“نقول مثلاً إنهم لا يعرفون الحشمة وهم يردون أننا لا نعرف الحبّ” [1] .
لم تتأسس الحداثة من فراغ، بل إن كبرى قيمها مولدة من التراث المسيحي، سواء كان هذا التراث ينتمي للعهد القديم، أي اليهودية، أو للعهد الجديد الذي أتى به المسيح. فالمـادّة الأولى التي اشتغلت عليها الحداثة وطوّرتها في المحـبّة وفي العدالة هي مادة دينيـّة.
ونحن حين تقول إنّ الحبّ مفهوم حداثيّ لا نغفل التراث الذي أدّى إلى هذا التصوّر، فلو عدنا إلى أصل المحبة لوجدناها متضَمَّنة في التراث المسيحي، ولكنها، بطبيعة الحال، لم تكن بالشكل الذي تحوّلت إليه مع الحداثة التي هي إبداع وتجديد لما هو قديم.
قبـل قرن ونصف أعلن نيتشه في صرخته العدميّة عن موت الإله، لكن نيتشه كان مخطـئاً في نظر سايمن ماي Simon May ، لأنّ هناك إلها جديدا تشكّل في بدايات الحـداثة، وهذا الإله الجديد هو الحبّ الإنساني. وبكلّ تأكيد فإنّ هذا الحبّ الإنسانيّ هو نتيجة طبيعيّة لانتشار النّزعة الإنسانيّة Humanism التي اهتمت بالإنسان كفرد ذي قيمة مطلـقة. فأصبح الإنسان مع انتشار النزعة الإنسانيّة حرّاً ومبدعاً وواعياً ومسؤولاً[2]. أي أصبح متحلياً بكلّ قيم الحداثة.
في مؤلَّفه “أوراق” يتحدث عبد الله العروي عن تجربته في أوروبّا. لقد اكتشف هناك أنّ الحياة العموميّة مبنيّة كلها على العلاقات الغراميّة. اكتشف أيضاً أنّ المرأة تحرّرت لأنّ الحبّ أصبح عند الأوروبيين هدفاً للحياة. إنهم، أي الغربيون، جميعاً يركضون وراء هدف الحبّ المتبادل. يجاهدون ليحافظوا عليه إن امتلكوه وليعثروا عليه إن افتقدوه. كما أنّ كلّ شيء حول الإنسان الأوربي يخاطبه بلغة الحبّ من المدرسة إلى الكنيسة إلى السينما..إلخ.
لقد أصبحت أوروبا الحديثة تؤمن بدين الحبّ، وحين تسألها: ودين المسيح؟ تردّ، وفقاً للعروي، المسيح هو الحبّ. يقول عبد الله العروي في هذا الصدد : “ـ يقولون ويعيدون المسيح هو الحبّ، أيُّ حقٍّ لك، أنت الدخيل عليهم، أن تردّ : ليس هذا ما جاءت به الصحائف المقدسة، يجيبون : ما يدريك؟ ماذا تعرف عن تطوّر معتقدنا؟ ادخل إلى أيّ كنيسة صباح يوم الأحد وستسمع الخطيب يقرّر أن المسيح هو الحبّ. افهم الكلمة أنت كما تريد ولكن الملاحظ هو أنّ المسيحيّة سلوك وسلوك المسيحيين يدور كله حول علاقة الحبّ المتبادل” [3].
غير أنّ طه عبد الرحمن في كتابه النّقدي للحداثة الغربيّة “سؤال الأخلاق” يعقّب على فكرة هذه المحبّة عند المسيحيين، فيقول إنّ أخلاقيي الغرب وقعوا، بسبب عقيدتهم المسيحيّة، في خطأ كبير بصدد معنى المحبّة. ذلك أنهم وقعوا في الخلط بين المحبّة الجسديّة والمحبّة الروحيّة، فقاموا بإلباس الحبّ الجسديّ أوصافاً غير ماديّة كالإخلاص والعبادة والخلود والقداسة، حتّى أنّهم جعلوا هذا الحبّ هو مبدأ الروحانيّة في الإنسان رغم أنه حبّ جسدي [4].
ويهمّنا هنا من إدراج رأي الأستاذ طه عبد الرحمن، أن نؤكّد، كختام، على فكرة أنّ المحبة والحبّ أصبحا عقيدة حداثيّة، وجوهر الروحانيّة التي تنشأ مما هو محسوس وملموس، لا ممّا هو خيال وموهوم كما هو الحال عليه مع العذريين ومع غيرهم من الرومانسيين والمثاليين.
هوامش :
1 ـ عبد الله العروي ، أوراق ، المركز الثقافي العربي ، ط 6 ، ص : 89
2 ـ عـبد الرزّاق الدواي، موت الإنسان في الخطـاب الفلسفي المعاصر، دار الطليعة، ط :2 ، ص : 190
3 ـ العروي، نفسه، ص ص : 87 ، 88