الأنثروبولوجيا التأويلية والإسلام بالمغرب مقارنة بين غيرتز وأيكلمان.عبد الغني منديب 17 يوليو 2012 في ملفـــــات تعليق واحديعتبر كل من كليفورد غيرتز، وديل أيكلمان، ولورنس روزن، وهلدر غيرتز، وبول رابينو أهم الباحثين الأنثروبولوجيين ذوي المرجعية النظرية التأويلية الذين درسوا المجتمع المغربي. وقد سعى هذا الاتجاه التأويلي، كما هو معلوم، إلى فهم طبيعة النظام الاجتماعي المغربي وضبط آليات تغيره انطلاقا من تصورات الأفراد وتمثلاتهم الثقافية حول الوجود وحول علاقاتهم الاجتماعية. وهذا التصور النظري هو الذي دفع كل من غيرتز وأيكلمان، وهما بمثابة الوجهين البارزين ضمن هذا الاتجاه التأويلي، إلى التركيز أكثر على دراسة المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها كمفتاح لفهم النظام الاجتماعي والنظام المجتمعي ككل بالمغرب.
وتبتغي ورقتنا هذه عرض وإبراز أهم الخلاصات والاستنتاجات التي خلص إليها هذا الاتجاه التأويلي حول الإسلام بالمجتمع المغربي، وذلك من خلال المقارنة بين أعمال كل من غيرتز وأيكلمان
. وعلى الرغم من أن أيكلمان يُعرض عن فكرة وجود “مدرسة تأويلية” ينتمي إليها إلى جانب غيرتز والآخرين[ii]، فإننا نعتقد أن القراءة المتفحصة لدراستي كل من غيرتز وأيكلمان، المذكورتين أعلاه، تبين أن ما يجمع بين هذين الأنثروبولوجيين أكثر بكثير مما يفرقهما[iii]. فعلى الرغم من أن كلا الباحثين له أسلوبه الخاص في الكتابة والتحليل، فإن هناك نوعا من التطابق بينهما على مستوى الخطوات المنهجية المتبعة، وعلى مستوى الاستنتاجات العامة التي توصلا إليها. وبتعبير آخر، فإن للرجلين في عمليهما السابقي
الذكر مواطن ائتلاف واختلاف سوف نسعى جاهدين لرصدها وتفسيرها في حدود ما تسمح به هذه المقارنة.
[list="padding-right: 0px; padding-left: 0px; margin-right: 10px; margin-bottom: 25px; margin-left: 0px; outline: none; list-style: none; border: 0px none; text-align: justify;"]
[*]I.الإطار النظري: النظرية الڤيبرية حول التفاعل القائم بين المنظومات الثقافية والمعتقدات الدينية
[/list]
من المعلوم لدى ذوي الاختصاص أن كليفورد غيرتز، هو أحد كبار الأنثروبولوجيين المعاصرين الذين أسهموا في تطوير دراسة الأنساق الرمزية والثقافية داخل الممارسات الأنثروبولوجية سواء على مستوى النظرية أو على مستوى المنهج
[iv]. وقد عمل غيرتز، منذ مقالته الشهيرة “الدين كنسق ثقافي”، على بلورة تعريف عام للدين ينسحب على جميع الأشكال الدينية الممكنة، فالدين حسبه «نسق من الرموز يعمل على تأسيس طبائع ودوافع ذات سلطة، وانتشار واستمرار دائمين لدى الناس، وذلك عبر تشكيل تصورات حول النظام العام للوجود، مع إضفاء طابع الواقعية على هذه التصورات بحيث تبدو هذه الطبائع والدوافع واقعية بشكل متفرد»
[v]. ويقصد غيرتز من خلال هذا التعريف للدين أن هذا الأخير يربط الصورة الجوهرية للحقيقة بمجموعة من الأفكار المتماسكة حول الكيفية التي ينبغي على الإنسان العيش وفقها، موفقا بذلك بين الأنشطة البشرية وصورة النظام الكوني، وباعثا في الوقت نفسه صورا عن هذا النظام الكوني فوق مستوى الوجود البشري.
وعلى الرغم من بعض الانتقادات التي وُجهت إلى هذا النموذج التحليلي لغيرتز حول الدين، فإن محصلته كانت، في نظرنا، واضحة وإجرائية، لأنها دعمت التصور الڤيبري المتجاوز للمنظور التبسيطي، الذي يقيم تعارضا بين وهم الاستقلال المطلق للخطاب الديني، وبين النظرة الاختزالية التي تجعله انعكاسا مباشرا للبنيات الاجتماعية. هذا التصور الڤيبري هو الذي سيعتمد عليه بورديو ويزكيه فيما بعد
[vi].
وقد نحى ديل أيكلمان هذا المنحى نفسه، حيث يقول بهذا الصدد: «إن الأفكار والمنظومات الفكرية، وخاصة منها تلك التي تبنى على أساسها مواقف الناس اتجاه الكون، لا يمكن أن يستقيم تفسيرها، من وجهة نظر تحليلية صرفة، كما لو كانت مجرد وحدات أفلاطونية تتموقع فوق مستوى التاريخ، بحيث لا تمسها حوادث الزمن وتطالها صروفه»
[vii]. ويرى أيكلمان أن النموذج الڤيبري المتضمن في «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية يعد بمثابة التحليل السوسيولوجي الأكثر ملاءمة لتحليل الأوضاع التاريخية المحددة، والأكثر قابلية لتوظيفه في بلورة المتغيرات السوسيولوجية في شكل مفاهيم إجرائية»
[viii]. كما أن أيكلمان أحال أكثر من مرة على أفكار غيرتز، التي تعزز هذا الطرح الڤيبري
وتعمل على أجرأته، واستعان بها على رسم معالم وحدود مرجعياته وخلفياته النظرية المؤطرة لدراستة حول «أبي الجعد».
بناءً على ما سبق، يبدو جليا أن كلا من غيرتز وأيكلمان اعتمدا، بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة، على الطرح الڤيبري الذي يرى أنه لا تستقيم دراسة الهوية الدينية سوى بتناولها ضمن النسق الديني التي تشكل جزءً منه، بالإضافة إلى السياق الاجتماعي التي تندرج داخله. وعليه عمل كل من الأنثروبولوجيين على دراسة الإسلام بالمجتمع المغربي في سياق التغير الاجتماعي، بمعنى وضعه داخل سياقه التاريخي.
II. الربط بين التاريخ والبنية الاجتماعية
تعتبر مسألة الجمع بين أدوات الأنثروبولوجي والمؤرخ في دراسة الأنساق الدينية من أهم ما يميز الاتجاه التأويلي. وإذا كنا قد أبرزنا فيما سبق الجذور النظرية لهذا الربط، فإننا سوف نحاول فيما سيأتي من هذه الفقرة الوقوف على الاستعمال العملي التطبيقي لهذا المنحى المنهجي عند غيرتز وأيكلمان من خلال متنيهما السابقي الذكر.
يعتبر غيرتز التاريخ المغربي تاريخا دينيا بالأساس
[ix]، حيث إن الشخصية الصانعة لهذا التاريخ كانت ولا تزال شخصية دينية بالدرجة الأولى، فالولي المحارب هو الذي يشيد المدن أو يهدم الأسوار. فإدريس الثاني، الذي يعد أول ملك حقيقي للبلاد، كان في الوقت ذاته حفيدا للرسول وقائدا حربيا كبيرا ومصلحا إسلاميا مجددا، وتعد الصفتان الأخيرتان بمثابة العامل المحدد، فلولا توفرهما لما أصبح هذا الرجل في الغالب ملكا للبلاد. كما أن مؤسسي الدولتين العظيمتين، المرابطية والموحدية، كانا في الأصل مصلحين دينيين. وأزمة الزوايا التي طبعت التاريخ المغربي، واستمرت زهاء القرنين، نتجت عن إفلاس الإيديولوجية السعدية وسقوط دولتها، كما أن القضاء على هذه الأزمة ووضع حد لها تم على يد الدولة العلوية الناشئة.
ويرى كل من غيرتز وأيكلمان أن الحضارة الإسلامية بالمغرب قد تشكلت بالأساس عن طريق القبائل المتحركة التي كانت تمثل مركز الثقل الثقافي. ويضفي أيكلمان على هذه الفكرة لمسة من التنسيب حيث يرى أن المدن قد دخلت، بالتدريج منذ مجيء الإسلام للمغرب، في علاقة اقتصادية متبادلة مع القبائل المحيطة بها، وكان لها دور في صنع الأنشطة السياسية
[x]. ويميل غيرتز إلى الاعتقاد بأن تأثير الفقهاء قد تقوى بفعل الاحتلال الفرنسي والإسباني للمغرب، بعدما كان محدودا خلال “المغرب القديم”، حيث إن التدخل الأوربي لم يستتبع ردود أفعال غاضبة ضد المسيحية الغازية فقط، وإنما ضد التقاليد “المرابوتية” القديمة أيضا. في حين ينزع أيكلمان إلى الاعتقاد بأن الإيديولوجية الإصلاحية لم تستطع أن تعوض مع ذلك إيديولوجية الزوايا والصلحاء. ويرى غيرتز أن الإسلام لعب دورا هاما في الحفاظ على الذات والشخصية الاجتماعية أثناء مرحلة الاستعمار، إذ أن الظهير البربري هو الذي لعب الدور الكبير في تشكيل الحركة السلفية والحركة الوطنية معا. كما أن المغرب استطاع الحفاظ على وحدته الروحية بفضل مؤسسة الملكية، إذ أعاد الملك محمد الخامس إلى الوجود فكرة الولي، حيث جمع أثناء فترة حكمه بين الولي الصالح والسياسي المقتدر.
وقد وقف أيكلمان بدوره عند أزمة الزوايا التي استمرت من القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن السابع عشر، وفصًلَ في كافة العوامل التي كانت وراءها: كفقدان المغرب السيطرة على تجارة الذهب، واحتلال الإسبان والبرتغاليين للشواطئ المغربية، وتنازلات السلاطين المرينيين، ودور العثمانيين في الجزائر في دعم المعارضة ضد السياسات المرينية. كما رفض أيكلمان تفسير عزلة المغرب، التي دامت من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، بالعوامل الطبيعية، كالسلاسل الجبلية وغياب الموانئ الطبيعية، إذ أرجع هذه العزلة إلى سياسة السلاطين المتعاقبين على الحكم خلال هذه الفترة.
ويبدو للمقارن بين ما أورده كل من غيرتز وأيكلمان حول التاريخ المغربي، أن أيكلمان، على الرغم من كونه لم يختلف مع غيرتز في استنتاجاته الكبرى، إلا أنه أبدى معرفة عميقة ودقيقة بالأحداث التاريخية الكبرى، وكذا بالنقاش الدائر حول دلالاتها وتأثيرها على المسار التاريخي للمغرب. كما أن أيكلمان نهج إستراتيجية تقوم على أساس التفصيل في إيراد المعطيات التاريخية الدقيقة، أكثر مما يستدعيه البرهان النظري، للكشف عن قصور، ليس فقط الكتابات الكولونيالية التي ذكر بعض أصحابها بالاسم، كألفريد بيل، وإنما أيضا من لم يذكرهم بالاسم مثل إرنست غيلنر ودايفد هارت، بل حتى غيرتز نفسه في بعض التفاصيل الدقيقة من تاريخ المغرب. إذ يخيل للقارئ أحيانا أن أيكلمان يتفادى التعبير عن مواطن الاختلاف بشكل مباشر وواضح مع غيرتز، في حين أنه يعمل على إبراز مواطن الائتلاف فيما بينهما ويشدد عليها
[xi].
وفي دراستهما للواقع الاجتماعي، اتخذ المنظور التاريخي عند أيكلمان بعدا أكثر إجرائية بالمقارنة مع غيرتز، بيد أن كليهما أثبتا بأن عملية فهم الحاضر تبقى مرتبطة بمعرفة الماضي، حيث لا تستقيم بدونه.
III. الإسلام بالمغرب من منظور غيرتز وأيكلمان
اعتمد كليفورد غيرتز في رصد وتحليل التغيرات الدينية بالمغرب بالأساس على المعطيات الميدانية والتاريخية التي جمعها حول الموضوع. واستنادا على التصور الڤيبري- الذي يجعل من الدين مؤسسة اجتماعية، والعبادة نشاطا اجتماعيا، والاعتقاد قوة اجتماعية، ويرى أن الحياة الدينية لمجتمع ما ينبغي أن تبدأ من تحليل أنساق الدلالة التي يستعملها الفرد داخل الحياة الاجتماعية – قام غيرتز بتحليل قصة الولي اليوسي، التي تجسد في نظره «صورة الروحانية الحقيقية» عند المغاربة بغض النظر عما كان عليه هذا الرجل في الواقع. وقد كشف غيرتز، من خلال تحليله لصورة اليوسي كما يتمثلها ويتداولها الخيال الشعبي المغربي، عن كنه معنى البركة التي ليست مجرد مفهوم ديني وإنما عقيدة بكاملها. وهي تعني أن المقدس يتجلى في العالم كهبة وقوة يختص بها أناس معينون دون غيرهم. وتعكس مسألة امتلاك البركة سواء من مصدرها النَسبي أو الإعجازي، أو هما معا، معظم دينامية التاريخ الثقافي المغربي. وترمز قصة اليوسي مع السلطان المولى إسماعيل إلى العلاقة القائمة بين البركة الانتسابية والبركة الإعجازية، وكيف تفرض الثانية على الأولى الاعتراف بها وإضفاء الشرعية عليها؟ فقد كان الأولياء، وهم مالكو البركة بامتياز، بمثابة المؤسسين الحقيقيين للوعي والنماذج المشكلة للمجتمع في المغرب القديم. بيد أن التحولات التي مست المجتمع المغربي انطلاقا من تجربة الاستعمار، وظهور مؤسسات جديدة، مع استعادة السيادة الوطنية، غيَّرت هذه الصورة، حيث عمل المغاربة جاهدين على الحد من نضج هذه التناقضات التي نشأت بحكم هذه التغيرات. فقد اجتهدت الحركة السلفية لتحُول دون اصطدام الدين بالعلم. ويخلص غيرتز إلى أن التقاليد الدينية المغربية المعدلة تبقى رهينة استمرارية نمط الحياة التي تصوره، مما يفسر حسب رأيه، في جزء كبير، العلمانية الواقعية التي تطبع الحياة اليومية للمغاربة. حيث إن الاعتبارات الدينية في المجتمع المغربي ،رغم كثافتها، لا تلعب دور الموجه للسلوك سوى في بعض المجالات المحدودة. بيد أن هذا التمييز بين أشكال الحياة الدينية وجوهر الحياة اليومية يسير حتما نحو نقطة الانفصام الروحي
[xii].
ويرى غيرتز أن الحياة الدينية بالمجتمع المغربي لم تعرف تغيرا كبيرا منذ نهاية الستينيات تاريخ صدور كتابه
Islam observed حتى بداية التسعينيات (تاريخ صدور الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب) بسبب استمرارية النظام السياسي، ذلك أن المغرب، وبعكس بلدان إسلامية كثيرة، لم يفرض على الدين التكيف مع التغيرات العنيفة على هيأة وشاكلة السلطات المركزية
[xiii]. وتعتبر هذه الخاصية حسب غيرتز بمثابة صمام الأمان الحقيقي ضد كل الاحتجاجات الدينية، وهذا ما يفسر نجاح الدولة عبر السياسات الحكومية المتوالية للحد من خطورة الحركات الإسلاموية التي بقي تأثيرها حبيس الجامعات وبعض المناطق الهامشية
[xiv].
الإثنين فبراير 08, 2016 10:08 am من طرف نابغة