ليس تحليل الراهن من اهتمام المؤرخ، فهو موضوع من اختصاص العلوم الاجتماعية، وإن كان تحليله ذا فائدة لاختصاصاته. فبمجرد ما ينصب تفكيري على زمننا الراهن-علما باستحالة الرجوع إلى الوراء- أجدني أعاين مجتمعا عربيا إسلاميا، يعيش فيه كثير من الأفراد وضعا مأساويا قائم على الرفض التام لأي حوار أو أي احترام للأخر كما هو أو كما يريد أن يكون،. مما يجعل صراعاتنا دوما عنيفة. فأي واحد منا، بإمكانه استخدام الإسلام لنفسه قصد تحقيق مقاصده الخاصة. إنها الصورة الحقيقية للإسلام السياسي، صورة تعاني من ميل إلى التنغيص والقهر ووسواس الشمولية، مما ينجم عنه عملا سريا وإرهابيا.إلا أن حقيقة الإسلام السياسي ليست وليدة الزمن الحاضر، بل هي متجدرة في تاريخنا (هنا تكمن أهمية المؤرخ)، وتنعكس في مخيالنا الاجتماعي،كما تطفو على سطح وعينا الفردي والجماعي. وضمن هذا المستوى الذي أسعى إلى التموقع فيه، أعتقد أن مساعدة المؤرخ قادرة، في أوسع تقدير، على اجتثات الرواسب الراكدة في أعماق ذواتنا، والتي تعيق تأسيس مجتمعاتنا على قيم الحوار والاحترام المتبادل، لكي يصير الخير حقا خيرا.
ففي نهاية المطاف، أجد في قرارة نفسي حزنا وقليلا من الجزع، عندما أطرح قضية أساسية، يستحسن أن تثار من لدن الجميع: لقد عانى المسلمون كثيرا في ماضيهم من ويلات استخدام الإسلام لغايات سياسية، وكانوا خاضعين لبعضهم البعض أو معارضين لآخرين. وكان الدين مستخدما كمطية للاستيلاء على السلطة، أي يمتطونه امتطاء ركوب، تهمز من خلاله همزات اللعنة والتكفير، متخذين في ذلك جميع الأشكال الموصلة إلى حبائلها. فهل قدرنا التاريخي، أن نظل قابعين في هذه الوضعية أبد الآبدين؟ أم سنسير، في النهاية، نحو أخذ الدروس من التاريخ وتكسير شوكة أولئك الذين قادونا إلى الإقصاء المتبادل والتحريض على القتل باسم الثورة والردع؟ فهل من المعقول أن نقرأ اليوم أيضا في صحيفة“المسلمون¹” ذائعة الصيت الصادرة في لندن، بقلم دكتور دعوي :“من الواجب علينا أن نطبق الحدود الشرعية على أهل الردة بغية إغلاق الباب على الشياطين”؛ بمعنى دعوة إلى تطبيق الحدود الشرعية على الملا حدة بحسب معايير و“اجتهادات فقهائهم حول حرية المعتقد”.
هنا يقبع الخطر الذي يضع الحريات الأكثر قداسة في مهب الريح. فهؤلاء الفقهاء، هم أنفسهم من أفتوا اليوم أيضا بضرورة قتل المرتد. ففي هذه الحالة، سترفع الشعارات: “فلتحيوا محاكم التفتيش ولتنصبوا المشانق”؟ فأين هي حقوق الإنسان الأساسية؟ ألا يحق للمهددين في حياتهم أن يستعجلوا وضعيتهم، وبأي وسيلة من الوسائل، لصد جلاديهم من الاستيلاء على السلطة؟ ومن يستطيع حرمانهم من إنقاذ حياتهم قبل أن ينتقل التهديد إلى التنفيذ وقبل أن يطوق حبل المشنقة أعناقهم؟ فعندما يملي التكتيك على بعضهم اتخاد مقاصد توافقية،ألا يعد هذا الاحتراز شكلا من أشكال التقية والانسحاب المؤقت في انتظار صحوة الأيام المواتية، مسترشدين في ذلك بوصايا مشايخهم الذين نظروا لهم، منذ فجر تاريخنا،على استعمال العنف والعمل السري من أجل الاستيلاء على السلطة؟ وعليه، فطالما لم تحدث ثورة فكرية في عقولنا، تسهم في تغيير جذري في طرائق تفكيرنا،سيظل عقلنا دائم الشكوك ومستمر في طرح التساؤلات الشائكة.
ولأنني إنسان مسلم، أتذكر كلام الله: “يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون” ( ;1055 )،“ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”(41 ;34 )
تلكم هي روح وصية النص القرآني: فبالنسبة لأي مسلم، له الحرية في أن يجادل في كل شيء “بالتي هي أحسن” فإن اختلف الناس فيما بينهم في أمر ما، فليردوه إلى الله الذي إليه يرجعون. على ضوء هذه القاعدة، أعتبر أن الأمر بالمعروف هو موقف وسط بين طرفين مفرطين. فمن جهة: فاللامبالاة، وفقدان الثقة، والانطواء على العالم الأناني الضيق؛ أو الإعلان عن الاستقالة أمام مواجهة الرشوة، أو أمام مواجهة الشر،يعد موقفا تفريطيا، مما سيترتب عنه فقدان الخير المشترك وإفلاس المجتمع، وكذا تقويض البنيان المرصوص للأمة. كما يشكل، من جهة أخرى، موقفا مفرطا حماسيا بدعوى ردع الشر، مما قد يحمل في طياته مساسا بحرية الغير، وإنكارا لأحقيته في اختيار الحياة التي توائمه. هذا إلى جانب ما سيؤول عليه الوضع من قمع وتعسف، وفي أقصى الحدود، إلى الإرهاب والعنف. هكذا، فالنبي جعلنا بمنأى عن هذين الموقفين المتطرفين، وذلك من خلال ما تركه لنا من مأثورات وأحاديث نبوية وعبارات دينية حكيمة ك: “الدين النصيحة”، “إنما الأعمال بالنيات”، “إنما الجماعة كجسم واحد”، “المسلم هو من سلمت يداه ولسانه” و“لكل مقام مقال”. هكذا، يبدو أن تطبيق الأمر بالمعروف شهد أشكالا مختلقة وفق سياق الأحوال والأزمان. فلكل جيل أو عصر معاييره، لدرجة أن تحقيق التوازن بينهما، يبقى صعب المنال. فالحياة داخل المجتمع، تتطلب تنازلات منصفة وتسويات دائمة. ففي كل الأحوال، تقتضي القاعدة أن نبحث عن تقارب سلمي قائم على أساس الاحترام المتبادل قصد انبثاق موارد مطمورة في الإنسان، كل الإنسان. فالجميع، بهذا المعنى، يكون إذن مؤسسا لأهل الله.
فعلا، لا يمكن إلا أن أحترم الأشخاص الذين خطوا سيرهم ضمن هذا المسار، أمثال علال الفاسي الذي لم يسبق له أن كان نصيرا للعنف. فأي إنسان يحمل قلما بين أنامله دون أن يتورط في ممارسة الإرهاب الثقافي، يظل، في نظري، شخصا جديرا بالترحيب والتقدير. لأن ما يحمله من تعقل فكري، يسهم في اغناء الفكر الإسلامي إذا كان مسلما، وفي إثراء الفكر الإنساني قاطبة. إن هذه الجهود الثقافية المبذولة أثمرت فوائد جمة، وإن ظلت محصورة لمدة طويلة في إطار البحت الثقافي. لقد منحتنا مادة خصبة للنقاش؛ وسمحت لنا باستنارة أفكارنا وتنمية كل الأمور التي لا يمكن أن تتم إلا في إطار حوار جاد. فكل كتابة تعرض نفسها على مطرقة النقد، تعد في حد ذاتها قيمة إيجابية. لأن المجابهة الثقافية هي بالأساس مسألة جوهرية، لكونها تسمح للمجتمعات في اختبار خياراتها الجماعية الأساسية إذا ما أرادت أن تعيش في رحاب السلام والوحدة وعلى أساس وضعية مشتركة، يولى فيها التضامن ميزة معتبرة داخل الجماعة. فلا يمكن إذن، إلا أن نبارك في الصدد: أعمال علال الفاسي وإنجازات مالك بن نبي² وباقي الأعلام الفكرية الأخرى، طالما أنها تلتزم لغة الحوار، وتنأى عن نفسها أسلوب العنف والإرهاب، وتقدر قداسة الحرية باعتبارها ملكا للناس أجمعين. فاهتمامنا بفكر علال الفاسي، لا يفهم منه تبجيلا لكتابته. ففي ثنايا مؤلفاته ما يقبل وفيه ما يترك. غيرأن فكره بقي، مع ذلك، سجين فكر سلفي محافظ.
المرجع: “تأملات مسلم معاصر” محمد طالبي منشورات لو فينيك الدار البيضاء(بالفرنسية)
الهوامش : - 1 صحيفة“المسلمون” عدد 333).24) رمضان 12/ 04/1991.
2- مفكر جزائري مؤلف “دعوة الإسلام” طبعة سويي باريس 195.