عدم التدخل (مبدأ ـ)
لفهم عدم التدخل non-intervention، لابد من تحديد مدلول التدخل ابتداءً. فالتدخل ـ كما يؤكد فقه
القانون الدولي ـ هو عادة قديمة، وربما يكون ضرورة سياسية في العلاقات بين الدول؛
وهو موجود بشكل دائم، وفي كل مكان. وهذا يعني أن عدم التدخل تنظيراً يدخل ضمن نطاق
العلاقات السياسية الدولية. أما في القانون الدولي[ر] فإن السمة البارزة لمبدأ عدم
التدخل فهي أنه ينفي مشروعية السلوك الذي يتم وفق هذا المبدأ، ومعيار عدم مشروعية
التدخل في الفقه الدولي تكمن فيما إذا كان التدخل في الشؤون الداخلية لإحدى الدول
استبدادياً أم لا. فالتدخل الاستبدادي يعد تدخلاً غير مشروع من الناحية الدولية.
ويمكن تعريف التدخل بأنه ضغط يمارسه شخص دولي
على إحدى الدول، بقصد إرغامها على اتباع سلوك معين يتعلق باختصاصها الداخلي، أو
الامتناع عنه، بغض النظر عن كيفية التدخل ونوعه.
وتتعدد أنواع التدخل تبعاً لأسلوب الشخص الدولي
(أي الدول، والمنظمات الدولية) الذي يمارسه. ويتدرج التدخل في شدته من التدخل
الإعلامي البسيط (كالدعاية الإعلامية الهدامة)، إلى التدخل السياسي (كقطع العلاقات
الدبلوماسية)، إلى التدخل الاقتصادي (كالمقاطعة الاقتصادية)، إلى التدخل العسكري
(كالتدابير الانتقامية وشن الحرب)، وهو أشد وأعنف أنواع التدخل.
ويثير النوع الأخير من التدخل عادةً توترات
دولية كبيرة، ولاسيما أنه ينطبق على مجموعة من الأنشطة، يحتمل كل منها وصفاً آخر،
مثل: التهديد بالقوة؛ تهديد السلام، انتهاك السلام، استخدام القوة، العدوان[ر]،
الدفاع عن النفس، وسلوك التنفيذ الجبري. وكل من التعبيرات السابقة يمكن عدها
تدخلاً (سواء أكان مشروعاً أم غير مشروع).
كانت مواقف بعض الدول الكبرى من عدم التدخل
متناقضة إلى حد كبير، ومعتمدةً بالدرجة الأولى على توازن القوى. فعقب الثورة
الفرنسية أعلنت فرنسا تمسكها بمبدأ عدم التدخل ضماناً لعدم الاعتداء على حرية
الشعوب، ولكنها ـ
وبالحجة نفسها ـ أعلنت أنها ستقف إلى جانب الشعوب التي ترغب باستعادة حريتها، أي
إنها أعلنت تمسكها بالتدخل في شؤون الدول الأخرى. وقد أثبتت فرنسا أن سياستها
الحقيقية ـ عقب الثورة ـ قائمة على التدخل، وهذا ما أكدته حروبها التوسعية، ولكنها
بعد ذلك تراجعت عن التدخل وأكدت تمسكها بمبدأ عدم التدخل، نتيجة وقوف الحلف المقدس
Holy Alliance style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'>
ضدها، ولاسيما أن الجيوش الفرنسية قد ضعفت نتيجة هذه الحروب، وكان القصد من التمسك
بمبدأ عدم التدخل منع الدول الأخرى من التدخل في شؤون فرنسا.
وبالمثل، فقد أعلنت الولايات المتحدة المبدأ
المعروف بمبدأ مونرو. وقد كان هذا المبدأ عند ظهوره أول مرة ناتجاً مباشرة من
سياسة التدخل لصالح المشروعية التي اتبعها الحلف المقدس في بداية القرن التاسع عشر
بعد هزيمة نابليون. فقد كانت دول الحلف تميل إلى مد سياساتها التدخلية إلى أمريكا،
ومساعدة إسبانيا في استعادة سيطرتها على المستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية،
التي أعلنت استقلالها واعترفت بها الولايات المتحدة دولاً مستقلة ذات سيادة.
ولتجنب الخطر الوشيك، صرح الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في رسالته السنوية إلى
الكونغرس في 2 كانون الأول 1823 عن ثلاث نقاط مختلفة تماماً ولكنها متساوية
الأهمية:
1ـ فيما يتعلق بالحدود غير المستقرة في شمال
غربي القارة الأمريكية، ومع الإشارة الخاصة للتحديات الروسية المتخذة في 28 أيلول
1821 أعلنت الرسالة أن «القارة الأمريكية من خلال وضعها الحر والمستقل الذي
استطاعت فرضه والحفاظ عليه، هي من الآن فصاعداً لا يمكن اعتبارها خاضعة للاستعمار
المستقبلي من قبل أية دولة أوربية». هذا الإعلان لم يكن معترفاً به من قبل الدول
الأوربية، وقد هاجمته بريطانيا وروسيا صراحةً. وفي الواقع، إنه لم يكن هنالك أي
احتلال لأي إقليم أمريكي من جانب أي دولة أوربية منذ ذلك الإعلان.
2ـ الاستمرار في سياسة الرئيس واشنطن المعبر
عنها في الرسالة التي بعثها عام 1796 style='font-size:14.0pt;font-family:"Simplified Arabic"'>إلى الكونغرس والتي
تقرر أنه «في الحروب بين الدول الأوروبية، هي مسائل فيما بينهم، فلن نقف بأي جانب،
وليس من المناسب وفق سياستنا أن نفعل ذلك …».
3ـ بخصوص تدخل الحلف المقدس فيما بين إسبانيا
ودول أمريكا الجنوبية أعلنت الرسالة أنه في الوقت الذي لم تتدخل فيه الولايات
المتحدة، ولن تتدخل في الحروب في أوربا؛ فإنها من جانب آخر، ومن أجل السلام، لن
تسمح لدول الحلف الأوربية أن تمد نظامها السياسي إلى أي جزء من أمريكا؛ ولن تسمح
لها بمحاولة التدخل في استقلال جمهوريات أمريكا الجنوبية.
ويبدو واضحاً أن الولايات المتحدة بإعلانها مبدأ
عدم التدخل وتمسكها به تجاه الدول الأوربية؛ فإنها تبيح لنفسها التدخل في شؤون
الدول الأمريكية، إذ يبدو أنها أعطت لنفسها الحق في التحدث عن غيرها من الدول.
بدأ مبدأ عدم التدخل بالتسلل إلى القانون
الدولي من خلال فكرة الاختصاص الداخلي للدولة، وقد كان ذلك من خلال مواثيق
المنظمات الدولية، ومن خلال بعض القرارات الدولية. ففي عهد عصبة الأمم[ر] أوحت
المادة 15/8 بفكرة عدم تدخل العصبة ـ على الرغم من عدم ذكر ذلك صراحةً ـ في
المنازعات المتعلقة بالاختصاص الداخلي المنفرد لأحد طرفي النزاع، إذا ما ادّعى
الأخير، وثبت لمجلس العصبة أن النزاع يتعلق بمسألة تدخل وفقاً للقانون الدولي في
الاختصاص الداخلي لأحد طرفي هذا النزاع.
وفي ميثاق منظمة الأمم المتحدة[ر] أدرج عدم
التدخل ضمن المبادئ التي تعمل الهيئة وأعضاؤها وفقاً لها لدى سعيها إلى تحقيق
أهداف الأمم المتحدة. وقد ورد المبدأ في الفقرة (7) من المادة الثانية من الميثاق،
إذ «ليس في الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم
الاختصاص الداخلي لدولة ما… على أن هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة
في الفصل السابع».
وقد أثار غموض النص السابق الجدل بشأن اقتصاره
على علاقة المنظمة بالدول، أو امتداده لينطبق على العلاقات بين الدول أيضاً. ويبدو
أن الغلبة كانت للاتجاه الأول، لذلك شرعت الجمعية العامة للأمم المتحدة بإصدار
العديد من القرارات التي تفيد سريان مبدأ عدم التدخل على العلاقات بين الدول، ومن
أهمها القرار2131 لعام 1965.
وقد أكد قضاء محكمة العدل الدولية مبدأ عدم
التدخل في القضايا التي انطوت على تدخل دولة في شؤون أخرى، كما هي الحال في قضية
الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا وضدها عام 1986.
على الرغم من استقرار عدم التدخل نظريةً سياسية؛
ومبدأً قانونياً، يبدو أن التدخل مايزال سمة العلاقات الدولية في غياب توازن
القوى. ومما لاشك فيه أن انهيار الاتحاد السوڤييتي[ر] أنعش سياسات التدخل
(بأشد أنواعه) لدى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد برزت هذه السياسة في عدد من
المناسبات، لعل من أهمها التدخل الأميركي البريطاني في شؤون العراق وخاصة غزوه في
21 آذار 2003 بذريعة إزاحة النظام السياسي فيه، وتجريده من أسلحة الدمار الشامل،
التي لم يثبت وجودها فيه.
ياسر
خضر الحويش