تونس والديمقراطيّة، أو عندما يسبق الإجراء القيمة
[size=40]06فبراير 2016بقلم أنس الطريقيقسم: الدين وقضايا المجتمع الراهنةحجم الخط
-18
+للنشر:[/size]
تعيش تونس في بداية هذا العام الجديد (2016م) أحد الامتحانات المصاحبة لخوضها تجربة الديمقراطيّة. وتونس هي أوّل دولة عربيّة يستقبل فيها الإسلام بوصفه ديناً ونمطاً ثقافيّاً، واجتماعيّاً، وتأويليّاً للعالم والحياة الديمقراطيّة، ويمارس تجربتها.
المؤكّد أنّ هذه الديمقراطيّة التي يستقبلها ليست نظريّة، ومتى كانت هي كذلك؟ فشأن الديمقراطيّة كشأن كلّ المفاهيم النظريّة التي تسمّي ظواهر يقع عيشها واقعيّاً، ويراد صورنة ذلك العيش واستخلاصه في صيغة نظريّة، ستبقى تلك الصورنة حتماً اختزاليّة بما أنّ الواقع متشظٍّ في كلّ اتّجاه، وبما أنّ إدراكنا له إدراك لغويّ. لهذا السبب يقول جيوفانّي سارتوري: إنّ الديمقراطيّة اسم فضفاض لشيء لا وجود له[1]. ويقرّر أحد أبرز منظّريها الأمريكان في الفترة المعاصرة روبارت دال أنّها تحويل أو تعديل مستمرّ خلال الزمان يلحق ببعض القيم الأساسيّة.[2] بقي أنّه يمكن القول تقريبيّاً إنّ نمط الديمقراطيّة التي يقع استقبالها وتجريبها هو الديمقراطيّة السياسيّة، فهي كذلك لأنّ العالم دخل منذ انتقال الغرب إلى الطور الاستعماريّ، طوراً سياسيّاً من التاريخ، أنجز الغرب ذلك لمّا سحب على التدريج عمليّة تأويل العالم من العقل اللّاهوتيّ إلى العقل الوضعيّ، عبر تصوّرات للتاريخ أحلّت الإنسان في المركز بدل اللّه.
وهي أيضاً الديمقراطيّة اللّيبراليّة منذ أن كانت قيمة هذا الانقلاب الغربيّ المؤنسن الحريّة. وتأكّد هذا مع خيبة التنبّؤ الماركسيّ بحتميّة نهاية الرّأسماليّة. وعلى الرغم من قيام هذا التنبّؤ على مستندات موضوعيّة، فإنّه لا يفلح إلى حدّ الآن إلا في لفت انتباه اللّيبراليّة لتأخذه بعين الاعتبار، يسعفها في ذلك أنّها منذ أصلها اليونانيّ تضمر قيمة المساواة ضمن الدلالات الواسعة التي تحرّكها في كلّ منعطفاتها التاريخيّة لقيمة الحريّة. فلمّا انتقل الغرب إلى الطور اللّيبراليّ الاقتصادي الراهن والعولميّ، حوّل هذه الديمقراطيّة التي يكاد يعمّم نموذجها بقيمة المساواة من داخل منظومته للحريّة، يشهد على ذلك أنّ أبرز تنظير لهذا التحوّل كان بيد اللّيبراليّة الجديدة ممثّلة خاصّة في الكتاب المفصليّ المعروف لجون راولس "نظريّة العدالة".
وهذه الديمقراطيّة هي كذلك الديمقراطيّة التمثيليّة، هذه هي صورتها المروّجة في العالم العربيّ الإسلاميّ، منذ تحوّله إلى دول مستقلّة.
ليست هذه الديمقراطيّة نظريّة في مهدها الغربيّ الذي اقتبست منه، وهي لذلك حاملة في ثناياها لكلّ ما يتبع عمليّة التجريب من نتائج عمليّة التوفيق بين النّظريّ والتطبيقيّ، من مؤالفات وإجراءات، وفي الغالب هفوات، وخروقات ظرفيّة ومستدامة لجوهر الديمقراطيّة[3]. وربّما يكون التمثيل أحد هذه الخروقات الظرفيّة، ولكن الممؤسسة بفعل شروط التطبيق منذ القرن الثامن عشر في الديمقراطيّة، والمنظور إليها باستمرار على أنّها خرق لجوهر الديمقراطيّة. فهل يكون ما تعيشه تونس اليوم ممّا يبدو كالفوضى السياسيّة ناتجاً طبيعيّاً لتطبيقها لنظام يحمل في جوهره وفي تطبيقه مشاكل أساسيّة؟
يشعر النّاخبون في تونس للحزبين الكبيرين من حيث التمثيل الشعبيّ والنيابيّ وهما حزبا "نداء تونس" ذو التوجّه الحداثي النيوليبرالي، و"النهضة" الإسلاموي، أنّ ممثّليهم خذلوهم بالتحالف المنجز بينهما في إدارة حكم البلاد. فالأمر يبدو لهم بهذه الصورة، بما أنّ الحزبين متقابلان كليّاً في فلسفة المشروع السياسيّ الذي يتبنّاه كلّ واحد منهما، يشهد على ذلك أنّ تكوّن حزب النداء وقدرته على الحشد والتعبئة، كانت بشعار مقاومة مشروع أسلمة البلاد على منهاج تيّار الإسلام السياسيّ الذي تبنّاه حزب النّهضة.
وقد برّر بعض مؤسّسي حزب النداء، وعلى رأسهم رئيس الجمهوريّة المنسحب منه لمقتضيات دستوريّة، بأنّه تحالف فرضته نتائج الانتخابات التي منحت منافسه الرئيسيّ عدداً من المقاعد النيابيّة لا يمكّنه من أغلبيّة مريحة كي يستقلّ بحكم البلاد. ومن الجهة الأخرى أسكت زعماء حزب النهضة القسم من ناخبيه المحتجّ على هذا التقارب بأنّه من مقتضيات التوافق، الذي لن تحكم من دونه في نظرهم البلاد، فتونس لا يمكن أن تطير إلا بهذين الجناحين في الصورة المجازيّة التي أنشأها راشد الغنّوشي زعيم حزب النهضة لوصف هذا الخيار السياسيّ، وهي الصورة التي ردّ عليها رئيس النداء السابق تطمينا لناخبيه، بأنّ حزبي النداء والنّهضة ليسا طائراً واحداً يطير بجناحين، إنّما هما طائران يطير كلّ واحد منهما بجناحيه الخاصّين به، لكن في اتّجاه واحد هو تأسيس الديمقراطيّة في تونس.
لكن يبدو أنّ هذه التبريرات لم تعد كافية، فهي ربّما من الأسباب التي تقود حزب النداء، وهو الحزب الأغلبيّ إلى التفكّك إلى فريقين كبيرين، ممّا يجعله يفقد هذه الأغلبيّة التمثيليّة في مجلس النوّاب في الفترة الرّاهنة، نتيجة إعلان قسم هامّ من نوّابه الانسحاب من كتلته النيابيّة. ويسود التفكير بين أنصار الحزبين على نطاق واسع بأنّ هذا التحالف جرى بإملاءات خارجيّة، وتنتج عنه تصريحات بيأس من السياسة وخيبة أمل في الانتخاب، بل يفكّر الكثيرون من نقّاد التمثيل في ضرورة تحصينه بأدوات أخرى تعيد تأهيل الشرعيّة الديمقراطيّة، وتمكّن النّاخب من انخراط أكبر في القرار السياسيّ حتّى لا يتحوّل صوته إلى رخصة يمنحها بيده، ثمّ سرعان ما يفقد أيّ سيطرة عليها في انتظار الدورة الانتخابيّة التالية.
وفي هذه الحالة كيف نقوّم ما يجري، من جهة استجابته لبرنامج تأسيس أوّل مسار ديمقراطيّ نموذجيّ في البلاد العربيّة، كما يحلو للكثيرين أن يصفوا به هذه التجربة التونسيّة؟ هل هو علامة على الخروج عن هذا المسار؟ هل هو إمكانيّة سياسيّة مسموح بها دستوريّاً؟ وهل هو نتيجة طبيعيّة للخيار التمثيليّ، ومن ثمّ فكلّ الخوف منه جهل بمقتضيات الديمقراطيّة التمثيليّة، أم أنّه علامة على تعثّر في اتّباع هذا الخيار، قد يضرّ بكامل التجربة، فيدعونا إلى مراجعته بما أنّه يبقى باستمرار خياراً منقوداً بشدّة؟
ودون الدخول في تفاصيل متّصلة بالقانون الدستوريّ، هي من صلاحيّات المختصّين، قد يجيز اتّباع شروط بناء دولة الحقّ التي تربط النشاط السياسيّ بالقاعدة القانونيّة لتحمي الحريّة من تلاعب الرغبات والمصالح، القول إنّ لهذا الاحتجاج كلّ الصلاحيّة، فحسب هذه الشروط يمثّل وجود المعارضة القويّة في شكل أحزاب ذات تمثيل عالٍ في مجلس النوّاب ضمانة أساسيّة لحسن سير الآليّات السياسيّة، ولكن أيضاً لحماية حريّة النّاخبين وإرادتهم، وقدرتهم على إزاحة شرعيّة للحكّام الموجودين. فبما أنّ السلطة في نظام المعارضة ليست قادرة على الظهور بمظهر الكليانيّة، وليست في حاجة إلى هذا الظهور، فإنّها تبقى في حالة إنصات قارّة لطلبات المجتمع. ولهذا فإنّ جلّ الديمقراطيّات في أوروبّا وأمريكا استعادت هذا التقليد اليونانيّ، وجسّدته على المستوى الإجرائيّ التنظيميّ ببنى سياسيّة أبرزها الأحزاب. وإنّ دور التعدّد الحزبيّ هنا تمثيل قنوات تعبير عن اختلاف الأفكار والبرامج، تسهّل المواجهة بينها إيجاد حلول للمشاكل السياسيّة الناتجة عن تنوّع التطلّعات الاجتماعيّة. وهو أيضاً البديل الأهمّ عن مبدأ التمثيل المباشر الذي يتقابل فيه النوّاب وناخبيهم بصفة أسبوعيّة للتحاور حول التعهّدات المبرمة بينهما. وبهذه الصورة فإنّ كلّ تحالف بين الحزب الفائز بالسلطة والأحزاب الأخرى لا سيما القويّة منها، قد ينبئ بتذويب لنظام المعارضة، وبإفراغ نظام التعدّد الحزبيّ من دوره التمثيليّ، وبالتالي بتحويل السلطة إلى سلطة كليانيّة، يفقد في ظلّها المواطن أيّ قدرة شرعيّة على إزاحة من تعاقد معهم بالانتخاب، إن أخلّوا ببنود هذا التعاقد. إنّ مثل هذا النظام لا يوحي بالرغبة في تمثيل الأصوات المختلفة في المجتمع سياسيّاً، بل أكثر من ذلك لا يعبّر عن ثقة السلطة في الفرد النّاخب، بما أنّها تتراجع عمّا كانت وعدته به، وكأنّها تعلم أكثر منه أين يكمن خيره.
بهذه الصفة كأنّ هذا التحالف بين من كان يفترض فيه أن يكون في المعارضة ليكون قوّة رقابة واقتراح لمن كان يمسك بمقاليد السلطة، متعارضاً مع أحد شروط تأسيس الديمقراطيّة، مبتدؤه إجرائيّ يصنع نوعاً من الامتثاليّة في جهاز السلطة، وعمقه قيمي إذ يبطن قلّة ثقة في الفرد ورأيه، وفي الشخصيّة الإنسانيّة، وفي المساواة الأنتروبولوجيّة، وهي جميعاً المستندات القيميّة التي تمنح الانتخاب كلّ معناه ومغزاه. من هذه الجهة يصبح ما يبدو خذلاناً دليلاً على إضمار النوّاب دون وعي لما عُدّ تبريراً نظريّاً لمبدأ التمثيل، عند مؤسّسيه الحداثيّين، فمونتسكيو، وهو أبرزهم، فسّر ضرورته بانعدام الكفاءة السياسيّة للمواطنين التي تؤهّلهم لاتّخاذ القرارات ذاتيّاً، وكذلك قال أحد مؤسّسي الديمقراطيّة الأمريكيّة الرئيس الرّابع للولايات المتّحدة الأمريكيّة جيمس ماديسون (ت 1836م)، إنّ فكرة وصول الشعب بواسطة التداول إلى القرارات الفضلى، مجرّد أسطورة، فحتّى لو كان كلّ فرد سقراطاً، فإنّ كلّ اجتماع لأفراد سيكون مجرّد فوضى[4]. بل كأنّنا في هذه الحالة نتراجع عن الإيمان المبدئيّ الذي شيّد عليه هذا البناء الديمقراطيّ الوليد، ألا وهو الثقة في محاسن الحوار بين المختلفين، ما لم ينته الاختلاف بينهم، وهو في الواقع أمر محال[5]. تعتبر الأحزاب من الأركان الرئيسيّة لكلّ نظام ديمقراطيّ، فهي في الوقت نفسه أدوات دمج المواطنين في العمل السياسيّ، والصراع بين الرؤى المختلفة لإدارة الشأن السياسيّ. وتتأسّس العلاقة بينها في ظلّ الديمقراطيّة التعدّديّة بحسب نوع النّظام الانتخابي المعتمد. وعلى الرّغم من كون النظام الانتخابي في تونس كان نظام التمثيل النسبيّ الذي يؤدّي إلى تشكيلة حزبيّة ذات أحزاب مستقلّة عن بعضها بعضاً، حسب توصيف موريس دوفارجاي[6]، فإنّ اعتبارات ثقافيّة أو إيديولوجيّة كما تؤكّد تنسيبات عالم السياسة الأمريكي دوغلاس راي (و 1939) على مخطّط دوفارجاي، قد تؤدّي إلى أن ترتبط الأحزاب ببعضها بعضاً في علاقات مرنة، قد تقودها إلى توافقات أو تحالفات تعكس طريقة توزيع القوى السياسيّة، ولذلك فإنّ هذا التحالف الحكومي بين الحزبين المتعارضين في البرنامج ليس في الديمقراطيّة التعدّديّة بدعة، إنّما هو من الأمور العاديّة، بل هو جائز بقوّة في حالة عدم امتلاك الحزب الفائز في الانتخابات لأغلبيّة مريحة كي يحكم. وإذا ما عدنا إلى قواميس السياسة عثرنا على نظريّة كاملة في التحالفات السياسيّة، يعدّ من أبرز منظّريها عالم السياسة الأمريكيّ ويليام هاريسون ريكر (ت 1993م). بل إنّ عبارة حكومة ائتلافيّة التي تطلق على الحكومات البرلمانيّة التي تتكوّن من تحالف عدّة أحزاب، لا يملك أيّ واحد منها أغلبيّة برلمانيّة تمكّنه من الاستقلال بالحكم، ليست عبارة غريبة عن تنظيم الحكم في الديمقراطيّات العريقة. وفي هذه الحالة أفلا يكون استهجان الناخبين لتحالف كلا الحزبين الكبيرين في تونس دون أساس في القانون الدستوري بوصفه علماً لتوزيع السلطة في الأنظمة الديمقراطيّة؟ لا يمكن أن تكون الإجابة بالإيجاب خاطئة، وهي تشير إلى كون الناخب في تونس -على الرغم من جواز احتجاجه على هذا التحالف من الناحية الإيديولوجيّة، ومن جهة كونه يظهر في شكل انقلاب على العهود المقطوعة سلفاً من الحزبين كلاهما- لم يصل بعد إلى ما يسمّيه جون جيكال شغفاً بالتنظيم العقلاني للسلطة[7]، أي حرصاً على تحويل العمليّة السياسيّة إلى ممارسة تقنيّة صرف، ترتبط سلامتها بمعيار النجاعة لا بمقياس الولاء للإيديولوجيا. ويمكن القول إنّ هذه القيمة الطارئة على التنظيم السياسي في الديمقراطيّات الغربيّة، التي لحقت بها في القرن الثامن عشر بتأثير من هيمنة منوال العلم على تنظيم كلّ مجالات الحياة، ليست بعد ضمن منهج الناخب التونسيّ في النّظر إلى الشأن السياسيّ. يؤكّد هذا أنّ الديمقراطيّة في تونس ما تزال هشّة، وأنّ هذه الهشاشة لا تتعلّق بالجانب الإجرائيّ، إنّما هي كذلك في أهمّ أساساتها، وهو جانبها القيميّ الإنسانيّ. فمتى تتبّعنا هذا الجانب لاح لنا أنّ عمق الإشكال في أنّ إحكام الإجراء لم يتأسّس على وعي عام وشعبي بالشروط القيميّة الضروريّة التي يجب أن تصاحب وضع الاقتباس الذي لم نغادره منذ عصر النهضة لكلّ المنتوج الحضاريّ الغربيّ، ولا سيما ونحن نقتبس عن الغرب شكل الديمقراطيّة التي نريد تأسيسها. ومن هذا الجانب يبدو ضعف التشبّع الفرديّ بقيم الديمقراطيّة المقتبسة قلّة تشبّع بمدلول قيمة الحريّة التي مثّلت في الغرب أهمّ ركائزها. ليس ذهن الناخب التونسي الذي يدين هذا التحالف السياسيّ الإجرائيّ، وهو يلوّح بشعار الحريّة منشغلاً بالحريّة السياسيّة إلا من جهة كونها إذناً لم يكفّ سنوات طويلة عن المطالبة به بالتصريح برأيه، لكن دون أن يصل ذلك عنده إلى إيمان عميق بحقّ الآخر المختلف في العيش السياسيّ المشترك، بل كأنّ مفهوم الحريّة الذي يفكّر فيه يبقى بدلالة نفسيّة، حريّة إرادة، تفهم عنده على النقيض تماماً من مفهوم الإرادة العامّة الروسويّ (نسبة إلى جون جاك روسّو) منحصرة في إرادته الذاتيّة، لا دخلنة للإرادات الأخرى المختلفة. إنّ لهذا الموقف في الواقع ما يؤيّده في الذهنيّة العامّة للعربيّ المسلم إلى حدّ الوقت الرّاهن على الأقلّ، وهو انعدام التفكيرالقارّ عندنا بأنّ الآخر، أنتروبولوجيّاً، مساوٍ لنا في امتلاك الحقيقة.
لم تصل الذاتيّة العربيّة المسلمة حسب هذا التحليل إلى تجاوز ما ترسّخ في عمق تعريفها للإنسان من أثر لتأويلها الدينيّ للحياة، وهي تظلّ حبيسة هذا المضمون الدينيّ الذي فهمته عن الإسلام للذات الإنسانيّة، فهي إمّا أن تكون من جانب الحقّ فتكون إنساناً بالقوّة والفعل، وإمّا أن لا تكون. ينحاز الحقّ لجهة واحدة، ويجرّ وراءه تصنيفاً معياريّاً للإنسان لا يبقى مجالاً لمعنى سياسيّ للحريّة ينطلق من اعتبار أساسيّ مؤدّاه أنّ الآخر في ذاته حامل للقيمة. يستوي في ذلك -كما نظنّ- من يدين حزب النداء من ناخبيه، ومن يدين من مؤيّدي حليفه في الحكم حزب النّهضة. فهل أنّ العيب في هذا التحالف السياسيّ الذي يجري بمذهب التقيّة تقارب النقيضين في المشروع، أم إدانة مثل هذا التقارب؟ يبدو حسب التحليل السابق أنّه عيب في الإدانة مردّه تصلّب في تحديد مضمون مفهوم الإنسان يعطّل انفتاحاً على مدلول أوسع لمفهوم الحريّة.
وحينئذ تبدو ممارسة الديمقراطيّة في تونس، في طورها الرّاهن على الأقلّ، سائرة في التطبيق على منوال كلّ التطبيقات التي جرت في العالم العربيّ الإسلاميّ منذ عصر النهضة، لا سيما في المسألة السياسيّة، حبيسة منهج الاقتباس عن الآخر الغربيّ، يسبق فيها تنفيذ الطريقة على وعي الأساس المعنوي المنتج لها. كأنّ العالم العربي الإسلاميّ في هذا يأبى أن يستمع إلى حدّ الآن إلى جملة صارت من البديهيّات في النظريّة السياسيّة أطلقها العروي في تعريفه للدولة حين قال ما مؤدّاه إنّ الدولة مشروع مجتمعي أو أدلوجة، تنتج جهازها الخاص بها. وإنّ الارتباط بين الأدلوجة والجهاز هو ارتباط تكوينيّ، يعني أنّ اختلاف الأدلوجة يؤدّي حتماً إلى اختلاف الجهاز. يبدو أنّنا في العالم العربيّ الإسلامي لم ننتبه منذ فترة الإصلاح إلى هذه الحقيقة، ومازلنا نكرّره إلى حدّ اللّحظة، فيسبق الإجراء عندنا القيمة.