إلى حدود القرن الخامس عشر كانت كلّ المجتمعات في العالم تعيش من الزراعة وتخضع للتعاليم الدّينيّة خضوعا مطلقا، سواء تعلق الأمر بالدّيانات السّماويّة في الحوض المتوسط، أو بمختلف أشكال الاعتقاد الدّيني في مناطق أخرى من المعمور. وانطلاقا من القرن السّادس عشر، الذي يوافق عصر النّهضة في أوربا، بدأت تحصل عمليّة تفاوت واضحة، من الناحيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة، بين مجتمع أوربي متحول، فتح باب العصر الحديث على مصراعيه، ومجتمعات باقي العالم التي ظلت بنيتها الماديّة والفكريّة ثابتة، عاجزة عن الخروج من نفق القرون الوسطى. وقد تمثلت التحولات الأوربيّة في مطلع الأزمنة الحديثة فيما يلي: تحول من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد ميركانتيلي. تحول من مجتمع إقطاعي إلى مجتمع بورجوازي. تحول من التسليم بالموروث والخضوع للجماعة إلى الحس النقدي ونزعة الفرد. تحول من تفكير ديني، كنسي، إلى تفكير فلسفي، عقلاني. في هذا المسار كانت أوربا تدخل في الحداثة بمفاهيمها الرئيسيّة: إعمال العقل “النّهضة، ثم التنوير”، وإصلاح الدّين “البروتستانتيّة”، وفصل الدّين عن الدّولة “فلسفة سبينوزا”. هذه المفاهيم حملتها طبقة البورجوازيّة التي لم يقتصر دورها على التجارة ومراكمة الرساميل، بل ساهمت على نحو قوي في إنجاب نخبة من المفكرين الذين نظَّروا لمفاهيم مركزيّة في الحياة السّياسيّة والفكريّة، أثرت على الواقع الاجتماعي وغيرته. لقد استطاعت البورجوازيّة، على مدى التاريخ الحديث، هدم المؤسسات الدّينيّة والسّياسيّة الموروثة عن الماضي، وبناء دولة مدنيّة تقوم على أساس العقل والحريّة والقانون. لقد مرّ الأوربيون بمرحلتين كبيرتين في عمليّة البناء الفكري والسّياسي للدّولة. المرحلة الأولى: مواجهة الكنيسة. المرحلة الثانيّة: مواجهة السّلطة. وفي واقع الأمر إنّ إسقاط القداسة عن السّلطة الدّينيّة سهّل عمليّة إسقاط القداسة عن السّلطة السّياسيّة، إذ بدأت هذه الأخيرة تأخذ طابعا دنيويا، مما ساعد على الفصل بين الدّين والدّولة. ثم إن البروتستانتيّة، وما أفرزته من أفكار مختلفة عما كان سائدا في الأوساط الدّينيّة التقليديّة، فتحت للناس طريق تعدد الأفكار والآراء. واكتملت هذه الحلقة من التحول في بناء الدّولة مع الأفكار التي أنجبها الفيلسوف والسّياسي الإنجليزي جون لوك الذي استطاع تجاوزَ نظريّة توماس هوبز في الحكم المطلق التي بَرَّرَت من الناحيّة الفلسفيّة سياسة المونارشيات الإلهيّة بأوربا، وبلورةَ نظريّة الليبراليّة في كتابه الشّهير “الحكم المدني”، التي شكلّت وعاءً سياسيا للثورة المجيدة بإنجلترا عام 1689، وللثورات البورجوازيّة التي اندلعت في أرجاء أوربا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحررت الأوربيين من الاستبداد، وذلك في أجواء الحركة العقلانيّة المعروفة باسم التنوير. هكذا حصل تحول سياسي هائل من سيادة الدّولة إلى سيادة الأمة بواسطة سلطة التشريع التي امتلكها النواب البرلمانيون، في إطار فصل السّلط، أو “توزيع السّلط” وفق التسميّة المتداولة في ذلك الوقت، وتحول الأوربيون من رعايا إلى مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات في إطار المساواة المدنيّة، وامتثال للقانون، وتكافئ للفرص. أما الكنيسة فقد أُجبرت على التكيف مع مستلزمات العصر الحديث، لأن أدوات الحداثة كاسحةٌ وملزمةٌ، إذ تقلصت سلطاتها وتحولت إلى أثر من آثار التاريخ الثقافي والفني. أما في العالم العربي الإسلامي، فإن البنيات الماديّة والفكريّة لم تشهد تغيرا يذكر، إذ ظل النظام العام يسير وفق بنية اجتماعيّة تقليديّة، وممارسةٍ عموديّة للسلطة، ونسقٍ فكري يؤطره الدّين تأطيرا شاملا، طيلة القرون الوسطى إلى غاية الرجة التي أحدثها الاستعمار الأوربي، والتي خلخلت هذه البنيات خلخلةً غير مسبوقة. لقد تمحورت نظريّة السّياسة وممارستها على أرض الواقع، لدى العرب والمسلمين، حول مفهوم الخلافة وقاعدتها الأساسيّة: طاعة أولي الأمر. وتمثل الأفكار التي أنتجها في القرن الحادي عشر للميلاد قاضي بغداد، أبو الحسن الماوردي صاحب “الأحكام السّلطانيّة والولايات الدّينيّة”، الإطار النظري الأبرز لهذا الأمر. فقد تكلّم عن القواعد الأساسيّة التي تقوم عليها الدّولة. وهذه القواعد، المتمثلة في عقد الإمامة ووجوبها، التي اجترها عدد كبير من الفقهاء، حافظت، بالقياس إلى الرّكود الاجتماعي والفكري لقرون طويلة، على نسق سياسي يُخضِع الجميع لسلطة واحدة، بالاستناد إلى الدّين، وذلك حتى “يصدر التّدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة عن رأي متبوع”، وفق ما جاء في كتابه. لقد عجز المجتمع العربي الإسلامي، عبر تاريخه، عن خلق ديناميّة اجتماعيّة حاملة للتغيير الفكري، إذ لم تفلح الإشراقات الفكريّة التي مثلها ابن رشد وفلاسفة آخرون، من الوقوف في وجه ثقافة النقل والتقليد التي اتبعها الفقهاء والأمراء ودافعوا عنها بشراسة. فاستمر الاستبداد، الذي نظّر له أبو الحسن الماوردي، بوجهيه، الدّيني والسّياسي، درءً للفتنة، عملا بسياسةٍ أطّرت حياة النّاس زمنا طويلا، وهي تقديمُ حاكمٍ جائر على فتنةٍ ينعدم فيها الزاجر. وبعد الرجة الاستعماريّة، مع كلّ المتغيرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والثقافيّة التي ترتبت عنها على مختلف الأصعدة، دخل المجتمع في نسقٍ مركب، مشيد بطريقة معقدة، تتداخل فيه مظاهر كثيرة، متناقضة، تسير في اتجاهات متباينة. فأصبحت الدّولة لا هي بالدّينيّة المحضة، ولا هي بالمدنيّة الصرفة. لقد لعبت الأنظمة العربيّة، في مرحلة التحرر من الاستعمار والحصول على الاستقلال، على تشويش الصورة السّياسيّة والثقافيّة، والرهان على الضبابيّة في تدبير شؤون السّياسة والدّين، وتأمين البقاء باللعب على المتناقضات والعمل على ضرب تيار بتيار آخر، وتخويف التيارات من بعضها البعض. وقد وجدت هذه الأنظمة مصلحةً في ذلك اتقاءً لما قد يترتب عن هذا التيار أو ذاك من تهديد قد يعصف بها، أي نظام الدّولة الدّينيّة على طريقة “الخلافة”، أو نظام الدّولة المدنيّة على طريقة “الدّيمقراطيّة”. اليوم، بالقياس إلى ظرفيّة “الربيع العربي” حسب التسميّة المتداولة في الأدبيات الإعلاميّة والسّياسيّة، يحتل هذا النقاش حول طبيعة الدّولة واجهة المشهد السّياسي والفكري. تجري الأمور وفق تجاذب معلن بين تيارين بارزين، أكثر من أي وقت مضى، وهما، من جهة التيار الإسلامي الذي يرى في الدّولة الدّينيّة الإطار الطبيعي للحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة بالاستناد إلى “الشّرعيّة الماضويّة”، والموروث الدّيني والثقافي لـِ “السّلف الصالح”، ومن جهة ثانيّة التيار العلماني الذي يعتبر الدّولة المدنيّة الوعاء الأنسب لحياة النّاس، بالارتكاز على “الشّرعيّة الكونيّة”، وقيم الحداثة. من الناحيّة المنطقيّة، سواء كان المرء متدينا أو غير متدين، وعيا بما يجري من تحولات عبر العالم في الزمن الراهن، تبقى الدّولة المدنيّة هي الإطار السّياسي والاجتماعي المناسب للجميع، لأن طريقة اشتغالها من الناحيّة القانونيّة تمكن من احتضان الجميع وضمان الحريّة للجميع. فهي تتسع لجميع الدّيانات والمعتقدات والأعراق، وتؤَمِّن الحريّة بكلّ تلاوينها لجميع النّاس، من حريّة المعتقد إلى حريّة المبادرة، مرورا بحريّة الرأي سياسيا كان أم دينيا. وهذه الحريّة، التي تعد الحجر الأساس في الدّولة المدينة، كما هو مبيَّن في فكر جون لوك، يضمنها القانون. ثم إن الدّولة المدنيّة، أو ما يسمى بالعلمانيّة، كما هو رائج اليوم في النقاش العمومي، لا تعني إنكار الدّين أو رفضه، بل تعني ضمان ممارسة الدّين، أو عدم ممارسته، دون إكراه، دون استفزاز، دون وصايّة لشخص على شخص آخر. لكن تحقيق الدّولة المدنيّة على أرض الواقع في المنطقة العربيّة صعب للغايّة، لسببين مترابطين: السّبب الأول سياسي، كون أن لعبة الدّيمقراطيّة التي تقضي بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، تتجه بحكم واقع المجتمع ومستواه الفكري إلى منح الأغلبيّة للذين يمثلون عامة النّاس. والحال أن هؤلاء يغلب عليهم التقليد والتدين وينساقون وراء الخطابات الانفعاليّة. السّبب الثاني بيداغوجي، كون أن المدرسة لا تنجب مواطنين يفكرون بطريقة فيها إعمالٌ للعقل وحسٌ بالاختلاف وتشبعٌ بالحريّة. هذا التجاذب الحاصل في الوقت الراهن بين التيارين سيحسم لا محالة مع مرور الزمن، على المدى القريب أو المتوسط، إما لصالح الأصوليين، أو لصالح الحداثيين، بحسب ديناميّة كلّ طرف وقدرته على استعمال وسائل الإعلام، المرئيّة والإلكترونيّة، في إقناع النّاس والدّفع بهم إلى تبني موقف في هذا الاتجاه أو ذاك. ومهما يكن من أمر، يلمس المتتبع لهذه القضايا عودة قويّة للدين في صفوف شرائح اجتماعيّة مختلفة، لأسباب متعددة لا يتسع المقام لذكرها، لكن طبيعة التربيّة والتكوين، ورد فعل النّاس إزاء كبرياء الغرب وجبروته المقنع، تبقى من بين المحددات الأساسيّة في هذا الشّأن. أما على المستوى البعيد، فستُحدث حالة التدين هذه، “حالة نقيضة” وفق المنطق الهيجلي، وستتفكك أقفال المنظومة الدّينيّة بحكم منطق الأشياء. فالأجيال تتجدد، وحتما ستشكك في تشبث آبائها وأجدادها بتفكير لا يستجيب لمسار الحداثة الكوني، لتُحدث نظاما يتسع للتعدد الفكري والسّياسي، يتكيف داخله الدّين مع إكراهات العصر الحديث، سواء تعلق الأمر بمغرب العالم العربي الإسلامي أو بمشرقه. الدّولة المدنيّة هي الأفق، طال الزمن أم قصُر، لأن منطق التاريخ يستلزم ذلك. أما إذا استمرت الأمور، في المدى البعيد، على النحو الذي نعيشه اليوم، فمعنى ذلك أننا سنظل على هامش التاريخ، إلى الأبد.