القول أنّ الإسلاموية هي قدر العرب بسبب أن الإسلام هو الماضي والذي من خلاله هم واقعون في شِركه أو مُنعمٌ عليهم بسببه، وفقاً للذائقة، هو لازمةٌ نسمعها كل يوم من قبل العديد من المواقع؛ وكما يبدو من هذا القول بكونه ممل وساذج، فإنه بالرغم من ذلك شائع ومألوف ومتنبأ به على نحو مكرور دون جهد يذكر: بكلمات أخرى، إنه قول يحمل كل السمات للقيام بها به لشعبوية الحجج الكسولة. إنّ مثل هذه الكليشيهات تستمد دعمها من كلا السياسات الثقافية المحافظة والسياسات المجتمعية، مع آفاقهم المحدودة في التوقعات، حيث نجد فيها عدداً كبيراً متواطئاً من الفاعلين.
إنني أقترح أنْ أناقش الإسلاموية القدرية كما رُسمت من قبل عدد من الزملاء متمرسين كثيراً من خلال اهتمامات ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثية، وذلك بهدف التوصل إلى شيء من الوضوح بشأن الاصطلاحات التي تنقاد فيها الدفاعية المسيحية التي أشرت إليها. وهذا ما يسمح لي أيضاً في مواصلة تطوير عدد من النقاشات التي كنت قد أثرتها في كتابي «Islams and Modernities» (إسلامات وحداثات) وفي كتابات أخرى: إنّ من قرأ منكم «التمهيد» الذي كنت قد كتبته إلى الطبعة الثالثة من «Islams and Modernities» (2009) ربما سيلاحظون حجتي بعد عقد من نشر الطبعة الأولى للكتاب أنّ نقاشاته كان لها ما يبررها من خلال التطورات اللاحقة. دعونا نشير إلى أنّ الصيغة الجمعية التي استخدمت في الكتاب «Islams and Modernities» كان المقصود منها على حد سواء بعض السخرية والتي يبدو أنها غفل عنها بعض القراء، وكذلك كان المقصود من الصيغة الجمعية إعادة موضعة وتشجيع التحليل النقدي والتاريخي على نحو دقيق للمواضيع التي تطرق إليها الكتاب. لم يكن المقصد من الصيغة الجمعية للعنوان هو تفكيك أصناف الإسلام والحداثة في صخب متقلب من الاختلاف، أو التثاقل أو على نحو مغاير تعكير استعادة الأصالة. لقد كان المقصود من «Islams and Modernities» هو إعادة التأكيد على الطابع «الإسمي» البحت لصنف «الإسلام» وللمناقشة ضد استخدامه كمفهوم تفسيري أو سببي. ما هو أكثر جلاء ووضوحاً هو أنّ المقصود ليس إلغاء المفاهيم التحليلية العامة، ولكن لإعادة التأكيد على «التاريخ» ضد الادعاءات الثقافوية بشأن الامتثال. سأسعى الآن إلى تعميق هذه التأكيدات من خلال المعالجة المباشرة للانتقادات بما يخص أطروحة العلمنة التي تم التقدم بها، وبصورة رئيسة من خلال خوسيه كازانوفا J. Casanova وتشارلز تايلور C. Taylor وطلال أسد.
لكن وقبل المضي بذلك أحتاج إلى تحديد، وعلى نحو مختصر تقديم توصيف عام للتنقيح السوسيولوجي للقدر؛ وفي وقت لاحق سأحتاج إلى معالجة ما هي العلاقة التي يحملها هذا التنقيح بالحقائق التاريخية والاجتماعية. إنّ هذا التنقيح هو تكشّفٌ عن عقيدة لها اسم محدد وتاريخ عالمي. إنها تدعى بـ «الحيوية Vitalism»: إنها الفكرة التي تقرّ بأنّ المجتمعات تسير مع بعضها من خلال ووفق الميول عبر-التاريخية (مثل التراث أو الروح القومية)، والتي، رغم التغيرات التاريخية، تتقدم دائماً لتشكل شرطاً أولياً ملزماً، شرطاً يفوق التغير التاريخي وتجعله غير فاعل. وتتشكل الحيوية مجازياً على التشابه مع العضوانيات البيولوجية، الكيانات المتجانسة والتي تعيد التوازن للمزاجات والمشاعر التي تدعى عموماً بـ «الجذور»، لكن التي لا تتغير بالطرق الفعالة. هكذا، فإنّ فكرة أنّ المجتمعات العربية، بكونها ولأنها في جوهرها مجتمعات مسلمة، تحتاج حتماً إلى العودة إلى الشرط الأولي البدئي من الطهرانية والنقاء بعد المواجهات والتحديات وفترات التلوث مع القوى الخارجية التي عملت كشروط فيروسية في الجسم السياسي والجسم الاجتماعي، بيد أنها لم تُلوّث ثبات الأصول.
لدينا فكرة عن الثقافة بكونها سجنٌ للغرائز الاجتماعية بدلاً من كونها حقل في التطور الإنساني؛ إنّ هذه الثقافوية هي، في نواح كثيرة، تماثل على نحو دقيق الأفكار السابقة حول العرق، والذي لا يعتبر موضوعاً معتبراً للتحدث به أو صنفاً في التحليل. الحيوية هي الشكل البهيمي الفج للداروينية الاجتماعية التي تتناول تعتبر وتتناول الجماعات الاجتماعية بالتقايس مع الأنواع الحيوانية: لن يلتقي الزوجان أبداً!
وفي تمفصل الحيوية في ردّ فعلها على التنوير والثورة الفرنسية، فقد ارتبطت مع القومية الشعبوية والأهلانية المحلية لاسيما مع التشكيلات القومية الثانوية أو المتأخرة، وغالباً ما ارتبطت بالحركات اليمينية. إنه من المثير ومن الدلالة بمكان الإشارة إلى أنّ الإيقاع أو الرتم الدولي للحيوية قد ارتبط مع الانحناء النزلولي للراديكالية: بعد 1792، و1848، و1871، و1917 (الاشتراكية القومية، والفاشية، والعمل الفرنسي، والقومية الهندية، وجماعة الإخوان المسلمين، وغير ذلك من النظائر) وبالطبع بعد 1989.
كل الحركات الإحيائية تتحدث عن العودة إلى الأصول النقية. كلهم يلجؤون إلى صيغ التنقيحية للقدر، معتبرين إياهم كقوى حتمية للطبيعة التي تجبر المجتمعات إلى الارتكاس إلى الشروط الأولية القائمة أمام السقوط، والذي يدعى الآن بالكولونيالية، وكذلك يلجؤون إلى استدعاء وإثارة التراث بدلاً من التفكّر في مقدرة البشر بغية تحقيق التقدم. كلهم يدعمون الصوت المحلي. وفي الوقت الحالي، يتحدثون عن برنامج ما يدعوه تايلور بسياسات الوعي: قالب جماعي قائم على التسوّر الذاتي self-enclosure للتجمعات البشرية ورعايتهم في الأصول المعبر عنها في التراث، حيث يحمل التراث أخلاقاً وسياسة خاصة. أما الثقافة فتُعتبر بكونها ثابتة وفريدة sui generis، وبالتالي بعيدة عن متناول التحليل السوسيولوجي والتاريخي. وبحالة تعارضها صراحة مع ما يؤخذ في غائية التنوير، فإنّ هذا غائيةٌ تعمل على نحو مفارق وراءً.
وإذا ما تم تناول أطروحة العلمنة على نحو دقيق، فإنه سيتبين أنّ أطروحة العلمنة لا يترتب عليها هذه النتيجة اللازمة: إنّ ما ينطوي عليه، بدلاً من ذلك، هو أن العديد من الأشكال الحديثة للتدين، وخصوصاً الأصولية، هي في حد ذاتها لوازم للعلمنة. إنه فقط مع التمايز الاجتماعي ومع تحديد وترسيم الدين كمجال مستقل للفعل الاجتماعي (لا بكونه منعقدٌ في الحياة) أنّ الخطابات الدينية حول لمجتمع ونظام الحكم والأخلاق الشخصية تنوجد وفق ذاتها وتبدأ بالقيام بدعاويها حول المجتمع ككل، وليسوا مندمجين مع الحياة ومحكمين داخلها. إنه فقط من خلال عملية انفصال وانعزال الدين حيث يمكن تمييز الدين كفاعل اجتماعي مستقل. وأيضاً، إنه فقط من خلال تهمش الدين حيث يمكن أن يعاد تشكيله كمجال مستقل، وينتج ادعاءاته الاجتماعية والسياسية وكذلك البرامج: وهنا إنه من المهم أن نضع بعين الاعتبار أنّ ما يدعوه المرء العقل العلماني Secular Reason، أو ما يفضل طلال أسد دعوته بـ Reason Of The Secular، العقل السوسيولوجي والتاريخي، بكونه هو القادر على تفسير الدين، بينما الدين في حد ذاته لا يمتلك المصادر والعدة المفاهيمية لتفسير العلمنة، باستثناء حينما يستخدم أفكاراً ميثولوجية معتادة.
لا يمتلك الدين في تناول العلمانية إلا مرجعاً للتصنيف الإشاري الظاهري (الظاهري أي: التحديد من خلال التأشير والتمثيل Exemplification، وليس من طريق التعريف)، وبالفعل شيطنة: والآن ارتبطت على نحو لازم بالنقد ما بعد الكولونيالي والظاهرة العلمانية للشعبوية الحيوية. إنّ العقل المادي يستطيع تفسير الدين ويستطيع الانتقال من إزالة الغموض إلى البناء التحليلي؛ بينما الدين لا يستطيع تفسير العلمانية: إنه يصنفها، في معظم الأحيان معاكس لها، بتفسيرها أنها إلحادية وزندقة ولادينية.
وفي ضوء هذا، لا يمكن منطقياً اعتبار العلمنة، بأسلوب بهلواني، بكونها تعني غياب الدين أو تقلّصه؛ إنّ هذا تفكير كسول، مكرور على نحو رتيب وبدون جهد يذكر. وينبني نموذج تايلور في «التقلص Subtraction» (حيث تكون العلمانية في هذا النموذج ما هي إلا مجرد الفضاء الذي يترك وذلك حينما يتم تحرير الحقيقة الدنيوية من الدين، Casanova, ‘The secular,’ 57) ينبني على قواعد مضللة غير صحيحة. أولاً وقبل كل شيء، إنّ «التقلص» هو جانب تابعي إضافي للعلمنة، إنه جانبٌ حينما تُمارس فيه الأنشطة تحت دالّ الدين أو من قبل هيئات دينية يتم السيطرة عليها بواسطة هيئات علمانية- ومثال على هذا هو علمنة الأملاك الكنسية حينما تم الاستيلاء عليها من قبل السلطات العلمانية، على نحو دراماتيكي كبير جداً في عهد هنري الثامن Henry VIII. وربما من المفيد الإشارة إلى أنّ هذه الفكرة عن العلمنة بواسطة التقليص تنتمي إلى العصر الحديث في وقت مبكر. إنّ الأنشطة التي تُمارس قبلاً في السابق من قبل السلطات الدينية، مثل التعليم أو وضع ونشر النظام المعرفي الذي يتناول الطبيعة، هي أنشطة تطورت في ظل الأنظمة العلمانية بدئياً ab initio بواسطة السلطات العلمانية، وذلك في الأصل بالتوازي مع السلطات الدينية، مما تسبب في نهاية المطاف أن مثل هذه الأنشطة الدينية لا تعدو متثبتة في المجتمعات التي لم تكن مهيأة لتقبلهم كأنشطة ظافرة وثابتة، إنها المجتمعات التي قاد فيها التمايز الاجتماعي إلى التمايز في الحقول المعرفية وفق شروط العلم، الذي دُعم من قبل مؤسسات جديدة- في البداية، المؤسسات مثل الجماعة الملكية، ثم لاحقاً أشكال جديدة للجامعات ومؤسسات معرفية أخرى.
والحقيقة هي أنّ مفارقة أطروحة التقلص مستندة على أوالية، متضمنة بناء تحليلياً، من حيث العلاقة بين العلمانية والمسيحية، وهذا ما سوف يعود بنا وراءً إلى الثقافوية والتراثوية، ومجازهم الخطابي المشترك، بشأن عودة الدين إلى الشرط الأولي للنقاء، النقاء المحض غير الملوث بالعلمانية والحدثة، بكون ذلك لحظة الصحوة والوضوح التي تزيل أوهام التغيير- بما في ذلك التعبير عن هذا في التطورات السياسية المصرية و التونسية الأخيرة، وهو الأمر الذي يعيره طارق رمضان تناولاً كبيراً في لا مبالاته وربما في بعض الأحيان الابتذال المنزلق المتعمد.
هناك ضربان لهذه الفرضية التحليلية الأولية التي تم القيام بها تحت مظلة شكل السردية التاريخية: الأول، حيث يمثله كازانوفا وتايلور، أما الثاني الذي يقوده طلال أسد والذي يدعى بالجنيولوجية، مع ادعاء صريح بالارتباط بالأنثروبولوجيا:
بالنسبة للضرب الأول، فإننا أمام مقولة تقول بأنّ العلمانية «تتماثل مع مسار حضاري محدد» (Taylor, 36)، وهي المقولة التي يستطرد تايلور بوصفها على نحو كبير، ويضيف إليها عوامل نفسية-تاريخية لاندماج وعدم اندماج الأفراد في ما يرقى إلى هجوم شامل على الحداثة، وفي غالب الأحيان من دون الإشارة إلى الكاثوليكية الرومانية العامة لهذا الموقف بالذات. إنّ الإشارات إلى الانتقادات للرأسمالية من قبل ماركس، عند الحديث عن فتشية السلع، عن الاغتراب والدين (بطرق أكثر دقة وتعقيداً مما هو معترف به- انظر هنا Toscano) ستغني بشكل كبير هذا الموقف من السخط والاستياء من الحضارة، وتأخذ بها في اتجاه أكثر إيجابية.
ورغم المهارات الفلسفية ذات المستوى الرفيع التي يتوقعها المرء من تايلور، فإنّ مناقشة المسارات الحضارية المنفصلة تبقى زيفاً تاريخياً pseudohistorical، مسترشداً من خلال الخلط بين الديناميات التاريخية مع الإثنولوجيا الجوهرية للغرب القائمة وفق التراث المسيحي، بما في ذلك وجهة النظر بما يخص التقدم والتنوير المتمفصلة بواسطة العداء.
نفس هذا النوع من الخلط (المنتشر على نطاق واسع بواسطة الكنيسة الكاثوليكية) يظهر من خلال خوسيه كازانوفا الذي يدّعي أن العلمانية هي نتاج الحداثة الغربية على وجه التحديد، وهي بناء على ذلك «أساساً وعلى نحو محتم ما بعد- مسيحية» (Casanova, ‘The Secular,’ 63). وسآتي إلى هذه النقطة بعد لحظة. يدّعي كازانوفا كذلك أن العلمانية قامت أولاً كصنف غربي لاهوتي (المرجع نفسه، 61): وهذا ما يُنتج تناسباً وثيقاً مع الخطابين التراثي والحضاري -الثقافي- المفضلين هنا، بيد أنّ معناهما يبقى غير واضح ومؤكد على نحو كبير. إنني لا أعي أنّ العلمانية على أنها تصنيف ثيولوجي مسيحي. كازانوفا نفسه يعلم هذا جيداً. كما أنني لا أعي كذلك أنّ العلمانية هي أمر خاص بالتصنيف المسيحي، بصرف النظر عن استخدامها من قبل المسيحيين. إننا هنا نُترك بهذا مع انجراف أننا بإمكاننا أن نرى بوضوح أكثر حينما نتحدث عن الإسلام، أي، يُقدم الانجراف على أنه الحس السليم، باتجاه المطابقة بين الماضي والمستقبل، وكذلك المطابقة بين الثقافة والحضارة والدين، وبالفعل باتجاه اعتبار الدين بكونه العنصر المحدد والحاسم في كلا هذين. وبكلمات أخرى، انجراف في مسار فكر كسول.
إنه من الواضح للأشخاص النبهاء أنّ العلاقة بين العلمانية والحداثة بحاجة للبدء مع المصطلح الأخير، الحداثة، وليس مع السابق، العلمانية. كما أنه من الواضح أيضاً أنّ فكرة الحداثات المتعددة (الجذابة كما هو الحال بالنسبة لبعض أطر التعددية الثقافية) لا معنى لها: إنه من خلال الأخذ باصطلاح «الحداثة»، فإنه يعطي انطباعاً للتسليم بالكونية الإسمية للظاهرة، إلا أنه وفي نفس الوقت إنه يمنع هذه الكونية عن أي محتوى تاريخي محدد، وبالفعل يستلبها أي أهمية تحليلية. وفي النهاية، ليس هذا حجة من التاريخ، إلا أنها واحدة بشأن مسارات تاريخية غير قابلة للقياس، مدفوعة من خلال الثقافة أو الحضارة، وكل هذه الحجج تضع العربة أمام الحصان. إنّ ذلك حجة في التواريخ التقابلية، لكنها بالطبع الحجة التي تحلق في وجه الواقع التاريخي. إنني أعني هنا بالواقع التاريخي الذي أشير إليه إلى واقع التاريخ الكوني الذي، الممزق كما كان عليه بالتأكيد، ليس هو وهماً: الحداثة و العلمانية هي ديناميات تاريخية موضوعية، متفاوتة بالتأكيد، لكن مع التفاوت الملتحم بالاندماج، تحت مظلة دال شكل للهيمنة والتي حولت كل المجتمعات إلى ما وراء الإدراك: الهيمنة، أولاً، من خلال الرأسمالية التجارية، ثم لاحقاً من خلال الكولونيالية والإمبريالية التي أثمرت المرحلة الحالية للعولمة.
الضرب الجدالي الثاني ربما كان أفضل منْ مثله هو طلال أسد. إنه اعتذارية حول المحلية والنسبية، متمأسسة في خطابية مصادرة، استثمارية وخيالية، مترجمةً انتظامياً ما ينظر إليه على أنه الضرورات الأخلاقية والوجدانية إلى الإدراك والمعرفة، وبالتالي الانزلاق من سوسيولوجيا السياسة إلى عاطفية الانغماس الذاتي والسيكوجية-السياسية، وهذا مع الحواشي المضافة. إنها اعتذارية مأخوذة من الجانب التعددي الثقافي، حيث يحسب فيه الاستياء من أوروبا، في اكتشاف أنها غير مكتملة ومنقوصة، فيؤخذ لكون عجزها التاريخي، أو «الترييف» بالنسبة للبعض. إنه يقدم موثوقية مطلقة وأولوية، في استياء تقابلي، وربما في تكفير وندم، إلى ما نظر إليه على أنه آخر أوروبا. يدعو أسد هذا الإجراء على أنه «جينيولوجيا»، بدلاً من «تاريخ»، وذلك لأسباب لا أستطيع أنْ أعيها تماماً، مقراً على أنه ينبغي على المرء أنْ يقوم بقطيعة مع ما يأخذ به بكونه القيود القسرية للحقيقة الاجتماعية- وهذه القيود بالطبع على الانغماس الذاتي وضرورات العقلانية الاجتماعية- التاريخية. يقترح أسد إلى أنه ينبغي أن نتعلم بأن نتناول مقولات التنوير بكونها تنتمي إلى «أنواع محددة من التفكير»، وليس بكون ذلك أرضية يتوجب منها البدء بفهم التراثات غير التنويرية (Asad, ‘Responses,’ 200). هناك الكثير المنصب على الاهتمام بعمليات السلطة والأيديولوجية في الأنثروبولوجية والترجمة الثقافية، ما يقوم به هو استخدام فكرة الفهم Verstehen، الفهم الوجداني، موظفاً بطريقة تحمل في نهاية المطاف الكثير من الوجدان والعاطفة وفهماً تحليلاً قليلاً. الشهادة، على سبيل المثال، دعوى صبا محمد بأنّ الطقوس التقووية المفرطة التي يقوم بها بعض النساء المصريات يجب أن لا يتم النظر إليها وفق المعاني الليبرالية، بل ينبغي النظر إليها بكونها تقنيات الذات (Mahmoud, ‘Rehearsed’): صحيح بلا شك بطريقة مبتذلة، ولكن مع ذلك من الناحية البنيوية تقنيات الذوات المطيعة التي من شأنها في المصطلحات العلمية وصف الإجراءات التي يعاد هيكلتها اجتماعياً من قِبل السلطة. وفي نهاية المطاف، فإنّ الجنيولوجيا بالتالي لا تؤول إلى الفهم التاريخي أو الأنثروبولوجي، إلا أنها تظهر بكونها فعل ترميم تاريخي، الدعوة نظيرة الاعتذارية.
أسد يشكك بفكرة الدين، وعلى نحو متلازم كذلك يشكك بفكرة العلمانية. إنه يقترح بأنّ فكرة الدين هي على نحو شديد فكرة مقيدة بشروطها الأوروبية في ظهورها، وربما لا يمكن منطقياً استخدامها في مكان آخر: إنّ هذا الاقتراح أيضاً صيغة مكرورة شكلانية دون جهد يذكر؛ وإذا ما كان على المرء أن يقبل بوجهة النظر هذه، فإنّه لا بد عليه كذلك أن لا يسمح بقبول المفاهيم المستخدمة في الاقتصاد والسوسيولوجيا والسياسة والأنثروبولوجيا، أو مفاهيم مثل الجاذبية أو حقائق مصل سرعة الضوء. وبصرف النظر تماماً عن الطبيعة الزائفة لهذه الجنيولوجيا للدين، فإنّ التأكيد على أنّ شروط صعود الأفكار العلمية تبطل إمكانية تطبيقهم العام يُؤدي ليس فقط إلى عدم إمكان استخدام المفاهيم في العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، ولكن أيضاً إلى نسبية لا حدود لها وعدمية معرفية تمتد شكلانياً إلى الجاذبية وثوابت بلانك. وهذا من شأنه أن يجعل البحث العلمي مقولةً سخيفة. وكما يقرر بحق كازانوفا، فإنّ سحب الدين والعلمانية إلى مجال الجينيولوجيا وإلى والأركيولوجيا من شأنْ ذلك أن يؤدي بنا إلى الافتقار تحليلاً ومن دون أدوات مفاهيمية كافية (Casanova, ‘Reply,’ 15).
هذا بالطبع أنوية ثقافوية بامتياز. وباعتماد طلال أسد على هذا الموقف، فإنه يقترح خطاباً مُصادراً يتعلق بالمحلوية. إنه يعلن بأن الدين، مع الإجلال المناسب لجسارة والإجمالية الحاسمة للموقف، هو، أي الدين، نتيجة لعملية خطابية (Genealogies, 29)، وعلى نحو واضح من دون جذور في التصنيف الأنثروبولوجي العام للدين. فأنثروبولوجيا الإسلام ينبغي أن تبدأ من حيث يبدأ المسلمون، مع محمول في التراث الخطابي المتعلق بالمقدس المسلم، وممارسة ما يدعوه هو، على نحو مناسب، «الأداء الملائم» المدفوع من قبل المقدس (Idea, 14-15): هكذا، فإنّ الإسلام الذي يراه أسد بحق بأنه ليس بنية اجتماعية مميزة، هو بالتالي ما تم القيام به لأن يفلت من الدرس السوسيولوجي والأنثروبولوجي؛ لقد تم تحريره من القيود الاجتماعية لطقوسه، وتم أسطرته كتراث، أي كخطابات (وأسد ليس لديه إلا القليل من العلم هنا حول هذا) تُقدّم الشكل الصحيح للممارسات المعنية، وذلك بسبب كونها قامت من خلال التاريخ (Idea, 14). وبالرغم من انتقادات أسد لـ غيرتز Geertz، فإنّ إسلامه بناء ذهني مع أدائيات مترابطة بذلك، على نحو كبير بروحية غيرتز، وإن كان منتعلاً لمكانته كصنف أنثروبولوجي، وهذا رغم أنه يقوم بالإشكالات نفسها التي يراها أسد عند غيرتز (Asad, ‘Responses, 210; see the comments of Caton, ‘What is,’ 45).
ويبدو هذا الاعتقاد اللاعقلاني، الذي يترافق مع الحيوية، يبدو في هذه الحال متمفصلاً لاعتذارية بشأن الإسلاموية الهوياتية المعاصرة. إنه أيضاً اعتقاد يتطابق تماماً مع الدعوة التراثية التي تحدثت عنها سابقاً. هذا رغم أنّ الأنوية التي تقول بها لا يمكن أخذها على نحو جدي كما هو أمر عواقبها. بالنسبة لطلال أسد في استخدامه لمفهوم الدين فإنه يشجب على نحو شديد التحدث عن المسلمين في أوروبا، أو، بالأحرى ليعيد بناءهم وتشكيلهم بمثل هذا النحو، إعادة البناء والتشكيل التي يرفضها الكثير. إنه يدعو لمجتمع مقاطعات Staende، لمجتمع ملل، لكن من دون هيمنة، تعايش جغرافي للأقليات، مدعوماً بفكرة الدين والتي هي ليس فقط من الإصلاح، وإنما كذلك قرآنية (Asad, ‘Muslims as a ‘religious minority’ in Europe,’ Formations, 159-180). ذلك أنه، كما يقرّ، بأنّ المسلمين المهاجرين [إنه يستمر بدعوتهم هكذا، بدلاً من دعوتهم بـ مواطنين] لا يمكن أن يكونوا ممثلين بصورة مُرْضية في أوروبا، وذلك بالنظر إلى بناء أوروبا الأيديولوجي (المرجع نفسه، 159).
القضية في الواقع ليست هي التمثيل، الذي يمتلكه كل المواطنون، بل المواطنة، والتي لم يعالجها أسد في أيّ موقع. أسد يسعى إلى تمثيل المسلمين كمسلمين (المرجع نفسه، 173)، بمعنى كأقلية ليست مُعرّفة ومحددة على نحو كبير، كما هي موسومة بواسطة الروايات التاريخية، ذواكر متجسدة، ومشاعر ورغبات (المرجع نفسه، 174)، حيث هنا كذلك يحتاج المرء إضافة كمّ كبير من الذكريات الكاذبة المغوية سياسياً. إضافة إلى ذلك، يضيف أسد للمسلمين سمات تتعلق بطرق الحياة والممارسات المتمفصلة في الكتب التراثية: إنها هذه الروايات والكتب التراثية، لا وجود المسلمين الحقيقي، التي تحتاج المؤسسات السياسية لأنْ تمثلها، إنها صورة ترجع إلى أنْ ترتد وراءً إلى ممارسات القرون الوسطى المسيحية والقرون الوسطى الإسلامية.
أعتقد أنه من الواضح أنّ كلية هذا البناء الجدالي يتجه نحو الأشكال التراثية للهوياتية: البناء المقصود والمدبر للأقليات، وعلى نحو محدد للأقليات المسلمة في أوروبا، وسياسات الاعتراف التي لا تنطوي على نحو كبير على إدراك الواقع كتصنيف وقولبة. وإلى هذه النقطة بالتحديد فإنني سأتجه لتناولها الآن، على أمل أن تتفقوا معي أنّ هذا النقاش المختصر لطلال أسد ليس التفافاً إلا أنه محطة في نقاش أقدمه حيث سأتجه الآن إلى استخلاص نتائجه كما سأعيد الربط بما كنت قد بدأت به.
إنني أرى أنّ ما يتخذه به أسد بخصوص الهوية المسلمة، وما يأخذ به كازانوفا وتايلور بخصوص المسارات الحضارية، ليسوا قوى طبيعية تسيّر الجماعات البشرية إلى نتائج محددة أو إلى آفاق محدودة من الإمكانية. فلا يمكن اختزال المسلمين البريطانيين والمسلمين على نحو مجمل إلى مجتمع متجانس. هكذا، فإنّ الصوت المحلي، سواء أكان ذاك الصوت في الرياض أو في لندن، ليس صوت الطبيعة. إنه بناء من الاصطناع والاختلاق، متمفصل من خلال الأداء الملائم، وإن كان على ما يبدو من السذاجة والعفوية، وإنْ يؤدى بإخلاص. ما ينطبق في كل من جاكرتا والقاهرة بالنسبة للصوت المسلم المحلي هو نتيجة التطورات التاريخية الأخيرة التي تحمل الكثير من الهندسة السياسية والاجتماعية. وفي كل ذلك، فحينما تكون علامات ورموز الأصالة فعلاً أصيلة، فإنهم من ثم، كما هو حال الفولكلور، مزيج من بقايا، بدرجات متفاوتة من الجاذبية والملائمة.
هكذا الأمر أيضاً بالنسبة للأسلمة الاجتماعية والثقافية، وكذلك الأسلفة (من السلفيّة) في العالم العربي في العقود الأخيرة. إنه مع وجود استثناءات، فإنّ هذه ليست استمرارية جوهرية مع الماضي، وهذا ينطبق تحديداً على نحو شديد على الأصولية و التقووية الصارمة أو الأسلفة الاجتماعية. يجب التشديد على أنّ الهوية هي أقل من مفهوم دلالي منه إلى مفهوم أدائي، وبالتالي لقب سياسي. في السياق الذي نناقش فيه هنا، ولنا عودة إلى نقاش التحديث والتمايز الاجتماعي، فإنّ المفهوم الهوياتي عن الإسلام كبنية فوقية اجتماعية سياسية كلانية وأخلاقية يتطابق وينسجم مع طبيعة المجتمع له معنى متكامل. وفي كل ذلك، إنها أطروحة العلمنة، مع تأكيدها على التمايز الاجتماعي، بكونها القادرة على تقديم تفسير لصعود الدين كنموذج مستقل الذي يقوم بادعاءاته في تمثيل المجتمع. إنّ سؤال العلمانية ليس هو السؤال الذي يقوم في تحديد العلاقة بين الإسلام والغرب؛ بل هو في الواقع الفعلي صراع داخل البلدان ذات الأغلبية المسلمة أنفسهم، بين ما يطلق عليه الفرنسيون المسلمون السوسيولوجيون.
وكما هو الأمر في أماكن أخرى، فإن الدين في العالم العربي وعلى مدى فترة من قرن ونصف، موضوعياً وتدريجياً قد انسحب تقريباً، grosso modo، من اشتباكاته بمساحات مختلفة من الحياة، التعليم على نحو رئيس والقانون والتنظيم الاجتماعي والثقافة والسياسة والنماذج المعرفية، مخلياً الطريق إلى القانون المدني والمحاكم المدنية والدولة والمؤسسات التعليمية الخاصة (بما يشمل الجامعات الحديثة) والتخصصات العلمية الطبيعية والجغرافية والتاريخية والحديثة والأفكار الحديثة عن التنظيم الاجتماعي والسياسي، بما يشمل ذلك الأيديولوجيات الحديثة الدستورية والقومية والليبرالية والاشتراكية وغير ذلك الكثير. هكذا، فقد تراجعت الشخصيات الدينية ومحافلهم المؤسساتية، ليس أقله الثقافة الدينية المعايير الدينية السلوكية للسلوكيات الشخصية والأخلاقية، كل ذلك قد تراجع إلى الهوامش، على الرغم من وجود الحضور الرمزي الرسمي، مخلية الطريق بذلك إلى القضايا والمؤسسات الحديثة التي انبثقت من الشروط السائدة، لكن ذلك ليس من خلال التقليص، ومن دون أن يحمل هذا أيديولوجيا العلمانية التي تمأسست مركزياً. كما أنّ الوجود الرسمي للدين قد تمّ قيادته تحت نطاق السيطرة البيروقراطية للدولة، الدولة التي، في كثير من الحالات، قد تعلمنت، كما هو الحال في أوروبا قبل قرون، وغدت الممتلكات تحت وقف الأوقاف التي سيطرت عليها المؤسسات الدينية. هكذا، فقد تم التعبير عن الدين الرسمي على نحو كبير تحت ظل تأثير تقنيات التفسير القانوني الرسمي التي قال بها الإصلاح الإسلامي في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، وأصدروا مدونات في توافق مع الاتجاهات السائدة للدول الحديثة والمركزية، تتراوح بين التأمين والترتيبات المصرفية والجمعيات إلى الاشتراكية في الفترة الناصرية والمعاهدات مع إسرائيل في عهد السادات. كل هذا، بالطبع، على نحو غير مقبول مفارقة، كما هو حال مع ترجمة اصطلاح الشورى القرآني إلى الديمقراطية. إنه يعتمد على نموذج معياري في مفاهيم تتسم بالبهلوانية والالتواء لخطابات اعتذارية عامة.
ومع ذلك، لقد كان هناك تطوراً موازياً، ناجماً عن التمايز الاجتماعي والمرتبط بأطروحة العلمنة. وقد كان هو تشكيل منظمات تقووية مدنية، قد تنظمت كأندية، وعلى نحو أقصى بالترافق مع التطور السياسي المنوجد، وفي لحظات معينة، عندما أصبحت الاشتراكية القومية نموذجاً للإصلاح القومي، في نشوء تشكيلات شبه عسكرية- جماعة الإخوان المسلمين في مصر يعتبرون مثال على ذلك، كما كان حال راشتريا سويميسفاك سناغ (the RSS) القومية الهندية في ظل جولو ألكار وحتى اليوم. لقد عملت مثل هذه المنظمات كتكثيف وإعادة تشكيل وتوجيه الرموز الدينية و المشاعر في قنوات محددة جيداً ومنظمة تنظيماً جيداً، مضفين عليهم شكلاً واتجاهاً منظماً سياسياً واجتماعياً، ما أسفر عن شبكات دوائر تنظيمية وأيديولوجية واتساقاً دلالياً ذاتياً.
هكذا، فإنه من خلال الإمكانيات التي توفرت بواسطة التمايز الاجتماعي المفسر من خلال أطروحة التحديث والعلمنة، فقد كان على الدين أن يغدو وفق هذا النحو نموذجاً محدداً واجتماعياً وثقافياً مستقلاً، مثل كل النماذج الأخرى التي تصعد جراء التمايز الاجتماعي. إنه من خلال الهوامش، فإنه غدا ممكناً تحرك الشروط اللوجستية إلى المركز، على افتراض تقديم معايير مكتفية ذاتياً للفعل الشخصي والاجتماعي والسياسي. لقد غدا الدين برنامجاً للتحول الكلي: لم تكن الإمكانيات اللوجستية هي التي جعلت هذا ممكناً فحسب، ولكنْ التحول المفاهيمي الحاسم كذلك. فبينما كان القرآن قبل نهاية القرن التاسع عشر، بصرف النظر عن الأغراض التعبدية، نادراً ما يقرأ وفق شرطه، وبصرف النظر عن التفاسير والتراثات المتراكمة للتفسير، ومن ثم على نحو متقطع حدث تحول مهمّ باتجاه الفكرة البروتستانتية للكتاب المقدس بكونه موضوعاً قائماً بذاته حيث ظهرت هذه الفكرة في الأفق- تراث كتابي وفق المعنى الذي يقدمه طلال أسد. لقد قُرأ القرآن على نحو كليّ، ووفق شرطه، بغض النظر عن التراثات المتراكمة- متميزاً عن تاريخه الطويل من التلقي، وتم تحويله إلى موضوع قائم بذاته ونموذج مجرد، قادر على الإحياء. هكذا، نجد بالتالي أنّ الأصولية غدت ممكنة.
ما يسميه البعض بالتسونامي الإسلامي بعد الربيع العربي يستمد مما قيل، والذي جرى تهيئته بواسطة الشبكات التعليمية الهائلة والمعلومات والشبكات الأيديولوجية واللوجستية- أولاً من المملكة العربية السعودية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أي في الوقت الذي عملت فيه هذه الشبكات باعتبارها عناصر في الحرب الباردة، كقالب ثقافي واجتماعي لعقيدة ترومان. وقد وُجّه هذا إلى خلق قوات محافظة متموضعة اجتماعياً وقوى مناهضة للحداثة وللاشتراكية في المنطقة. وبالتزامن مع هذا كان هناك سياسة الشيوع: فكرة المجتمعات الفسيفسائية، حيث الخيال المناهض للحدثة السياسية غدا برنامجاً سياسياً وقد حقق نجاحات دلالية: وهو واحد يحول الفئات الاجتماعية والدينية إلى فاعلين سياسيين. لقد كانت ماليزيا في خمسينيات القرن الماضي مثالاً مهماً في هذا، وكذا الأمر بالنسبة لإندونيسيا في الستينيات، وإن كان أكثر خطراً بكثير. هكذا، كان هناك أمر الأسلمة في باكستان في السبعينيات والسودان في وقت أسبق إلى حد ما، وبالطبع خلق قوات من الإسلاميين ضد السوفيات في أفغانستان. وأخيراً، إنه أثناء الحديث عن الشبكات اللوجستية من التعبئة والتنظيم، ينبغي على المرء أنْ لا ينسى القنوات البترو-إسلامية والقنوات الفضائية في العقديين الماضيين.
ومنذ ذلك الحين، اكتسبت المشاعر الأصولية زخماً قوياً في أن تكون مكتفية ذاتياً، بصرف النظر عن المجتمع المحدّث والمعلمن، وحاولت الانتقال إلى مركزه. لقد بنوا في شروط التفكك الاجتماعي والتراجع في كفاءة النظم التعليمية والركود في مهمة تحديث الدول العربية وانجرافهم نحو التخلف الاجتماعي، بما في ذلك التشجيع غير الرسمي الإيجابي للجماعات الإسلامية. وقد بنوا أيضاً في ظل تزايد الفجوات بين الأغنياء والفقراء والنهب المدمر للاقتصاديات النيو-ليبرالية والحكم الفاسد الذي أنتجوه، وجمعٌ من القضايا الأخرى. لقد بنوا على أسس ركود الأيديولوجيات الوضعية والحداثية القومية التي صاحبت الهزيمة العسكرية، الأمر الذي مهد الطريق إلى القومية الثقافية والهوياتية التي استخدمت الدين كصرخة لكي تحشد بها الجماهير.
أما في الآونة الأخيرة، فقد بنوا وسط العناصر المتعلمة على أسس قوالب ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثية وضد التنويرية، وأيضاً وفق أسس الظاهرة العالمية لسياسات الهوية، سياسات الهوية التي غالباً ما يُمنح فيها الدين الأوالية على حساب الوطنية. لقد كان شرط التعددية الثقافية في أوروبا عاملاً مهماً رئيساً في هذه العملية؛ هكذا، فقد أخذ يوصف الأتراك وغيرهم بكونهم «مسلمين»، بصرف النظر عن الرغبات والأماني لهؤلاء الذين يوصفون بكونهم مسلمين. وفي ظل هذه العملية، أصبح للأسلمة تأثير على رقعة واسعة من الفئات الاجتماعية، والتي لم يكن لها في السابق أي شأن في تسييس الدين: هوية إسلامية ضمن المعايير ترسم الاندفاع الباكر، في الأساس، على الميل الطبيعي إلى التماثل الاجتماعي، أولاً كتأثير، ومع الوقت تغدو طبيعة وعادة في المرتبة الثانية، وفي الوقت اللازم يتم تخيلها بكونها منوجدة مسبقاً، طبيعة إسلامية تسبق التحديث.
الأسلمة الدستورية هي نتاج حزب سياسي، الإخوان المسلمين: وهذه جماعة شريرة إلى حد ما مع العديد من التقلبات الكهنوتية في أسالبها، والجائعة على مدى طويل للسلطة وتتمرس من خلال إحساس قوي في الأهلية والاستحقاق- استحقاق بسبب العلاقة الخاصة بالرب، وبسبب الافتراض الشعبي أنّ الإسلام والشريعة الإسلامية القديمة تتوافق، في قالب نموذج حيوي، مع طبيعة الناس، وبسبب تاريخ طويل من السرية المواربة والقمع: وهذه الأخيرة يجب النظر إليها بحذر. وبممارسة طغيان الأغلبية الرسمية، فإنه من غير المستغرب أنّ الحزب وممثله في مركز رئاسة الجمهورية، محمد مرسي، (المنتخب بهامش صغير جداً) أن يختطفوا الثورة المصرية الأخيرة التي دُعم فيها انتفاخهم، وحاولوا إضعاف القضاء وأخونة جهاز الدولة، وكذلك الأمر وسائل الإعلام وذلك باستخدام الإمكانات السلطوية والقمعية وتنظيم الدولة المصرية، جنباً إلى جنب مع العمل في الشارع من قبل عصابات الحزب- بما في ذلك في مثال واحد بما يعرف بـ التحرش الشرعي ضد النساء غير المحجبات في الشارع (وقد انحسر هذا)؛ نذكر أنه في 23 يناير من سنة 2013 حينما افتتح محمد مرسي معرض القاهرة للكتاب، فقد تم إعلام غير المحجبات أو اللواتي يرتدين بنطالاً من قبل حرسه بأنْ يبقين بعيداً عنه (جريدة السفير، 24 /1/ 2013). حاول مرسي في إعلانه الدستوري في 22 /11/ 2012 موضعة نفسه في الأعلى وإلى إضعاف وشق القضاء سياسياً. وقد أرسل جمهور الإخوان (مع عناصر مسلحة) لتفريق المظاهرات خارج القصر الرئاسي في 5 ديسمبر. وكان جمهور الإخوان قبل يومين قد حاصروا المحكمة الدستورية. وبالمثل، في نفس الوقت تقريباً أكثر أو أقل، هاجم جمهور حزب النهضة الاتحاد العام للشغل، وفي الخامس من ديسمبر دعاهم الغنوشي بالمخربين وبكونهم ضد الثورة. الإخوان المصريون تخلفيون، متأثرون بالسعودية، لم يجددوا أبداً أنفسهم أيديولوجياً. ماكرون.
وبعد التظاهرة الشعبوية لجمهور من أجل مرسي والشريعة في مصر، لم تعد المحكمة الدستورية قادرة اليوم لتجتمع وتعلن اللجنة التأسيسية والدستور غير دستوريين وغير شرعيين، وذلك بسبب التظاهرات، واستطاعة الإخوان حشد جمهورهم إلى الشارع. لقد كان الإخوان المسلمون ينتظرون مثل هذه اللحظة لأكثر من ثمانين سنة من النشاط الشرير والانتهازي: موقفهم موقف طامع للسلطة بعيون جائعة واستياء على مدى طويل وشعور يتزامن مع هذا من بالاستحقاق والأهلية ( استحقاق: الرب وشعبويتهم، مفاهيم حيوية ورومانتيكية عن الشعب والفعل السياسي). تقول المادة السابعة: «يقوم المجتمع المصري على العدل والمساواة والحرية والتراحم والتكافل الاجتماعي والتضامن بين أفراده في حماية الأنفس والأعراض والأموال (الشاطبي)...»، من دون تحديد، فلسفة مجتمع وضمنياً طبيعة للاتقاء والأمر بالمعروف. وتقول المادة 219: «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة». ويقول السلفيون أن هذا تجاوز للعلمانيين والمسيحيين وذلك من قبل القائد السلفي ياسر برهامي في فيديو مسرب يعود تاريخه إلى 24 /12/ 2012. وقال أيضاً بشأن المادة 76: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص دستوري» الذي يحدد الشريعة.
هكذا، نجد بأنّ الأشد دراماتيكية ربما هو الزيادة الملحوظة للجهادية، المحلية لكن في الغالب الأجنبية، وسط جماعات المعارضة المسلحة في سورية التي تشارك في رقصة الموت danse macabre مع النظام هناك. كل هذا رغم ما تقوله استطلاعات الرأي: لقد كشف استطلاع سنة 2011 لـ 16.000 من المستطلعين في العالم العربي بواسطة المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية (الذي يحتل الآن الأولوية في تحديد الاستطلاع في المنطقة) بأنّ 47 % يعتقدون أنّ الإسلام هو مسألة خاصة حيث ينبغي أن يتم فصله عن الحياة العامة. و38 % يعتقدون بأنّ الحياة العامة ينبغي أنْ تسترشد بالدين. وعارض ثلثان تدخّل الشخصيات الدينية في السياسة. هذا رغم أنّ النساء في موقف دفاعي في كلّ من مصر وتونس، ويبدو أنهن يُعدن النضال بغية التقدم الاجتماعي الذي حققوه سابقاً.
لذلك، فإنّ ما نشهده وما نراه من الصور التي عرضت ليس «عودة» مقدرة؛ إنّ هذه الصور تتحدث عن الانحدار الاجتماعي وليس عن عودة شيء أصيل وطبيعي وملزم. إنهم بدلاً من ذلك خلابون، تسهب بهم قوى سياسية واجتماعية. يتحدثون عن مناهضة العلمنة، كقوى ارتكاسية اجتماعية يعملون إلى جانب الروحنة للمجال العام، حيث تغدو فيه السياسة، على حد تعبير أحد أعضاء الإخوان المسلمين (والآن هو ميت) «التقوى الاجتماعية»: وهذا ما ينطوي عليه صعود نخب جديدة، وإعادة تنظيم اجتماعي وتدمير التعليم والثقافة الحديثة وتسلل الدولة البيروقراطية والشرطة والقوى والمسلحة والقضاء، وأخيراً و ليس آخراً إعادة ضبط اجتماعية المواطنين وإعادة تحديد الثقافة الوطنية وفقاً للقوالب الدينية الجديدة. إن المناهج الدراسية في مصر وتركيا هي الآن في خطر إدخال نظرية الخلق الأميركية الطراز في دروس البيولوجيا. وقد تمت إزالة صورة لمؤلفة نسوية مصرية بارزة، وهي درية شفيق، من كتب التربية المدنية للمدارس الثانوية في يناير عام 2013، بسبب أنها ظهرت غير محجبة (طلب من وزارة الأوقاف، وقد تم الطلب منها به من قبل وزارة التعليم للنظر في المسائل المتعلقة بالدين). أيضاً مما أزيل: صور ارتباط القرآن مع الصليب في اللوحات لثورة 2011. لقد رفض أحمد أمين في أربعينيات القرن الماضي تعيينها في الجامعة: «لا تعيين لامرأة جميلة». وقادت شفيق سنة 1951 على نحو ناجح نساء للمطالبة بمنح المرأة حق الانتخاب. كما شفيق احتجت في سنة 1954 ضد مسودة دستور لعدم وجود امرأة واحدة (جريدة السفير، 9 /1/ 2013). كل هذا ينطبق على الحزب الحاكم في تركيا: نموذج «الديمقراطية المسلمة»، أياً ما يعني هذا، بيد أنه في الواقع نموذج في معنى الهندسة الاجتماعية المعين وفي الاستخدام الأداتي.
ولإعادة صياغة سؤال عنواني في هذه المحاضرة «هل الإسلاموية قدر العرب؟» من دون كلمات منمقة: هل الانحدار تاريخي والتقهقر اجتماعي مقدّر؟ جوابي على هذا: لا. إن في ما يجري في العمليات التاريخية، ليس كقوى قدر، ولكن كحقائق سياسية، ومجتمع وهندسة اجتماعية وا