نابغة فريق العمـــــل *****
التوقيع :
عدد الرسائل : 1497
الموقع : المنسق و رئيس قسم الفكر والفلسفة تعاليق : نبئتَ زرعة َ ، والسفاهة ُ كاسمها = ، يُهْدي إليّ غَرائِبَ الأشْعارِ
فحلفتُ ، يا زرعَ بن عمروٍ ، أنني = مِمَا يَشُقّ، على العدوّ، ضِرارِي
تاريخ التسجيل : 05/11/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2
| | رهان باسكال | |
رهان باسكال يقول هنري قوياي Henri Gouhier مبرّرا مشروعية التساؤل عن وجود الله "أن نوجد،أحببنا أم كرهنا، هو أن نوجد مع الله أو نوجد من غير الله" "Exister, qu’on le veuille ou non, c’est exister avec Dieu ou exister sans Dieu" . إنّ وجود الله هو كيفية من كيفيّات وجودنا. فإمّا أن وجودنا يصاحبه الله أو هو وجود خال من الله. ولذلك فالبحث في وجود الله هو بحث في كيفية من كيفيات وجودنا، أي أنّنا لا نبحث في موضوع أجنبي غريب عنّا بل في موضوع من صميم وجودنا ومؤثر على حياتنا. وجملة باسكال "أنت خائض في الميدان"(ص83) "Vous êtes embarqué" تبيّن أن موضوع الله ليس مسألة نظرية غريبة عنّا وإنّما مسألة وجودية مرتبطة بحياتنا اليومية. لا يوجد عاقل على وجه الأرض لم يسمع بكائن اسمه الله. فهو مفروض على أذهاننا. لكن وجود هذه الفكرة في أذهاننا لا يعني بالضرورة وجود ما تعنيه في الواقع. هذا الانتقال من النظري إلى الواقعي يحتاج إلى تمحيص، خاصّة وأن طبيعة الله الرّوحية تسهّل علينا الوقوع في الوهم. فهل يكفي أن نعتقد في وجود الله حتّى يوجد بالفعل؟ تعدّدت المواقف من هذه المسألة وتدرّجت من اللامبالاة إلى التعصّب. بعيدا عن استهتار اللاّمبالي وعن تعصّب الدغمائي، هل يمكن أن نرسي موقفا عقلانيا من هذه المسألة، مؤسسا على براهين وحجج؟ هل يمكن أن نثبت بالعقل وجود الله خارج أذهاننا؟ اـ الله لا يُعرف بالعقل إن الإجابة عن سؤال: هل الله موجود فعلا؟ لا تخرج عن إمكانيتن، إمّا أن الله موجود أو أنّه غير موجود. فما هي الإمكانية الصحيحة؟ هل يقدر العقل أن يحسم في الأمر؟ يجيب باسكال "العقل لا يستطيع أن يجزم بشيء: فدوننا ودون ذلك فضاء غير متناه"(ص83). سبب هذا العجز هو أن هناك هوة سحيقة بين الإنسان المتناهي والمحدود وبين الله ذو الطبيعة اللامحدودة واللامتناهية. وهذه الطبيعة تستحيل على الإدراك الإنساني. إن عنوان الشذرة 233 هو "لامتناهي-لاشيء" infini-rien. والمقصود باللامتناهي والله والمقصود باللاشيء هو الإنسان. يقول باسكال "لكنّنا لا ندرك وجود الله ولا ماهيته لأنّه لاإمتداد له ولاحدود" (ص82). لكن العقل وإن كان عاجزا عن إدراك وجود الله وغير قادر على الخوض في القضايا الميتافيزقية كما سبيّن ذلك كانط (1724-1804) لاحقا، فإنّه لا يترك الإنسان ضائعا فهو يقترح عليه حلولا حتّى في الحالات التي تبدو فيها الحلول مستحيلة. فهو وإن لم يكن السبيل المباشر للحلّ أو الإجابة، فإنّه يوجّهنا إلى سبيل آخر يمكن أن يقودنا إلى الحلّ. فما هو السبيل الذي يقترحه علينا العقل؟ إنّه الرّهان le pari. ااـ الرّهان كسبيل للإيمان إن العقل عاجز على البرهنة على وجود الله، لكن يمكن أن نستنير به في ما يتوجّب علينا فعله. أي في البحث عن مصلحتنا. قلنا سابقا أن هناك إمكانيتن تجاه معضلة وجود الله: إمّا وجوده أو عدم وجوده. لا يبقى أمامنا إلاّ أن نعرف مع أيّة فرضيّة تكمن مصلحتنا. فإذا كان العقل غير قادر على أن يعرف هل الله موجود أو غير موجود، فهو على الأقلّ يعرف أين تكمن مصلحة الفرد. فهل تكمن مصلحة الفرد في التسليم بأن الله موجود أم في التسليم بأن الله غير موجود؟ 1) الرّهان هو ترجيح لفرضية ما يسمّي باسكال ترجيح إحدى الفرضيتين: رهـانـا. فالمراهنة لصالح الدين معناه ترجيح فرضية وجود الله وانتظار ما يترتّب عن ذلك من نتائج، والمراهنة ضدّ الدين هي فرضية ترجيح انعدام وجود الله مع ما يتبع ذلك من نتائج. فما هو الرّهان الجدير بالإتباع في نظر باسكال؟ ـ إذا سلّمنا بأن الله موجود، وتبيّن أخيرا أنّه موجود فقد ربحنا كلّ شيء، ربحنا رضا الله ونعيم الجنّة... ـ وإذا سلّمنا بأن الله موجود، وتبيّن أخيرا أنّه غير موجود لم نخسر شيئا. ـ وإذا سلّمنا بأنّ الله غير موجود وتبيّن أنّه موجود خسرنا كلّ شيء وخُلّدنا في الجحيم. ـ وإذا سلّمنا بأنّ الله غير موجود وتبيّن أنّه غير موجود، لم نخسر شيئا.
الرّهان الخطير هو في الحالة التي تؤدّي إلى العقاب وهي الحالة التي نرجّح فيها أن الله غير موجود ويظهر موجودا بعد ذلك. أمّا المراهنة على أنّ الله موجود فهي إمّا تؤدّي إلى الثواب أو لا تؤدّي إلى أيّ شيء. والحالة هذه ليس أمام العقل إلاّ اختيار المراهنة على أن الله موجود. لقد تخلّي باسكال على العقل ليعود إليه بطريقة أخرى. المسألة مسألة حساب مصلحة. يقول باسكال "إذا ربحتَ فقد ربحتَ كلّ شيء، وإذا خسرت فإنّك لا تخسر شيئا. فراهن إذن على أنّه موجود ولا تتردّد" (ص84). فالأجدر بالإنسان إذا أن يراهن لصالح الدين لكون هذا الرّهان هو الأنفع وجوديا ومصيريا علاوة على أنّه مقبول من حيث المنطق. خلاَصة القول إن ظهر أن الله غير موجود فهناك مساواة في الرّبح والخسارة بين المتراهنين، لكن إذا ثبت أن الله موجود، فالمراهن لصالح الدين هو الرّابح الوحيد. واضح أن باسكال استفاد من معرفته بحساب الاحتمالات la probabitité في وضع الرّهان. 2) الرّهان هو ترجيح لمصلحة غير مضمونة ولسائل أن يسأل لماذا عبّر باسكال عن هذا التوجّه بالرّهان ولم يسمّه فرضية أو اقتراحا أو اختيارا لإمكانية... السّبب هو أن اللفظة المناسبة التي تربط بين المصلحة والشكّ هي لفظة الرّهان. فالذي يراهن هو الذي يختار ما يراه صالحا ولكن ليس متأكّدا من ذلك. فهو كمن يلعب القمار. فكُلّ اختيار تشوبه العشوائية والارتجال والحظّ. فالذي يقرّ بأن الله موجود ليس متأكّدا من ذلك ولكنّه يراهن على أن هذه الإجابة هي الإجابة الصحيحة. صحيح إنّها فرضية ولكنّها ليست فرضية معرفية كما نفترض أن الكون لامتناهي، بل هي الفرضية التي نأمل من ورائها الظفر بالنعيم أو الخلود في الجنّة لذلك هي رهان. والذي يقرّ بأن الله غير موجود هو أيضا ليس متأكّدا من ذلك، لذلك هو يراهن أيضا على هذه الفرضية أي يرجّحها. فالترجيح في جميع الحالات هو على أساس المصلحة لا على أساس اليقين. 3) الرّهان ليس حجّة على وجود الله بناء على ما سبق وطالما أن هناك شكّا يصعب أن يقوم الرّهان مقام الحجّة على وجود الله. يقول Voltaire فولتير (1694-1778) في كتابه "رسائل فلسفية" الرّسالة عدد 27 "رهان باسكال ليس حجّة. فالمصلحة التي ألقاها في اعتقاد شيء ما، ليست حجّة على وجود ذلك الشيء". ما أصدر فولتير هذا الحكم إلاّ لأنّه استشفّ أن الرّهان لم يأت لإثبات وجود الله وإنّما جاء للتعبير عن موقف مسبّق وتبريره والدّفاع عنه. لم بضع باسكال الرهان ليقنع نفسه به ولكن ليقنع الآخرين بموقفه هو. وتبعا لذلك يمكن القول إن الرّهان لا يتنزّل في سجلّ التفكير الفلسفي وإنّما في سجلّ الخطاب الديني الدعوي. فباسكالوظّف مصلحة الفرد للدعوة إلى الدين. يريد أن يجرّ الملحدين والمتشكّكين إلى الدين بالتركيز على ما يبحثون عنه وهو المصلحة. اااـ هل الرهان ضروري؟ هل إقتران الرّهان بالمصلحة والشكّ وبالتالي عدم اتخاذه كحجّة على وجود الله يقلّل من قيمته ويجعله غير ضروري؟ لو سألنا باسكال عن ضرورة هذا الرّهان لأجاب كالتالي: إن الرّهان ضروري ومن يرى غير ذلك عليه، إمّا أن يجيب عن سؤال هل الله موجود أم لا؟ أو عليه أن يلغي مشروعية هذا السؤال ويخرجه من أذهاننا. وهكذا نتوقّف عن السّؤال والإجابة معا، وعندئذ لن نتحدّث مستقبلا عن مشروعية أو عدم مشروعية. فهل هذا ممكن؟ أوّلا الإجابة إجابة يقينية عن سؤال هل الله موجود أم لا؟ غير ممكنة وثانيا هذا السؤال تفطّن إليه الذهن ولم يعد بالإمكان إنكاره أو نسيانه أو التخلّص منه. لا نستطيع أن نتصرّف في السؤال ولكن نستطيع أن نتصرّف في الاجابة حسب إمكانياتنا. والرّهان إمكانية من الإمكانيات. وانعدام المراهنة لا يلغي وجود الله إن كان موجودا. فإن كان الله موجودا فهو موجود عرفنا ذلك أم لم نعرفه فأي ّجدوى في أن نسلك سلوك النعامة وندسّ رؤوسنا في الرّمل وهل بإلغاء محاولة الإجابة المتمثّلة في الرّهان نلغي الفرضيّتين المحتملتين حول وجود الله؟ أليست المحاولة أفضل من الهروب؟ يقول باسكال" المراهنة واجبة وليست إختيارية لأنّك خائض في الميدان". يبدو أن الفرضية الوحيدة التي يكون فيها الرّهان غير ضروري هي الفرضية التي تكون فيها مسألة وجود الله برمّتها مسألة نفسية وربّما حتّى مَرَضية لا علاقة لها بالواقع وهي استنباط خيالي قام به الذهن وأنّ طرحها هو شطحة من شطحات الذهن وصدى لخزعبلاته. ورسم كتلك الرّسوم التي يستمدّها الرسّامون من كوابيسهم. ورغم مشروعية هذه الفرضية إلاّ أنّ سؤال وجود الله أو عدم وجوده يظلّ ذا قيمة لأنّ كلّ سؤال هو مشروع فحص وليس مشروع إثبات. وقد نعارض الإثبات لكن لا نستطيع أن نعارض مشروع الفحص قبل الفحص. وإذا شرعنا في الفحص فقد نكون قد أعلنا مساندتنا لمشروعية القضيّة. النقـــــــــــد إنّ التجاء باسكال إلى تبرير ضرورة الرّهان بعجز العقل عن معرفة الله وتقديم الرّهان كملجإ لا كإختيار لا يشفع له ولا يمنعنا من أن نقول أن هذا الرّهان يطرح عدّة إشكاليات:
1) الرهان ليس سبيلا للإيمان الحقيقي لأنّه مبني على الشكّ يبدو أنّ الرّهان يتناقض مع الغاية التي من أجلها وجد وهو الإيمان. هل سيكون المراهن لصالح الدين مؤمنا حقيقة مخلصا لدينه؟ طبعا لا يرتقي الرّهان إلى مستوى الإيمان الحقيقي. لنفهم ذلك نأخذ مثالا. فالذي يراهن على انتصار جواد ما في سباق خيل يكون قد رجّح انتصاره لكنّه يشكّ في انتصاره. كذلك المراهن لصالح الدين يرجّح وجود الله وينتظر غنيمة ولكنّه ليس متأكّدا من وجود الله، والشكّ في وجود الله في منطق الدين كفر، لأنّ الدين يشترط في الإيمان صفاء النيّة وسلامة الطوّية. لذلك يبدو الرّهان أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان.
2) الرهان ليس سبيلا إلى الإيمان لأنّه مبني على المصلحة. إن المصطلحات المقترنة بمفهوم الرّهان هي مصطلحات الرّبح والخسارة والحظّ واللعب والقمار...(ص 84). وهذا يدلّ على أن التفكير الذي ينتهج الرّهان هو تفكير مصلحي لا علاقة له بالحكمة ولا يسعى لاكتشاف الحقيقة. انتهاج الرّهان يخدم غريزة حبّ البقاء وليس له أهداف روحيّة معرفية سامية. مشكلته وجودية هي البقاء والخلود في النعيم وليست معرفية أي الاكتشاف وحبّ الإطلاع والسموّ الرّوحي. إن هذا الرّهان هو التعبيرة المثلى للانحطاط. والسبيل الوضيع لتسوّل الخلود. يرى باسكال أن المراهن إمّا يربح أو لا يخسر، والواقع أنّه خاسر في جميع الحالات. فإذا تبيّن أن الله موجود فإنّ عقابه سيكون أشدّ من الكفّار لأنّه يحاول أن يخدع الله ويدخل الجنّة بالخبث والقمار والحيلة والدناءة والله يعرف عنه ذلك. وإن ثبت أنّه غير موجود فإنّه يكون قد أهان نفسه لأنّه طمع وحلم وخدع نفسه وعاش في وهم.
3) الرّهان يحرّض على التديّن وليس على الإيمان بوجود إله هناك فكرة يتضمّنها الرّهان ولا يذكرها صراحة. وهي أن الرّهان يدعو إلى الإيمان بمضمون الدين وليس الإيمان بالله. والفرق بين الإيمان بالله في الدين والإيمان بالله في التأليهيةdéisme هو التالي: التأليهية تقرّ بوجود إله وهو إقرار مستمدّ من نظام الطبيعة، بينما الدين علاوة إلى إقراره بوجود إله يؤمن بالرّسل والملائكة واليوم الاخر والثواب والعقاب. وطالما أن الرّهان وُجد من أجل تجنّب العقاب ونيل الثواب فهو يهدف إلى الإيمان بالدين والدين المسيحي بالتحديد وليس مجرّد الإيمان بوجود الله. طرح باسكال سؤالا فلسفيا هو: هل الله موجود؟ لكن لم يجب عنه كفيلسوف بل أجاب عنه كرجل دين يحرّض على التديّن ويغري بالنعيم. ومن الغريب حقّا أن الفلسفة التي تمجّد العقل والبرهان تتخلّى أحيانا عن مبادئها وتتحوّل إلى خادمة لعقائد إيديولوجية دغمائية ومدافعة عن الإيمان العشوائي الأعمى المبني على المصلحة والرّهان. لو كان باسكال يحترم العقل حقّا لكنّا توقّفنا عن المراهنة بمجرّد عجز العقل عن التأكّد من وجود الله. ولكن كيف يكون هذا الإحترام ممن يقول "القلب له تبريراته التي لا يعرفها العقل". « Le cœur a ses raisons que la raison ne connaît pas ».
4) ضرورة تعلّم التعايش مع الجهل التجاء باسكال إلى الرّهان عندما عجز العقل عن معرفة وجود الله تكشف عن لهفته على ضرورة إيجاد هذا الإله بجميع الأشكال وإقناع الآخرين بذلك. هذه اللهفة على الحلول حتّى ولو كانت عشوائية تثير العجب حقّا. لماذا لا يرضى الإنسان بعجزه عن معرفة الله؟ صحيح أن اليقين أفضل من الخطإ ولكن عندما يتعذّر اليقين يكون الجهل أفضل من الخطإ؟ لماذا لا يصبر الإنسان حتّى يتطوّر تفكيره ويصبح قادرا على الإجابة كما حصل ذلك مع عدّة أسئلة. فالسؤال: هل الله موجود أم لا؟ هو سؤال لا نقدر حاليا على الإجابة عنه، تماما كسؤالنا هل هناك حياة في كواكب أخرى؟ يجب على الإنسان أن يتعلّم التعايش مع الجهل في انتظار تجاوزه خاصّة وأن كلّ إجابة خاطئة تتمسّك بالبقاء وتتحوّل إلى عائق إبستيمولوجي. عندما نقول أن هناك أجوبة لاراهنية لا يعني ذلك أن هناك أسئلة لاراهنية. بالعكس كلّ الأسئلة راهنية وكلّ بحث مشروع. فالتساؤل والبحث هما الكفيلان بإخراجنا من الجهل ولكن ليس بحلول مضحكة كهذا الرّهان.
ملاحظة: الصفحات المذكورة في التحليل تشير إلى أقوال باسكال من كتابه "خواطر" ترجمة ادوار البستاني. نشر اللجنة اللبنانية لترجمة الرّوائع. بيروت 1972.
| |
|