[size=18][
يستعصي مفهوم "المهمّشين" على
الضبط الدقيق، فهو يحيل إلى فئات واسعة يمكن أن تختلف الطبقات التي تنتمي
إليها اختلافا بيّنا، كما يمكن أن تتعدّد المعايير التي يتمّ وفقها توصيف
هذه الفئة أو تلك باعتبارها مهمّشة.
وفضلا عن ذلك فإنّ ظاهرة المهمّشين لا تكاد تخلو منها هذه المرحلة
أو تلك من المراحل التي اجتازها تاريخ الصراع بين البشر، فبين العبيد
القدامى وأقنان العصر الوسيط وبروليتاريا العصر الحديث، هناك سمة مشتركة
تعدّ وجها من وجوه الاستغلال والقهر، وهي تهميش قطاعات واسعة من الناس من
قبل النظام الاقتصادي والسياسي المهيمن.
يفرض الطغاة على شعوبهم التهميش عمدا، ويفرض الامبرياليون على
الأمم المضطهدة الأمر نفسه، وتفرض الطبقة الأقوى التهميش على الطبقة
الأضعف، وهذا قانون عامّ فالتهميش يخترق المجتمعات الطبقية من أقصاها إلى
أدناها، ولا يمكن تصوّر وجود إمبريالية بدون هامش ولا برجوازية دون هامش
ولا إقطاعية دون هامش ولا أسياد دون هامش، ومعالم ذلك تغطّي تاريخ البشرية.
وسواء تمّ تناول العلاقة بين المقهورين وقاهريهم على نطاق خارجيّ أو
داخليّ، فإننا نكون إزاء مركز وهامش تتحكّم بعلاقتهما تناقضات أساسية،
وإنكار التضادّ بين هذين القطبين ليس سوى حذلقة فكرية لا تصمد أمام وقائع
الحياة العنيدة، وثورات المهمّشين وانتفاضاتهم برهان على ما نقول. ومن ثمّة
فإنّ دراسة ظاهرة المهمّشين تحظى بأهمية كبرى ليس فقط من ناحية تفسير
تاريخ المجتمعات الإنسانية، وإنما أيضا من زاوية مطلب التغيير الاجتماعي.
ولا نبتغي هنا الحديث عن التهميش كفعل اختياريّ وإنما باعتباره
اضطرارا، بل إننا نرى أنّ ما يبدو اختيارا يخفي في صميمه اضطرارا لا تخطؤه
العين المتفحّصة، كما لا نبتغي التقيّد بالدلالة الواسعة للظاهرة حيث
الأصناف الاجتماعية التي تتمرّد بحسب البعض على التصنيف الطبقي، وإنما
نتعامل مع المفهوم في دلالته الضيّقة التي تحيل إلى جموع العاطلين
والنازحين والباعة المتجوّلين وماسحي الأحذية والمتسوّلين والقوّادين
والبغايا وأطفال الشوارع الذين يصطلح على تسميتهم بـ: البروليتاريا الرثّة
وأشباه البرولتاريا وما تحت البروليتاريا، وهم من اعتبرهم كارل ماركس في
كتابه الصراعات الطبقية في فرنسا كتلة من البشر مختلفة تماما عن
البروليتاريا الصناعية، تعيش على هامش المجتمع دون مهنة محدّدة. وتعاملنا
مع المفهوم على هذا النحو تفرضه مقتضيات منهجية، غايتها حصر مجال حديثنا
حتى لا نتيه في دروب وعرة لا يسمح المقام بارتيادها.
يتعرض المهمّشون الذين نعنيهم هنا إلى شتّى صنوف القهر
والإذلال، يدفعهم المركز إلى الأطراف، إنّه في حاجة إليهم فقط كموضوع
للاستثمار، ينظر إليهم كشرّ مطلق، ولكنه شرّ لا بدّ منه بالمعنى الاقتصاديّ
على وجه التحديد، فهؤلاء يمثّلون كتلة من البشر يسهل استثمارها دون رقيب،
فيجري تشغيلهم لبعض الوقت في أشدّ المهن وضاعة، والتخلص منهم بيسر متى
انتفت الحاجة إليهم، إنهم بحسب عبارة كارل ماركس جيش احتياطيّ للعمل،
يتكدّس في أحزمة الفقر الحمراء الممتدّة حول المدن حيث يتزاحم
المــــــعذّبون في الأرض ويتدافعون.
تخضع الدولة المهمّشين إلى الرقابة، وقبل ذلك تصنعهم صناعة،
فالتهميش وظيفة من وظائفها، تتوجّس منهم خيفة بشكل دائم، وهذا يصحّ على
الدولة عامة، ولكنها في البلدان المتخلّفة تستعملهم كفزّاعة على نحو مزدوج،
تستعملهم ضدّ المرفّهين في الداخل وضدّ المركز الامبريالي في الخارج، فهي
من يتولّى ضبطهم، وإلا فإنّ أحياء الرفاهة سيصيبها شرّهم، وإذا لم تحل
بينهم وبين المراكز الامبريالية فإنّهم سيتدفّقون عليها عبر البحر غير
آبهين بالمخاطر التي تهدّدهم، فحياتهم مثل مماتهم.
تجد الدولة في المهمّشين ضرورة من ضرورات بقائها، تستثمرهم ما
وسعها ذلك، تتغاضى حينا عن الأنشطة الاقتصادية الموازية التي يتعاطونها ،
بل ربّما سيطرت عليها وأدارتها عبر بارونات الفساد والجريمة المنظمة، وبين
الفينة والأخرى تستعرض بطولاتها ضدّهم، إنها تبحث لنفسها عن شرعية أمنيّة
من خلالهم، فتكثّف حملات الدهم والتثبت في هوياتهم ومطاردتهم في الشوارع
والأزقّة، وترحيلهم إلى قراهم النائية وبلدانهم الأصلية متى كانوا من
النازحين البائسين والمهاجرين غير المـرغوب فيهم، وسجن أو نفي من تراه
مزعجا في المعـــازل والمحتشدات والثكنات.
وفضلا عن ذلك تلجأ إلى وسائل أكثر تأثيرا في السيطرة عليهم فتبذر
بينهم العداوة، مصدّرة أزمتها إليهم، وهكذا فإنّه عوضا عن انفجار الصراع
بين الهامش والمركز ينفجر في الهامش ذاته، فيتقاتل المهمّشون فيما بينهم
حول القضايا الزائفة مثل الكفر والإيمان والطائفة والمذهب، ويتخاصمون حول
الفريق الرياضي المفضّل والسيطرة على هذا أو ذاك من مجالات النشاط
الاقتصادي الهامشي، فيستشري بينهم عنف مدمّر يتّجه نحو الذات فيمزّقها
إربا.
والدولة / المركز بارعة في زرع بذور الشقاق بينهم، فكلما فرقتهم
سادت عليهم. وربما احتاجت لجهودهم في أوقات الأزمة فتوظّفهم في معاركها
الوهمية بحثا عن شرعية مفقودة، والمثال على ذلك ما حصل خلال المواجهة
الكروية بين مصر والجزائر، إذ وجد المعطّلون والمفقّرون ـ بالإضافة إلى
أصناف اجتماعية أخرى ـ أنفســهم وهم يتماهون مع الدولة ورموزها ويعسكرون في
الخندق الأوّل لاستعادة الكرامة الوطنية المجروحة، والدولة تنقلهم
بطائراتها وتصرف عليهم من خزانتها وهي ترمقهم بابتسامة ماكرة.
وعندما تؤكّد الدولة على إدماج هؤلاء في النسيج الاجتماعي لا
ينبغي تصديقها، فالواقع يقول العكس حيث لا تفتأ أعدادهم في تزايد، ومع
تطوّر التناقضات الاجتماعية فإنّ جحافل ممّن كانوا في المركز يجدون أنفسهم
شيئا فشيئا وقد أصبحوا في الهامش. ويتحسّر الآباء والأجداد على سابق
الأيـــــام وهم يشهدون المصير الذي آل إليه أحفادهم، الذين لا بيت يؤويهم
ولا لقمة عيش تسدّ رمقهم ولا شغل بين أيديهم.
وبالإضافة إلى الجانب الاقتصادي والاجتماعيّ، فإنّ الجانب
النفسيّ مهمّ في مقاربة وضعيه البروليتاريا الرثّة، حيث نجد شعورا جارفا
بالإحباط، ففي عالم الاغتراب المعمّم يقوى ذلك الشعور لدى هذا الصنف بشكل
خاص، إذ تتحوّل الحياة اليومية إلى مناحة، إنها كابوس لا مهرب منه سوى
التضحية بالحياة نفسها، فيفتقد الأمل ويُوأد الحلم مبكّرا، ويتصاعد
الإحساس بالوحدة، ويزحف الجليد على العلاقات بين هؤلاء المهمّشين ومحيطهم
فيشعرون أنهم تركوا لمصيرهم دون سند، وتتالى الخيبات والانكسارات فنكون
إزاء إنسان مهزوم يبحث عن ذاته داخل أسوار ما تفتأ تتّسع وتعلو فلا يجدها،
تضيق به السبل وتُسدّ أمامه المنافذ فلا ينتظر غيضه المكتوم غير قادح
بسيط لكي ينفجر.
وهؤلاء لا يمكن للنقابة أن تجمعهم ولا للحزب السياسي أن يستهويهم، ولا
للجمعيات أن تستوعبهم، إنهم جسم يستعصي على الضبط، وغالبا ما تؤثر فيهم
الشعارات التعبوية العامة وخاصة الدينية والشوفينية والعرقية والطائفية
لذلك تجد فيهم الجماعات الفاشية فريسة سهلة، وفي البلاد العربية مثلا نجدهم
في صفوف جيش المهدي أو السلفية الجهادية، كما أن بعض المهاجرين في أوربا و
أمريكا يجدون في القاعدة تعبيرا عنهم.
غير أنّ هؤلاء يمكنهم أيضا لعب دور مهمّ في الثورة مثلما
تدلّل عليه الحالتان الصينية والجزائرية على سبيل المثال، ففي الصين أدرك
ماوتسي تونغ الطابع المزدوج الذي يسم البروليتـاريا الـــرثّة في علاقتها
بالثورة، فقد كتب يقول : "إن وضعية الصين كمستعمرة وشبه مستعمرة قد أوجدت
جمهورا كبيرا من العاطلين عن العمل في أرياف الصين ومدنها، وقد اضطر كثير
منهم لحرمانهم من الوسائل الشريفة لكسب أرزاقهم إلى ممارسة أعمال غير شريفة
لكسب قوتهم، ومن هنا وُجد قطاع الطرق والصعاليك والشحاّذون والعاهرات
وكثيرون من محترفي الأعمال الخرافية. إنّ هذه الفئة الاجتماعية هي فئة
متذبذبة، فإنّ جزءا منها يمكن أن تبتاعه القوى الرجعية بسهولة، في حين أنّ
الجزء الآخر يمكن أن ينضمّ إلى الثورة، وهؤلاء الناس تنقصهم روح البناء،
وهم أقدر على التخريب منهم على البناء، وإذا ما انضموا إلى الثورة فإنهم
يصبحون مصدرا لنزعة العصابات المتنقلة وأفكار الفوضوية في الصفوف الثورية،
فينبغي إذن أن نعرف كيف نعيد تكوينهم وأن نحذر من نزعتهم التخريبية" ماو،
المؤلفات المختارة، المجلد الثاني، ص 450، وقد تحدّث ماوتسي تونغ عن
الأساليب التي اعتمدها هؤلاء في النضال ضد مضطهديهم، كاشفا عما يمكن أن
يؤول إليه الانفجار الذي أشرنا إليه آنفا، فكتب يقول واصفا ما سمّي بحركة
الرعاع في الريف غداة بعض الانتصارات التي حققتها الثورة سنة 1927 في عدد
من مناطق الصين : "إنّ جميع الذين كان الوجهاء يحتقرونهم ويمرغونهم في
الوحل والذين كانوا لا يحتلون أي مكان في المجتمع ولم يكن لهم الحق في
الكلام قد رفعوا رؤوسهم فجأة وعلى غير انتظار، لم يرفعوا رؤوسهم وحسب بل
أمسكوا زمام السلطة… لقد رفعوا أياديهم السمراء الخشنة وأنزلوها على رؤوس
الوجهاء، إنهم يوثقون الوجهاء الأشرار ويضعون على رؤوسهم الطراطير الورقية،
ويسحبونهم بالحبال ويطوفون بهم في المواكب في أرجاء القرى "ماو، تحقيق عن
حركة الفلاحين في خونان.
وفي الجزائر يعدّ "علي لابوانت" نموذجا لهذا الصنف من المهمّشين،
فقد كان في بداية حياته قوّاد بغايا لا يكاد يفارق السجون، وباحتكاكه
بالثوريين اختار طريق الكفاح الوطني فأبلى البلاء الحسن، وقد ألقى الضوء
على تجربته المخرج الشيوعي الايطالي جيليو بونتكورفو في شريطه "معركة
الجزائر" الذي تناول فيه مقاومة "علي لابوانت" ورفاقه للمظليين الفرنسيين
من الكتيبة العاشرة بقيادة الجنرال جاك ماسي، الذين صدرت لهم الأوامر
بالقضاء المبرم على الفدائيين في حي القصبة سنة 1957 باستعمال كل الوسائل
المتاحة لهم دون رحمة، وقد أبرز الشريط شخصية "علي لابوانت" المهمّش السابق
وهو يقاوم المستعمرين بضراوة ودون أدنى مساومة، مصمّما على الموت رافضا
الاستسلام قبل أن يستشهد بكرامة في ساحة الشرف الثوريّ.
/size]
السبت أكتوبر 30, 2010 12:51 pm من طرف هشام مزيان