كثيرة هي القصص التي حيكت حول الرجل الذي ظهر فجأة على متن الباصات وفي مختلف الخطوط التي تمزق المدينة إربا إربا، وهو يحمل آلة تسجيل كلاسيكية، ذات العلامة المميزة التي تعني الكثير لأجيال القرن الماضي، يشنف من خلالها سمع الركاب بأغاني مجموعة ناس الغيوان :
ما همني غير الرجال إلضعو.. ضاعوا
لحيوط إلرابو كلها يبني دارو...
في البداية لم يثر حضور الرجل أدنى اهتمام خاصة وأنه لا يقصد من فعله هذا لا بيع أشرطة المجموعة الغنائية ولا جعلها مطية للتسول أو شيئا من هذا القبيل. فقد رفض باحترام أخلاقي مرفوق بابتسامة الشكر والتقدير مبادرة بعض الركاب الذين مدوه ببعض المساهمات المالية المجهولة القيمة لأنهم فعلوا ذلك بنوع من الستر لما في اليد من نقود. صحيح بأن مشاعرهم نحو تصرفه كانت متفاوتة بين الهزء والازدراء المعبر عن السخرية المحمولة على قوارب كراهية نفسية تهتز بفعل أمواج تقاسيم الوجوه الغاضبة والهائجة تحت ضغط عدوانية تغلي في مرجل عمق بحار الذات، وبين الحنين إلى ماض ترسبت فوقه عفونة وسخ وقاحة الصيرورة التي لا ترحم جهل المتخلف لحقائق تغير وتبدل الزمن.
قال بعضهم حسب ظنهم في التخمين والتذكر، وأضافوا بنوع من المكر والتحفظ الحذر أن الذاكرة في مثل هذه المواقف لا يعول عليها في الصدق الحاسم لأن الاسترجاع كما يقول أهل الاختصاص في الحكي والقص أساسه الخيال والتخييل: إن الرجل الخمسيني ظهر لأول مرة على طوبيس 66 وقد استغرب أغلب الركاب تصرف الرجل وهو يشغل آلة التسجيل التي فجرت في فضاء الحافلة ماضي خيالات لولبية لتجربة الحلم والغبار، للمد الثوري ليس في العالم العربي والإسلامي وحده بل في العالم كله، يلفها الصمت الهادئ الذي أنهى فجأة حياة صداع الثرثرة التي كانت عنيفة وطاغية بين جل الركاب.
في الحقيقة كما قال أحد شهود عيان طوبيس 66: كان من الصعب الحسم في شأن وحدة الصمت المشحون بأسئلة الحيرة والارتباك الذي شمل أغلب الركاب هكذا بغثة وفي لحظة لم يجر بشأنها أي اتفاق فيما بينهم. وفي موقف ناذر بدا الجميع في حالة ذهول وكأنهم يسمعون أو يتساءلون ليس فقط بأذانهم بل أيضا وبتركيز حاد ومؤلم بعيونهم. فهل ذلك كان بسبب السلوك الغريب والمفاجئ للرجل أم أن الأمر بكل بساطة يرجع إلى ارتطام أعماق الناس، المثقلة بأعباء الهم والكدر والجري اللاهث، بسحر وروعة جمال أغاني ناس الغيوان؟
كما أن هناك العشرات من الأصوات الأخرى التي أقسمت بيمينها وخبزها وملحها وبأسماء أوليائها ذات الأضرحة المقدسة بما يتجاوز عظمة وإجلال منابر وعتبات مساجد الصلاة المفروضة بحكم العادة على أن الرجل الذي هو في عقده السادس أو يتجاوز ذلك بقليل قد تعود الناس على رؤيته بمحطة الطوبيسات إذ أكد أحدهم وهو واثق مما يقول على أن الرجل لم يكن يغادر الطوبيس رقم 52 ذهابا و إيابا. إلا أن الآخرين من ضمن تلك الأصوات المجهولة الهوية قالوا بكل ثقة في النفس وصدق في القول إن الرجل هو من قاطني المدينة القديمة، ويعاني المسكين من مرض عقلي نفسي ألزمه حمل آلة التسجيل، وهو يواظب دون ملل أو كلل على الاستماع لمجموعة ناس الغيوان. عيبه الوحيد في نظر هؤلاء أنه يرفع صوت الآلة إلى حده الأقصى، فيزعج كل المحيطين به متجاهلا راحتهم ورغبتهم ومدى استعدادهم النفسي والوجداني والعقلي للاستماع لهذه الأغاني الكلاسيكية كما يسمونها. وإذا كان الكبار يتسامحون معه كما يقولون ضدا على أغاني المسخرة والنذالة للتقليد الغربي المنتشرة اليوم بأسلوب دعارة عرض سلع ممتلكات الجسد البشري، فإن الشباب غالبا ما يتخذونه موضوعا للترويح عن النفس وللفكاهة الساخرة حين يقللون من قيمة أغاني المجموعة، الشيء الذي يدفع الرجل إلى نسج خطاب الحجاج الإقناعي بسمو القيم الفنية الثقافية الإبداعية للأغنية الغيوانية النابعة حسب تعبيره من عمق ما يشكل حياة المجتمعات المغاربية والشرقية.
لم تكن قصة هذا الرجل في مستوى الحدث الغريب أو المدهش أو المثير للاهتمام لو لا تلك القصص التي اتخذته متنا لمبنى إطلاق العنان لخيالها العفوي والمقصود. فقد صار واقعة رسمية مسيطرة في الخطاب اليومي المتداول بين الشباب والرجال والنساء في الأماكن العامة والخاصة وبذلك أخذت قصته حيزا كبيرا مما أهلها لتحتل المكانة الأولى في التواصل اليومي حيث تراجعت أخبار الرياضة إلى المواقع الخلفية على مستوى سلم الانشغال والاهتمام وقتل فيض وقت الفراغ المتدفق الذي يرهق خواطر الناس بسطوة امتداد طغيانه الملعون. لقد تنافس كل هؤلاء في زعمهم أنهم يمتلكون المعطيات الصحيحة التي لا يمكن لعاقل الشك فيها. وجميعهم يقدمون الأدلة الدامغة والبراهين المقنعة التي تثبت حضورهم بالطوبيس نفسه الذي امتطاه الرجل الغيواني كما صار يسمى عند البعض في حين يعرف بين الآخرين باسم المجذوب الغيواني. فمنهم من قال إنه دخل في نقاش أخوي مع الرجل الغيواني فتبين له وللحاضرين من خلال الحوار والمناقشة أن الرجل يعرف ما يفعل فهو مثقف مهتم بالفن خاصة تبحره العميق في شعر الزجل ويعرف كل صغيرة وكبيرة حول المجموعات الغنائية مثل جيل جيلالة، المشاهب والغيوان كما أنه يحفظ بأمانة وإتقان كل أغاني المجموعة الأخيرة. وحين سئل عن السر الذي من أجله أخذ على عاتقه تسميع الناس أغاني ناس الغيوان، ولماذا لم يلجأ في ذلك إلى أسلوب الحلقة المعروف في الثقافة الشعبية؟ قدم إجابات غامضة ملتبسة وفيها الكثير من التهرب الأقرب إلى السخرية : لا يمكن أن نسمع ناس الغيوان من خلال الجلوس على الكراسي الوثيرة، أو من خلال الوقوف في الحلقة. الأغنية الغيوانية فيها الكثير من الحضرة والجذبة والنشوة الصوفية اللامكانية لذلك هي تلائم دينامية وحركية الباصات.
يصعب جدا التحكم في قصة هذا الرجل التي صارت في متناول كل أحياء وحارات المدينة، الشيء الذي يجعلنا أمام روايات مختلفة في وقائعها وشكلها، في أمكنتها وفضاءاتها، إذ أن كل حي يدعي مشاهدته الحية للرجل بشكل ملموس بنوع من اللمس بالعين والتخاطب الحواري معه في الباص الذي يربط الحي بمركز المدينة. وقد يكون المجذوب الغيواني بالفعل امتطى كل الباصات التي ذكرت من 1 إلى 88 وما يرجح بالفعل ذلك هو الخبر الذي قيل عن الحوار الذي أجراه معه بعض المهتمين بالشأن الثقافي والسياسي وقد نشرته كما زعمت فئة من الرواة الكثير من المواقع الالكترونية والجرائد الورقية. وكانت اللازمة التي كررها الرجل الغيواني حسب الذين اطلعوا على نص الحوار: هكذا بكل بساطة ودون تحميل موقفي أي تعقيد أقرب إلى الشبهة، فكرت في تكريم مجموعة ناس الغيوان، وفي الوقت نفسه أتساءل لماذا توقف الذين توارثوا المجموعة عند هذا السقف من التكرار القاتل ولم يستطيعوا رؤية الأفق الذي كانت تسير نحوه ناس الغيوان؟ ولماذا عجز شباب اليوم عن إبداع التجربة الغنائية نفسها أو أحسن منها بكثير؟ ما الذي يجعلني أعتقد بعقلي وقلبي وكل جوارحي بعمق وروعة وجمال الحس الفني الثقافي الجمالي الإبداعي للتجربة الغيوانية، وهي نابعة من عمق حياة الشعب وجوديا وثقافيا، ومعبرة عن إنسان مجتمعاتنا في أفراحه وأحزانه، في أحلامه وخيباته، في طموحاته وتطلعاته، في الرغبة في عيش انتصاراته وتجرع مرارة مسلسل هزائمه؟
ظلت الأمور إلى هذا الحد مجرد حكايات تافهة ومملة عند البعض، ومسلية تملأ الكثير من الفراغ عند الآخرين. ولم تكن لتنال كل هذا الاهتمام وتحتل مركز الصدارة لو لم تتحرك السلطة بمختلف أجهزتها القمعية المباشرة والمرنة لتطويق “البدعة الأقرب إلى الفتنة” التي نشرها المجذوب الغيواني أو بتعبير أدق نشرتها القصص الملتفة حول متنه الواقعي في متخيل الحكي والسرد الذي تكفلت به الأصوات المختلفة لأحياء المدينة. لقد تكاثرت بشكل مخيف للسلطة المجموعات الشبابية المقلدة بشكل إبداعي متميز للتجربة الغيوانية، فاكتسحت زوايا الحارات وبعض الساحات العمومية. لم يكن أحد يصدق بأن الحكاية الواقعية أو الخرافية للرجل الغيواني ستلد كل هذا الصخب والزخم من الاهتمام وجنون الرغبة في الإبداع، مما جعل السلطة تائهة وحائرة إلى درجة الارتباك أمام هذا الوضع الجديد الذي فجره الشباب “التافه المنحط القيمة والقيم” كما يصفه الكثير من الناس. ولتطويق الواقع الجديد للأغنية الشبابية النابعة من عمق ثقافة حياة الشعوب والآخذة في التمدد والتعمق والاتساع لجأت السلطة إلى تنظيم الكثير من مهرجانات موازين. وبالموازاة مع ذلك تحركت عملية البحث المحموم للقبض على عاشق الغيوان، أو مجنون ناس الغيوان كما تسميه دون اتفاق مبرم كل المجموعات الشبابية التي عوضت أشرطة آلة التسجيل بالغناء الحي الملموس في الطوبيسات والساحات.