اعتقد نابليون بونابارت، في وقت
من الأوقات، بأن الثورة الفرنسية لن تنتشر داخل أوروبا، الخاضعة وقتها
لأنظمة ملكية وإمبراطورية محافظة ومعادية، ما لم تنتصر داخل المشرق العربي
والإسلامي. ومن هنا كانت حملته على مصر. وتأكيداً لرهانه الثوري على
المشرق، سيتخذ العديد من التدابير الأولية، من بينها قيامه بإبادة إحدى آخر
فلول الحروب الصليبية ممثلة في منظمة فرسان مالطا، وقد كان وقتها مجتاحاً
للأراضي الإيطالية في طريقه نحو مصر. بيد أن احتلال الجزائر، سنوات بعدها،
سيفسد الرهان.
وسيعتقد لينين بأن الثورة البلشفية لن تنتشر داخل أوروبا، الخاضعة
حينها لأنظمة بورجوازية قوية ومعادية، ما لم تنتصر داخل الشرق العربي
والإسلامي. هكذا حاول لينين الوصول إلى العالم الإسلامي عبر بوابة الأقليات
المسلمة في الحزام الجنوبي للاتحاد السوفييتي، وقد قام بإجراءات تهدف إلى
التوفيق بين الحكم الذاتي للجمهوريات الإسلامية والسيادة المرجعية لقوانين
السوفييت لا سيما بالنسبة للقضايا الخلافية، وقام أيضاً بتدابير تتعلق
بإعادة الممتلكات الأثرية للمساجد التي سلبت منها إبان الحكم القيصري… بيد
أن الغزو السوفيتي لأوروبا الشرقية ثم لأفغانستان، قد أفسد الرهان.
هذا الرهان الثوري على العالم الإسلامي ما يزال قائماً لدى الكثير من اليساريين الأوروبيين، على رأسهم : التروتسكيون.
هم قليلو العدد، كثيرو الخلافات، لكنهم في المقابل يتمتعون بدينامية
كبيرة. ليس لديهم ما يسمى بالمكان الخطأ، فهم لا يتردّدون في التواجد داخل
أي مكان قد يوجد فيه من يمكن أو يتوجب إقناعهم. قد يجدهم المرء داخل أحزاب
أو نقابات لا يتفقون مع برامجها، أو داخل برلمانات لا يترددون في وصفها
بالرجعية. وقد أثاروا جدلاً واسعاً حول حجم تأثيرهم على المسار الفكري
للعديد من رجال الدولة في الغرب. ففي الولايات المتحدة الأمريكية انحدر
المحافظون الجدد من صلبهم، بدءاً من أب عائلة كريسطول (إفرينغ كريسطول).
وفي فرنسا كان العديد من رجال الدولة، من بينهم رئيس الوزراء الأسبق ليونيل
جوسبان، قد أمضوا مرحلة شبابهم داخل إحدى التنظيمات التروتسكية.
لم يسبق لأية مجموعة تروتسكية أن حملت السلاح أو أعلنت العنف الثوري،
حتى في زمن كان الكثيرون يفعلونها، فقد ظلوا يستندون في استراتيجياتهم على
التثقيف النضالي، ولأجل ذلك ينخرطون في النقابات ولا يترددون في المشاركة
في كافة الانتخابات. ليس لهم برنامج للثورة أو للاستيلاء على السلطة، فقد
أعفتهم فرضيّة استحالة الاشتراكية في بلد واحد من هاجس حسم السلطة. ولذلك
فإنهم قليلاً ما عانوا من خصومة الحكومات الغربية وعدائها، لا سيما إذا
استحضرنا أنهم ظلوا يشكلون التيار الأكثر جذرية في مناهضة المعسكر الشيوعي
الستاليني ومعاداة الدّولة السوفييتية إبان الحرب الباردة.
قليلاً ما عرفت عنهم انتقادات لاذعة للتطرف الإسلامي. بل كان الأمر
يصل في بعض الأحيان إلى وجود بوادر تقارب محتمل بين الطرفين. ومن طرائف مثل
ذلك التقارب أن الزعيم الإسلامي المتطرف في الجزائر علي بلحاج لم يكن
يتردّد في نعت المناضلة التروتسكية لويزا حنون بـ"الرّجل الوحيد في
الجزائر".
شهد رهانهم على المتطرفين الإسلاميين بعض التغيرات عقب اعتداءات
الحادي عشر من سبتمبر، حيث ساهم جيل جديد من مثقفيهم في إثارة تصور يفيد
بأن التطرف الإسلامي لا يمثل في آخر التحليل سوى الوجه الآخر للهمجية
الرّأسمالية والامبريالية، ويمكننا أن نحيل إلى كل من طارق علي في كتابه
"صدام الأصوليات" وجلبير الأشقر في مؤلفه "صدام الهمجيات"، وهما نموذجان
لمحاولة تجديد الخطاب التروتسكي على خلفية مآسي الإرهاب العالمي. إلاّ أن
الموقف "الاستراتيجي" العام لم يخرج المسلمين من دائرة الرهان الثوري، حتى
وإن كانت الدائرة قد شهدت تعديلا شاملا.
بمشاركتهم في النقاش الجاري حول الموقف من الإسلام ومن التطرف
الإسلامي، استطاع التروتسكيون أن يضفوا على النقاش طابعاً تحليلياً
متميزاً، ومثلوا مناسبة لاختبار وتحيين مفاتيح التحليل الماركسي للمسألة
الدينية وللموقف من الإسلام، وبالجملة للعلاقة بين : النبي والبروليتاريا.
يعتبر المقال الذي أصدره المناضل التروتسكي البريطاني كريس هارمن
Chris Harman عام 1994 تحت عنوان "النبي والبروليتاريا"(1) أحد أهم
المقالات المرجعية التي حاولت أن تؤطر مقاربة التروتسكيين للظاهرة
الإسلامية قبل اندلاع ما يعرف بالإرهاب العالمي.
يتعلق الأمر بمقال مطول استفاض من خلاله كريس هارمن في تحليل تجربة
الحركة الإسلامية، مستعرضاً في ذلك لعدة نماذج من مختلف دول العالم
الإسلامي، مثل الجزائر وإيران والسودان ومصر، لكي يخلص إلى استنتاج يفيد
بأن ما يميز الإسلاميين في تحالفاتهم وفي مواقفهم هي مجموعة من السمات
تتمثل في طابع المفارقة والتناقض وعدم القابلية للتوقع.
لا يكتفي كريس هارمن فقط بالدّعوة إلى استحضار خاصية التناقض في
الخطاب الإسلامي، وإنما يدعو بالأحرى إلى العمل على استثمارها طالما كان
"بوسع الاشتراكيين دائماً أن يستثمروا تناقضات الإسلاميين الراديكاليين من
أجل دفعهم نحو مراجعة ارتباطهم الفكري والتنظيمي بالحركات الإسلامية"(2).
لا يدعو هارمن إلى مساندة الإسلاميين في طموحهم للوصول إلى السلطة،
طالما ذلك لن يعني في رأيه أكثر من استبدال استبداد باستبداد آخر. إنه
يقترح التعامل معهم وفق المعادلة التالية : يمكن التحالف مع الإسلاميين حين
يكونون في المعارضة أو المقاومة، ويجب معارضتهم ومقاومتهم حين يصبحون في
السلطة. علماً بأن وصولهم إلى السلطة هو أقل رجحاناً وواقعية مما يتصور
الكثيرون.
يعتقد هارمن بأن الحركات الإسلامية لا تملك تلك القوة المطلقة
والمتعالية على التاريخ كما يظن البعض ويخشى الكثيرون. إنهم لا يملكون تلك
القدرة الأسطورية على قلب الأنظمة العربية وغزو المجتمعات الأوروبية، وما
إلى ذلك من أساطير الأولين. فالحركة الإسلامية، بالرغم من كونها حركة
جماهيرية، إلا أنها تظل مقيدة بقوانين الواقع وحدود التاريخ والجغرافية.
يختتم هارمن مقالته بالشعار التالي : مع الإسلاميين أحياناً حين يكونون في المعارضة وأبداً حين يكونون في السلطة.
لا ينطبق هذا الموقف على التروتسكيين البريطانيين فقط وإنما تتبناه
بعض التيارات التروتسكية في فرنسا أيضا. فقد نشرت المجلة الناطقة باسم
الرابطة الشيوعية الثورية الفرنسية مقالاً تحت عنوان: لماذا علينا أن ندافع
عن المسلمين؟
كان جواب المقال : إن الإسلام هو دين "الطبقة العاملة المهاجرة"(3).
الرهان الثوري على المسلمين ما يزال منعقداً ومتجدداً، وإن كان قد
انتقل من رهان على العالم الإسلامي برمته، مع نابليون ولينين وحتى كريس
هارمن، إلى مجرّد رهان على الأقليات المسلمة في الغرب.
فهل نعيش اليوم، الفصل الأخير من الرهان الثوري على المسلمين؛ أم أن لذلك الرهان الثوري على المسلمين فصولا وجولات أخرى؟
سؤال مفتوح لنقاش قد يكون هو الآخر مفتوحاً.