنا منها الأدب والنقد والبلاغة.
كان أحمد ضيف أستاذا عظيما دون أدنى شك، وكان يحكي دائما لطلابه حكاية الفن والأدب في حياته الأدبية والتعليمية، ثم يعود إلى مأساته مع كتاب أو رواية "منصور" الذي "سرقه" منه طه حسين.
ما أعظم الحياة! وما أتفه الحياة!، كتاب "منصور" حطم عبقرية هذا الأكاديمي المبدع أو الكاتب الفنان العظيم. ونقرأ أن أحمد أمين أراد أن يخرجه من المأساة التي يعيش فيها، ودعاه للكتابة في مجلة " الثقافة القديمة"، فكتب مجموعة من الفصول الرائعة التي لم يجمعها ولم ينشرها أحد، تحت عنوان "أنا الغريق".
وهنا أطالب أهل الأدب والفكر باستخراج ما كتبه أحمد ضيف في مجلة "الثقافة القديمة"، ونشره بعد كتابة دراسة موسعة عنه، تعطي للرجل حقه كمبدع أولا وكأكاديمي ثانيا، مع تحقيق وتدقيق هذه الكتابات ووضعها في سياقها التاريخي وفقا للمنهج العلمي المعتمد.
إن إبداع الإبداع في أدب الغرقى كتبه أحمد ضيف حيث عبر بصدق فني عن تجربته الحقيقية التي مر بها، وهو يبحث عن كتابه الفرنسي المفقود في الماء "منصور" والذي زعم أن طه حسين سرقه منه.
ثم يجيء في آخر الزمان من يقول إن طه حسين سرق من أحمد ضيف كتاب "منصور"، وجعله كتاب "الأيام". لا، لا، لا. لقد سقط القلم من يد أحمد ضيف، حتى وضعه في يده من جديد أحمد أمين، فكتب رائعة "أنا الغريق"، وسرعان ما ألقى أحمد ضيف بقلمه مرة أخرى في عرض الطريق، ثم مات.
كان أحمد ضيف أول من تنبه من النقّاد العرب إلى علاقة الأدب بالمجتمع، وكان ذلك في كتابه « مقدمة لدراسة بلاغة العرب» الصادر عام 1921، فقد أفرد لهذا الموضوع فصلا بعنوان: "البلاغة والاجتماع"، متأثرا بالفرنسي هيبوليت تين، عندما بيّن أن الظاهرة الأدبية هي ظاهرة اجتماعية، وعلى ذلك فالحركة الكتابية هي الاجتماع نفسه بما فيه، أي صورة أصلية وحقيقية من الحقائق الثابتة، تمثل كل ضروب الحياة، وحركات عقول الأفراد من علماء وأدباء وفنانين وفلاسفة وغيرهم.
قدم أحمد ضيف رؤية نقدية لعلاقة الأدب بالمجتمع، لأن مصطلح صورة يشير إلى الانعكاس، ويبين قدرة الأدب على تبين الواقع وتصويره، أما مصطلح «حقيقة» فهو يقابل مصطلح الواقع، لأن أحمد ضيف ترجم مصطلح الواقعية في ثنايا الكتاب باسم «مذهب الحقائق» الذي من غرضه إظهار الشيء كما هو، والكلام عن جهد هذا الرجل الأدبي والنقدي يطول.
ويقال إنه مع بداية حياة طه حسين بالجامعة الأهلية اختلف مع زميل دراسته في باريس الذي سبقه في الحصول على الدكتوراه أحمد ضيف، واستعان عليه بعبد الخالق ثروت باشا، رئيس الوزراء المصري في تلك الآونة، وكذلك أحمد لطفي السيد، واستطاع أن يتخلص منه بنقله من الجامعة الأهلية إلى وزارة المعارف العمومية (التربية والتعليم الآن)، وبالطبع هذا الكلام يحتاج إلى أدلة موثقة.
استمعت في بداية شبابي إلى المرحوم الصحفي والأديب محمد فهمي عبد اللطيف، وهو يقول إن طه حسين استعار موضوع كتابه "الأيام" من موضوع كتاب "منصور" لأحمد ضيف الذي كتبه بالاشتراك مع المستشرق الفرنسي بونجان، وهذا كلام مرسل في حاجة إلى تمحيص.
لقد كانت القضية برمتها بين طه حسين وأحمد ضيف قضية وظيفية، ولم تكن قضية أدب وفكر. لعن الله الوظائف والمناصب التي تهدم الفكر والإبداع، وتبلبل الأفكار والآراء، وتشوه صورة العظماء.
انتصر طه حسين بالأدب والفكر والإبداع، وانهزم أحمد ضيف عندما هرول وراء الوظيفة. كان يحلم بأن يصبح عميدا لكلية الآداب جامعة القاهرة، ولكن طه حسين جعله مدرسا في مدرسة دار العلوم (حاليا كلية دار العلوم، جامعة القاهرة). وهناك انتهت القصة، وانتهت حياة أحمد ضيف الأديب المبدع والفنان العظيم.