2014-02-24 الدائرة التأويلية تجاوز اغتراب الوعي الإنساني
|
| |
تقديم
إن الإشكال الذي ظلّ يؤرّق الاتجاهات الهرمينوسية(التأويلية) المعاصرة، يتمثل في رغبتها في تجاوز العوائق التي تؤدي إلى سوء الفهم. ففهم الذات لا يتمّ في بعض هذه الاتجاهات مثلا، إلاّ انطلاقا من فهم تجربة الآخر التي تجسّدها أعماله. وتحقيق هذا المشروع جعل الممارسة الهرمينوسية تولّي اهتماما ملحوظا لدراسة التاريخ. ففهم الآخر مشروط بالانتقال وبسهولة إلى سياقه التاريخي والتفكير بمفاهيمه وبحسب تمثّلاته سواء اللغوية منها أو الفكرية. ويعني هذا أن تأويل النص يكمن في إعادة بناء سياقه الأصلي وإعادة تجريب معناه الأصلي عن طريق انتقال الذات المؤولة من سياقها الثقافي الخاص إلى سياق النص المُعاد بناؤه. وقد ظلّ هذا النوع من التأطير السياقي للنص يمثّل إحدى المسلّمات الأساسية التي يصدر عنها التقليد الهرمينوسي الألماني برُمَّته وبشكل خاص مع ديلتاي وشليرماخير. لكن هذه المسلّمة لم تلبث أن وُوجِهت بنقد شديد في أعمال هايدغر وتلميذه غادامير بشكل خاص، فهايدغر « يعتقد أننا إذا أردنا أن نفهم شيئا أو نؤوِّله، فإننا لا يمكننا القيام بذلك إلاّ داخل الدائرة الهرمينوسية المكوّنة من الأفق التاريخي لوجودنا (...) إذ أننا لا يمكننا أن ننتقل بذواتنا من سياقنا التاريخي الخاص إلى سياق دانتي، مثلا، ونعيد تجربة كوميدياه كما جرّبها هو وقرّاؤه المعاصرون له. فإذا كنّا نستطيع فهم ملحمته وتجريبها، فإننا لا نقوم بذلك إلاّ استنادا إلى سياقنا التاريخي الخاص؛ ذلك السياق الذي يحدّد طريقتنا في النظر إلى الأشياء والإحساس بها» . لذا إذا كانت هذه الاتجاهات ترى أن هوية العمل أو النص عموما تتحدد في وجوده التاريخي؛ أي داخل سياقه التاريخي الأصلي، فكيف يمكن فهم وتأويل النص من منظور سياق تاريخي مغاير؟ وهل يمكن لهذا الفهم حيئنذ أن يبقي ويحافظ على هوية النص أو حقيقته؟ هل الحقيقة التي يقولها النص يجب أن تكون حقيقة موضوعية حتى تتمكّن من ضمان استمراريتها التاريخية؟
تكمن مهمة التأويل في كشف الإمكانات الدلالية الثّرية والمتجددة لكلّ ما يٌنقَل إلى حيّز مُغاير أو إلى زمن مختلف بدخوله في علاقة حوارية مع متلقّيه الجُدد. فلا شيء إذن قابع كليا في موقعه الأصلي وفي معناه المباشر؛ فالعادات والتقاليد والأساطير والأحلام والأعمال الفنية والنظريات العلمية... كل هذه المظاهر وتجلياتها تتجه نحو إمبراطورية المعنى. ومن هنا فإن التساؤل حول هذا المعنى في ظل المقاربة الهرمينوسية سيضعنا أمام إشكالات لها أهميتها في الدرس التأويلي من قبيل الإنتاج والاستهلاك والتداول والفهم والتأويل والتلقي والذاتي والموضوعي والمجرّد والملموس والمحايث والمتجلي... وهي إشكالات مركبة ومرتبطة في العمق بإشكالية الفهم؛ أي فهم النص.
والتأويل – بوصفه طريقة في رصد المعنى وتحديد بؤره وأشكال تصريفه – يتمحور حول إشكالية الفهم، وهي الإشكالية التي مارست قدرا كبيرا من التأثير في مجال قراءة النص. ولمّا كان الفهم هو بؤرة التأويل، فقد جعل منه غادامير حالة أو موقفا خاصا بالوجود الإنساني وملازما له، وهو موقف ينبغي أن يُؤسَّس داخل التاريخ واللغة. هذه الأخيرة، هي التي تسمّي وتعيّن الأشياء وهي الكون الفعلي والوسيط الذي يعبّر عن كينونتنا في هذا العالم. بمعنى آخر إن تعاملنا مع تجربة المعنى لا يمكن أن يتم دون وسائط أو سيرورات توسطية.
وقد أبان غادامير في مقدمة مشروعه الهرمينوسي كيف يمكن للعمل الفني أن يصبح وسيطا ناقلا لتجربة الحقيقة، وهي تجربة ينبغي النظر إليها خارج مجال العلم، وقد مكّنه هذا أيضا من تحديد موقع العمل الفني والنظر إليه باعتباره تجربة وجودية؛ أي تجربة لبناء المعنى لحظة إنتاجه وتداوله وتلقيه. وتلقي معنى العمل الفني لا يمكن أن يتم في ذاته، بل لا بدّ في – نظر غادامير – من حوار بين هذا العمل ذاته والمتلقي. فالعمل الفني يخاطبنا دائما وباستمرار مادام معناه يُنقل إلينا في تجربة معاصِرة لنا. وفكرة "معاصرة المعنى" هذه، تفسّر بدقة سبب فهم الأجيال اللاحقة للأعمال الفنية والمسير الذي ترسمه هذه الأعمال لنفسها داخل التاريخ.
إن الفهم ليس سلوكا موغلا في الذاتية، بل هناك أفق للفهم يحدده التاريخ. وفي كل عملية فهم، وهي المسار الطبيعي، نحو إطلاق العنان لسيرورة التأويل، يجب استحضار قوانين النص وقوانين السياق؛أي مجمل المعارف والأحكام المسبقة التي يمكن للنص الإحالة عليها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لأن تأويل النص، لا يمكن أن ينفصل عن الأحكام المسبقة التي تنتج عن الارتباط التاريخي للذات وعن استمرارية التقاليد أو التراث، «فالفهم، هو قبل كل شيء امتلاك معرفة عن الموضوع نفسه، وهو ثانيا استخراج رأي الآخر بما هو كذلك وفهمه. هكذا يظل الفهم المسبق من بين أول الشروط الهرمينوسية الذي يتولّد عندما نحاول أن نهتم بالشيء نفسه» . وقد تأكّد أن ثمّة أحكاما مشروعة يتمّ البثّ فيه استنادا إلى الأشياء ذاتها. وإذا كان الإشكال الهرمينوسي لا يتعلّق بالموضوعات فقط، بل يتعلّق كذلك بالذوات، فإن الارتكان إلى الذات المشبعة بالكينونة التاريخية – أي الذات المؤوّْلة التي لا تتعالى على أفقها وسياقها التاريخي والثقافي – هو وحده القادر على إظهار عملية الفهم والتأويل.
فالذات المؤوّْلة، وهي تدخل في حوار مع النص، تستدعي مخزونها الثقافي والموسوعي فتنتعش أفكار وتجارب، كانت تمثل عناصر مترسّبة، وتتراجع أخرى إلى الخلف وتقفز أخرى إلى الأمام، وتطفو أخرى فوق سطح النص، ويعدّ هذا انتقاءً سياقيا يكثّف وينظّم ويؤطّر التأويل ويمنحه هويته التاريخية والدلالية المحددة. وللمؤول وحده القدرة على تحيين هذه الهوية الدلالية ضمن هذا المسير التأويلي؛ أي تحديد مُجمل الإمكانات التأويلية القابلة للتجسيد والتحقق من خلال فعل القراءة المتعدد والمتنوع،«إن القراءة إذن، هي البنية الأساسية والمشتركة لكل تحققات المعنى» .
بذلك نكون أمام مقاربة هرمينوسية تستند إلى كفاية القارئ وأهليته، وهي مقاربة لا تنظر إلى النصوص على أنها عوالم تفترض وجود معنى كلي ونهائي يقتضي من المؤول البحث عنه، بل إن الأمر يتعلق بجهة نظر معينة (افتراضات وأحكام مسبقة)، وهي بمثابة فرضية مسبقة للقراءة قائمة على أسنن وتعاقدات مختلفة ومتعددة، تؤثر وتشتغل بوصفها شبكات للقراءة والتأويل.
إن هذه القراءة تنطلق من فرضية وجود مسيرات أو سيرورات لها صلة بالإمكانات التي تتآلف وتنسجم من خلالها وحدات المعنى في نسق محدد. بذلك نكون أمام عملية تأويلية محكومة باستراتيجية.
وفي هذه الحالة، فإن كل شيء يقاس بالعلاقة الموجودة بين النص والمؤول؛إنها علاقة توتّر بين أفقين:أفق المؤول وأفق النص. هذه العلاقة هي التي توجّه وتحدد غايات النص وتجاربه الدلالية والجمالية وتمنح المؤول كذلك فرصة تأمل ذاته من خلال ما تمّ تشييده وتجسيده من معان مختلفة ومتعددة. إن هذه العلاقة ما كانت لتولّد هذه المعاني لولا ارتباطها بجدلية تغير الآفاق وانفتاحها ووجهة نظر القارئ المتحركة، وضمنها كذلك تتحدّد القراءات وتتناسل التأويلات.
يظهر من خلال هذا، أن الأفق هو الآخر سيرورة مسؤولة عن إنتاج المعنى وتداوله، وليس حدثا معزولا أو نتيجة يفضي إليها الفعل التأويلي؛ أي لا يجب تصور أفق أو اختزاله في صيغة بسيطة تنحصر في التأثير، تأثير النص على المتلقي. إن الأفق، هو في نفس الآن حصيلة سيرورة تأويلية وعنصر أساسي فيها؛ أي إنه جزء من دينامية وتفاعل شامل يتداخل فيه معنى النص وخلفياته المرجعية، ومساهمة المؤول في ذلك ومختلف التحولات والتغيرات التي تعرفها تجربة القراءة ،بوصفها تجربة ذات غايات دلالية وجمالية. وهذا يؤكّد حقيقة أساسية تتمثل في كون بنية النص تملك صلة وثيقة ببنية التحقق. إذ لا يمكن الوصول إلى معرفة دور القارئ إلاّ من خلال بنية النص ذاتها، وبواسطة التحقق الذي يتم عبر التأويل والقراءة.
وطبقا لغادامير، فإن الفهم حدثٌ في التاريخ يتمّ فيه تفاعل النص والمؤول والذات والموضوع تفاعلا متبادلا انطلاقا من الدائرة الهرمينوسية. هذه الأخيرة تجسّد الاعتقاد بأن الأجزاء والكلّ يعتمد أحدهما على الآخر، وأنهما يرتبطان بعلاقة عضوية ضرورية. ومن خلال تفسير التأويل بهذه الطريقة، تصبح الفجوة أو المسافة التاريخية التي تفصل الواقعة أو النص عن القارئ سمة سلبية ينبغي التغلب عليها من خلال الحركة المتذبذبة بين إعادة البناء التاريخي من جهة، وفعل القراءة من جهة أخرى. وهكذا، فإن هذه الدائرة الهرمينوسية التي تسلّم بضرورة تواجد الكل وأجزائه، وتلغي تبعاً لذلك إمكان بداية مطلقة، تشهد وحدها على ضرورة تعدد التأويلات. وما يحدد عمق التأويل وغناه وامتداداته، هو طبيعة السؤال وصيغته التي يتبناها المؤول ليكشف عن السيرورات التأويلية التي يسمح بها بناء النص.
إن سؤال التأويل هو الجامع بين مختلف الدراسات الواردة في محاور هذا الكتاب التي قدمها أصحابه وكل منهم تخير حيزا لاستقصاء عمق السؤال بدءا بضرورة التأويل وحاجة الإنسان اليوم إليه بوصفه فعالية دلالية ووجودية ونشاطا معرفيا وفلسفيا لفهم الحياة، واستعادة لمناطق أكثر غورا داخل الذات الإنسانية وداخل النص(عبد الله بريمي والأستاذ الدكتور رحمن غركان) ومرورا بالدائرة التأويلية وسؤال الفهم الذي أبان فيه (محمد شوقي الزين) كيف سلك الخطاب الفلسفي تحديدا مع فيلسوف التأويلية غادامير المنحى الأنطولوجي في قراءة مشكلات الفهم والتأويل "المنحى الأنطولوجي" بوصفه علاقة الذات بذاتها وفهمها لوضعيتها الوجودية في مرآة الوجود ـ مع ـ الآخر وفي ضوء العلاقات والإرادات التي تميّز الوجود برمّته مركزا على مفاهيم عدة وظّفها غادامير قصد حصر المشكلات الإبستمولوجية والأنطولوجية لظاهرة الفهم مثل الأحكام المسبقة والحوار والفهم بوصفه حدثاً.وفي نفس السياق ساءل أيضا (عمارة ناصر)كيف انتقل الخطاب الفلسفي من مُساءلة الفهم باعتباره إطارا ابستمولوجيا لنشاط الذات إلى مُساءلة الانفهام "Se comprendre" باعتباره تعرفا على الحقيقة المشيّدة في الذات، من خلال الطريق القصير للأنطولوجيا. ووقوفا عند التأويل وتجاوز اغتراب الوعي الديني الذي تناول فيه الباحثون بالدرس والتفكير موضوع نقد التراث الإسلامي واختبار إمكانية مواءمة نقده مع مقتضيات ومفاهيم مبحث الهيرمنوطيقا بصفة عامة، وهيرمينوطيقا المنعطف الوجودي، الظاهراتي الفلسفي، المتمثل في محور هايدغر – غادامير بصفة خاصة، وذلك في أفق إنشاء هيرومنوطيقا وجودية فلسفية خاصة بالتراث العربي الإسلامي والوعي الجمالي(يونس الأحمدي). وبالمقابل حاول (حمزة فاضل يوسف) إبلاغ القارئ حقيقة تأويلية مفادها أن التنازع الذي يحدث بين سلطة القارئ وسلطة النص في تأويل النصوص العربية قد يرجّح إحدى الكفّتين، لكن حين يكون النزاع في النص القرآني فله قواعد أخرى كون النص يمتلك امتياز الصحة والبيان، فهو يفرض قواعده وأساليبه وأدواته التعبيرية دون مراجعة من القارئ، وعلى القارئ أن يصحح من سليقته وينقاد للنص لسانيا، فقدسية النص تأتي من داخله وليس من قدسية خارج النص سواء كانت فلسفية أو تاريخية، وقدسية النص تعني سلطته التامة على القرّاء.
وفي مقاربة النص التوراتي قدم (رضوان الخياطي) نظرة عن التأويل وقواعده لدى المفسرين اليهود. دارسا بعض الأسفار من التوراة ومركزا على الغموض والتناقضات التي يعج بها الكتاب المقدس، لأن الغموض والتناقض يشكلان موضوعا خصبا للتأويل. وبنفس العمق وضح (محمد أيت حمو) في دراسته التأويل بين الغزالي وابن رشد أن الإسلام دين متسامح ومنفتح يرفض الوصاية والوساطة وسلطة الكهنة، يفتح الأبواب على مصراعيها المعقول للتأويلات المعقولة التجديدية الجريئة التي تعمل على إسعاد الإنسان الذي هو خليفة الله في الأرض. والتأويل ليس واحدا لا يتكثر كما يدعي ابن رشد، ولكنه جنس تحته أنواع وقراءات ودرجات من التأويلات المتباينة حد التغاير. وهي كلها ـ إلا قليلها ـ تتمتع بنفس القدر من المشروعية التي تجعلها توجد على قدم المساواة في الاقتراب من النص الديني، ولا يحق لبعضها ادعاء الاستئثار لوحده بهذه المشروعية المكتسبة من قواعد اللغة لا من السلطة السياسية، أو تجييش العامة. صحيح أنه يحق لنا أن نعرض عن هذا التأويل أو ذاك، ونخطئ صاحبه، ولكن لا يحق لنا أن نكفر قائله الذي اجتهد فأصاب أو لم يصب. بالمقابل اختار(محمد أبركان) التأويل باعتباره سفرا موليا عنايته إلى تجربة من التجارب التأويلية التي ميزت المنظومة المعرفية العربية والإسلامية، يتعلق الأمر بالتجربة التأويلية العرفانية أو الصوفية، وتحديدا بالتجربة الأكبرية- تجربة حكيم مورسيا محيي الدين بن عربي بتركيزه على التأويل اللامتناهي من خلال لا نهائية السفر وما يمكن قوله هو أن هذه التجربة تقترح نفسها علينا من حيث أنها تمثل تصورا آخر في قراءة التجربة الدينية كما تجسدت في الرسالة المحمدية؛ إنه تصور آخر غير التصور الفقهي أو الكلامي أو الفلسفي، هذا رغم أن ابن عربي لم يغلق أبوابه في وجه هذه القراءات، وإنما متح منها ما رآه قابلا للاستثمار في خدمة العرفان. وقد انتهينا في هذا الكتاب عند التأويل وتجاوز اغتراب الوعي الجمالي الذي أكد من خلال الباحث (إبراهيم عمري)في دراسته: النص الأدبي الرقمي وتحديات التأويل؛ كيف شكلت الرواية منذ نشأتها نوعاً من التحدي المتجدد للشعرية، وظلت تمارس، كما هو معلوم، لعبة اندمار داخلي دون كلل، إمعاناً في انفلاتها الجامح من ربقة المفاهيم، وتعاليها الكيدي عن كل الخطاطات والقوالب. وبين المنجز الذي ترصده المقاربات النقدية، والمحتمل الذي تنشده الشعرية، حيث دأبت الرواية على خرق أفق توقع القارئ باستمرار، وآثرت الارتماء في أحضان منطقة تتجاوز المنجز والمتوقع على السواء، محتفظة لنفسها بهامش من الحرية الإبداعية، وأفق أرحب للبوح. وهو السر الذي جعل الرواية بناء يأبى أن يكتمل، وجنساً اتخذ من الخرق قاعدته الثابتة. ولهذا السبب أيضاً شكلت التجارب الروائية تحدياً حقيقياً لنظرية الأدب، ومصدر إغراء للنقاد والمنظرين، ونداءات متتالية لتجديد أدواتهم الإجرائية. ولا أحد يستطيع اليوم أن يتنبأ بما سيفضي إليه زواج هذا الأدب بالتكنولوجيا الحديثة، وتسلل هذا الإبداع إلى مطاوي التقنية ومجاهل الشبكة العنكبوتية في ظل تطور علمي يتزايد إيقاعه يوماً بعد يوم. وسعى الباحث(مضطفى شميعة) من خلال دراسته "مفاهيم التلقي بين الظاهراتية والتأويل" قراءة في الجذور إلى إلقاء بعض الضوء على الجذور الفلسفية لمفاهيم التلقي والتأويل والتي اعتبرت إلى حد كبير الأجهزة الرئيسية في عملية تلقي النصوص، والتي ترددت في حقل التأويل إلى حد أضحى التلقي والتأويل وجهان لعملة واحدة هو الفهمً مركزا عبى فلسفتي الظاهراتية والتأويل من حيث اشتغال الأولى بمسألة الإدراك، حدوده وآلياته ومنطلقه ومجاله، واشتغال الثانية بالفهم وأنشطة القارئ لبلوغه، بعيدا عن ترهات القراءات المختلفة والمغرضة. بينما نزعت دراسة (عبد الرحمن التمارة) إلى التفكير في الخطوات المنهجية لتأويل النص الروائي.
وهي حسب الباحث خطوات تمرُّ نظريا عبر مرحلتين هامتين؛ أولهما رصد الطابع النوعي والمميز للنص الروائي على مستوى بناء مرجعيته النصية وتشييدها، باعتبار ذلك مدخلا هاما لاستدعاء فعل التأويل أثناء التفاعل مع النص الروائي. وثانيتهما تحديد مفهوم «الانفتاح» الذي يمكن أن يتَّسم به تأويل النص الروائي. ويعد مفهوما «البناء» و«التوسيع» من أهم الأهداف التي يتوخي مؤول النص الروائي تحقيقها؛ حيث يغدو التأويل فعلا معرفيا يمكِّن من بناء مدلولات وعوالم محتملة، فتكون متولِّدة من علاقة الغائب والمحذوف والمسكوت عنه بالحاضر والمثبت والمصرَّح به في النص الروائي. وبنفس فلسفي للقراءة والتأويل والتركيز على البعد المعرفي للتناص؛ يوضح (عباس أمير) في دراسته "إضبارة النصّ، وهيرمنيوطيقا الوعي بين تناصّات النصّ وتناصّات القراءة" أن الوعي هو قدرة الذات على الإحالة إلى الأخر ومن شروطه تمكن الذات من تحليل موضوع تلك الإحالة، إنه قدرة الذات على إدراك وامتلاك وتمثل هويتها ضمن الآخر ويترتب عن هذا كون التناص حلقة وجزء في بعد من أبعاده لصيق بالوعي ودليل عليه ومن هنا فالوعي ظاهرة معرفية بعد أن كان ظاهرة وجودية ليصير ظاهرة نصية. لذلك فتجربة القراءة كما يكشف الباحث ليست تجربة محض سيكولوجية، وإنما هي إعلان القارئ عن قبول شروط النص والموافقة على الانتقال عبر وجهات النظر المختلفة والمستويات الدلالية المتعددة التي تمنحها أجزاء النص وتدفع بمدركها نحو السعي إلى إعادة تنسيقها والتناص معها من جديد، فالنص هو الذي يتحكم في كل سيرورات القراءة، وكل التداخلات والتفاعلات الممكنة مهما كانت تجربة القارئ المسبقة. ولما كان النص يفرض شروطه بما في ذلك شرط التناص، فإن فاعلية القراءة تتجاوز عتبة الذات الأحادية البعد، الذات المنتفخة أو الذات الذليلة، إلى فضاءات الذات التي تأبى الاستسلام للنمطية الأحادية لما لها من قدرة على الانفتاح على الآخر .
وفي الأخير حاول (محمد بوعزة) إبراز أن إشكالية التأويل كقراءة هي إشكالية منبثقة من معضلة التناهي: هل يوجد تأويل نهائي للنص أم تأويلات لا متناهية؟ وهل يفترض النص وضع حدود يقف عندها التأويل أم أن التأويل نشاط لعبي مرتبط بحرية القارئ في تفكيك علامات النص؟ هذه الإشكالية تتضاعف عندما يتعلق الأمر بالنص الروائي الموسوم بامتياز في مختلف النظريات المعاصرة بالطبيعة الجدلية التي تميز بنيته، حيث تتمظهر في صيرورة مفتوحة على تعدد الأنساق والمرجعيات، يتعذر معها اختزال النص الروائي في نسق مغلق. هذا التعدد الدينامي يطرح إشكالية صياغة نموذج كلي قادر على استيعابه.
ولذلك سوف نرى تعدد واختلاف النماذج النظرية التي حاولت صياغة نمذجات وخطاطات للمتخيل الروائي. وهذا ما يجعل السؤال إشكاليا بصدد البحث في دلالة النص الروائي: أين تكمن الشفرة الخاصة بالدلالة في النص الروائي؟ في أي مستوى من مستوياته؟ و بالنظر إلى تعدد النص الروائي وانفتاحه، هل كل تأويل له سيكون اختزالا لهذا التعدد، أم سيكون مغامرة لفتح دلالة النص على لذة الاحتمالات اللانهائية؟
بناء على ماسبق، نورد أن الحقيقة التي يطمح إليه التأويل تنتمي إلى عالم إنساني. في هذه الحقيقة يتم التعبير عن الوجود وإظهاره في لحظة تاريخية ما. والدين والأساطير والفن واللغة والتقاليد بصفة عامة هي إظهار للحقيقة التي تعبر عن موقف أو لحظة تاريخية معينة. ولأن الحقيقة التي يظهرها النص أو الواقعة، لا تشتمل على معنى مطلق الموضوعية، فإنها بالتالي (أي الحقيقة) لا يمكن فهمها من خلال مقولات وقوالب مجردة يريد المؤول استعمالها وفرضها على النص، فهي تمتلك معنى يتجلى فقط عندما يدخل المؤول في حوار أصيل مع النداء الذي يتردد صداه في النص. فما سيقوله هذا النص سيعتمد بدوره على نوعية الأسئلة التي نستطيع أن نطرحها عليه، انطلاقا من موقعنا التاريخي المتميز، كما سيعتمد أيضا على قدرتنا على إعادة صياغة السؤال الذي يشكل النص أو الواقعة جوابا عنه.
ذلك أن النص هو أيضا حوار مع تاريخه الخاص. على هذا النحو يتحقق الفهم، وكل فهم هو فعل إنتاجي؛ إنه دوما فهم بشكل مغاير وتجسيد لإمكانات جديدة في النص. فلا يمكن إدراك حاضر النص إلاّ انطلاقا من الماضي بوصفه امتدادا حيّا له، كما لا يمكن إدراك هذا الأخير إلاّ انطلاقا من موقعنا الجزئي في الحاضر. ويتحقق فعل الفهم انطلاقا من دمج الآفاق؛ أفق القارئ الخاص المحمّل بالفرضيات المسبقة، وأفق النص. آنذاك لا نلج العالم الغريب للنص فحسب، بل نضمّه إلى مجالنا الخاص. ففهم النص هو في العمق فهم لذواتنا. والفهم الحقيقي، هو الذي لا يستند إلى ما هو معطى وصريح في النص، بل هو الذي يستحضر ويستدعي كل المعارف القبلية التي لها القدرة على إدراج النص ضمن مسيرات ليست بادية من خلال التجلّي الخطي والمباشر للنص. والفهم ، هو دائما الفهم في علاقة ما.
إن اللغة، هي الوسط الذي يضعنا في علاقة؛ أي إنها سيرورة التوسّط الإلزامي التي يتحقق بموجبها التفاهم، وهي من هذه الزاوية شرط رئيسي للحوار الهرمينوسي، إنها تشيّد وسطا مشتركا وتنقل التراث وتدمج الآفاق وتُقحم المتحاورين (النص والمؤول) في نشاط إنتاجي من السؤال والجواب وتجبرهم على إيجاد لغة مرجعية متفق عليها، كما أنها تدخلهم في سيروة الفهم (أو تحثهم على إيجاد طرق متنوعة يتم بواسطتها تحقيق الفهم) وتجسّد فعل الفهم ومهارة التأويل. والتأويل أيضا، مثله مثل المحادثة، حلقة من حلقات سلسلة الجدل القائم بين الظاهر والمستتر، والسؤال والجواب. والسؤال والجواب ليسا فقط استنطاقا أو مساءلة للنص تتوخى حلاّ أو حلولا معينة، ولكنهما في العمق نقد وحوار، وكل حقيقة إنسانية تتأسس على هذا الحوار. بحيث يتحول التأويل إلى علاقة أصيلة بالحياة وخاصية تاريخية هي قيد التحقق الفعلي بطريقة ظاهراتية؛ أي إن هذه العلاقة تتحقق بمقدار ما توفّق في الإبانة عن معانيها ودلالاتها اللغوية أثناء عملية تأويل النصوص. هذه النصوص، لا تعدّ محض قطعة من الماضي بل تظل تتمتع بالمعنى إنتاجا وتداولا كلما تمّت قراءتها.
ويتم تجاوز المسافة التاريخية بين الماضي والحاضر عبر العلاقة التي يقيمها المؤول مع هذه النصوص بتوسط اللغة. ولذلك تعدّ اللغة عملا وعنصرا أساسيا في اتصال التراث وربط الماضي بالحاضر. إن التراث أو التقاليد المكتوبة ليست قطعة جامدة من الماضي، إنها على العكس من ذلك، فهي تشكل امتدادا في الحاضر وتطلّعا نحو المستقبل؛ إنها في عرف غادامير ليست موضوعات قارة تتميز بسكونية بحتة، لا رابط بينها، وإنما هي لغة حية تشعّ بالرموز والمعاني وتختزن كمّا دلاليا هائلا يجسد استمرار ذاكرة الماضي في الحاضر بحيث تصبح جزءا لا يتجزأ من عالمنا الخاص.
إن الإنسان هو المسؤول عن إنتاج هذه اللغة، وبالتالي فما هو إلاّ حلقة واحدة ضمن سلسلة أشمل هي الإنسانية، من هذه الزاوية يصبح التأويل في أبعاده اللغوية تعبيرا حقيقيا عن الإنسانية في امتداداتها التاريخية والوجودية، «في ظل هذه الظروف، تصبح اللغة الوسط الحقيقي لكينونة الإنسان شريطة أن ننظر إليها فقط في المجال الذي تكون هي وحدها القادرة على ملئه – مجال العلاقات الإنسانية ومجال التوافق والتفاهم الذي ينمو باستمرار – وهو مجال ضروري للحياة الإنسانية مثلما هو حال الهواء الذي نستنشقه. إن الإنسان هو فعلا، كما قال أرسطو الكائن الذي يمتلك اللغة. ولهذا يجب أن نكون قادرين على أن نقول لأنفسنا كل ما هو إنساني» . فالتأويل، من هذه الزاوية إذن، لا يعمل على استعادة الماضي ولا يعمل أيضا على تعويضه وهو حين يقيم علاقة بالماضي فلأنه يعمل على تفهّم سياق الدلالات، لا ليبحث في الماضي عن أصل ثابت ومطلق، وإنما ليُعرّي ويفكّك سنن ما يزعم لنفسه هذه الصفة وإظهاره كأفق تاريخي محدود وخاص. بل إن الماضي التاريخي، لا يستحق ما نمنحه من أهمية إذا لم يكن له أن يعلمنا شيئا ليس بإمكاننا العثور عليه في أعماقنا.
إن التأويل فتحة تاريخية، بواسطته تحدِّد كل ثقافة إمكان ولوجها العالم. وبما أنه لا يلتفت إلى هذا الآتي من الماضي وحسب، فإنه يصغي إلى هذه القارات اللسانية التي تعاصرنا مع أنها تبدو لنا متباعدة وغريبة في الآن نفسه