"كيف لا تكون الإيكولوجيا
سياسة؟ بل ما جدوى العمل السياسيّ إذا كان خاليا من المشغل الإيكولوجيّ
الذي يشكّل المشغل الألصق بالوجود الإنسانيّ؟". هذان السؤالان كنّا قد
طرحناهما في مقالنا السابق المنشور في الأوان مؤخّرا. ولم نطرحهما إلاّ
لنعود لإثارتهما ومداعبتهما داخل الفضاء السياسيّ العربيّ. وها نحن نفعل
ابتداء من هذا المقال. لكنّنا نشير، بدءا، إلى أنّنا وجدنا أنفسنا مضطرّين
إلى الاستئناس بالتجربة الأوروبيّة في مجال الإيكولوجيا السياسيّة حتى نضيء
المشهد السياسيّ العربيّ المتّصل بنفس المسألة لأنّه، وبكلّ بساطة،
التأسيس لهذا الفعل قد تشكّل في أوروبّا.
الفعل الإيكولوجيّ في الديمقراطيّة الأوروبيّة: إنّ البحث الإيكولوجيّ العلميّ المخبريّ كان قد نشأ في أوروبا منذ
النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما أثبتنا في المقال السابق. وقد
لاحظنا أنّ الإيكولوجيا كانت وليدة البيولوجيا، عنها نشأت قبل أن تستوي
علما مستقلاّ بمفاهيمه وميادينه وأدواته. ولكنّ نشأة الفعل الإيكولوجيّ
باعتباره نشاطا جماهيريّا شعبيّا سياسيّا كانت متأخّرة نسبيّا، حيث ظهرت
الأحزاب السياسيّة الإيكولوجيّة في مطلع ثمانينيّات القرن العشرين، بعد
أكثر من قرن على نشأة العلم. ورغم تأخّر نشأتها كانت هذه الأحزاب نشيطة
ممّا مكّنها من تجاوز تأخّرها. وسرعان ما غمرت أغلب الدول الأوروبيّة.
ثمّ انخرطت هذه الأحزاب في الحياة السياسيّة وساهمت فيها بعد أن
حازت ثقة الناخبين فدخلت إلى البرلمانات الوطنيّة والأوروبيّة. إلاّ أنّ
حزب الخضر في المملكة المتّحدة الذي نشأ سنة 1973 لم يحز ثقة الناخبين. ولم
يتمكّن من دخول البرلمان البريطانيّ. أمّا حزبا الخضر الألمانيّ
والبلجيكيّ فقد تأسّسا سنة 1980. ونفذا إلى برلمانيهما الوطنيّين؛ الأوّل
سنة 1983 والثاني قبله بسنتين.
ثمّ تتالت نشأة أحزاب الخضر في دول أوروبيّة أخرى كالبرتغال
(1981) وجمهوريّة إيرلندا (1981) والسويد (1981) والدنمارك (1983)
واللكسمبورغ (1983) وهولندا (1983) وفرنسا (1984) وإسبانيا (1985) والنمسا
(1986) وفنلندا (1987) وإيطاليا (1987). وأحدث المواليد الإيكولوجيّين
الأوروبيّين كان حزب الخضر اليونانيّ سنة 1989. وسنة 1997 شهدت دخول الخضر
إلى الحكومة لأوّل مرّة في تاريخهم. وكان ذلك في فرنسا حين تولّت دومينيك
فوايني (Dominique Voynet) الناطقة بلسان الخضر الفرنسيّين حقيبة وزارة
البيئة والتهيئة الترابيّة بعد تحالف حزبها مع الحزب الاشتراكيّ والحزب
الشيوعيّ في الانتخابات البرلمانيّة الفرنسيّة، كما لاحظنا في المقال
السابق.
إنّ سرعة اندراج هذه الأحزاب الإيكولوجيّة في الحياة السياسيّة لم
تتحقّق لولا امتدادها جماهيريّا ممّا يعني أنّها قد اكتسبت قواعد شعبيّة
واسعة، وهو ما يمثّل دليلا على انتشار الوعي الإيكولوجيّ بين الأوروبيّين.
وهو وعي نشأ في صلب الديمقراطيّات الغربيّة متجادلا مع كلّ ضروب الوعي
الأخرى. ولم ينشأ طفرة من الفراغ. بمعنى آخر، الفعل الإيكولوجيّ في الفضاء
الأوروبيّ هو ممارسة ديمقراطيّة بدأت شعبيّة عفويّة ثمّ تطوّرت إلى ممارسة
خاضعة لشروط اللعبة السياسيّة، ولها ضوابطها وقواعدها وحساباتها السياسيّة
وحلفاؤها وخصومها.
وما سمّيناه الوعي الإيكولوجيّ الشعبيّ في الفضاء الأوروبيّ لم
يبق ساكنا. وإنّما تنامى وتتطوّر. والدليل على ذلك يتجلّى في تناسل الحركات
والأحزاب الإيكولوجيّة في الدول الأوروبيّة. ففي فرنسا، مثلا، تتواجد الآن
على الساحة السياسيّة ثلاث حركات سياسيّة إيكولوجيّة ناشطة. هي: الخضر
(Les Verts)، الحركة الإيكولوجيّة المستقلّة (Mouvement écologiste
indépendant) وجيل إيكولوجيا الزُّرْقُ (Génération écologie les Bleus).
وبين الحركات الثلاث اختلافات سياسيّة حادّة. فالأولى اختارت
التحالف مع الأحزاب اليساريّة، وهو التحالف الذي قادها إلى البرلمان
الفرنسيّ سنة 1997 وإلى البرلمان الأوروبيّ بعد ذلك بسنتين فقط، كما أشرنا
أعلاه. وهي حركة يساريّة الأصل ترى أنّ العمل الإيكولوجيّ السياسيّ لن يثمر
جدواه إذ كان الخضر ضعافا معزولين. ولذلك لابدّ من إقامة تحالف يقوّيهم
ويعلي صوتهم ويجعل نضالهم أكثر جدوى. والثانية ترفض كلّ أشكال الاتّصال أو
التحالف مع الأحزاب التقليديّة بما فيها الأحزاب اليساريّة. فهي حركة
راديكاليّة اختارت المواجهة والنضال والتصدّي لكلّ مصادر التلويث. وهي ترى
أنّ معركة البيئة معركة وجوديّة على الإنسان أن يخوضها دون هوادة ودون
مجاملات ولا تحالفات يمكن أن تحدّ من شراسة المعركة ومن جديّة النضال. أمّا
الثالثة فهي حركة تتبنّى الممارسة الإيكولوجيّة الوسطيّة الليبراليّة،
بمعنى أنّها تتجنّب التصادم مع رأس المال ومع الأنظمة الليبراليّة القائمة
الحامية للرأسماليّة. فهي حركة توعويّة إرشاديّة بالأساس ترى في النشاط
الإيكولوجيّ نشاطا تطوّعيّا.
إنّ كلّ نشاط من أنشطة المجتمع المدنيّ الأوروبيّ هو مكسب حضاريّ
لم يتحقّق للشعوب إلاّ بفضل نضالاتها مثلما تحقّقت مكاسب الحريّة
والتعدّديّة والعلمانيّة والديمقراطيّة قبل ذلك. ولا شيء من هذه المكاسب
كان هبة من أيّ نظام تقليديّ ملكيّ أو إقطاعيّ أو شموليّ ولا من الحكومات
الليبراليّة الحديثة ولا حتى من التي كانت اشتراكيّة ولا من النظام
البرجوازيّ التقليديّ ولا وريثه الرأسماليّ السائد، اليوم.
إنّ المجتمع المدنيّ الأوروبيّ لا يشعر بخطر العبث وهو يمارس
الأنشطة الديمقراطيّة. فهو مطمئنّ إلى أنّ جوهر الممارسة الديمقراطيّة هو
عمليّة الانتخاب. وهي عمليّة مقدّسة لا تُمَسّ. ولم نسمع عن تشكيك في
انتخابات أوروبيّة غربيّة ولم نر مترشّحا سياسيّا أوروبيّا متذمّرا من
الحيف أو من إغلاق منابر التعبير أمامه، مثلا. وإنّما يحظى الجميع بنفس
الحظوظ الدعائيّة وبفضاءات للالتقاء بالجمهور وتقديم المشاريع السياسيّة.
وتقام حتى مناظرات تلفزيونيّة مباشرة بين المترشّحين على غرار التقاليد
الرئاسيّة الأمريكيّة.
والخاسر في الانتخابات لا يعدم البصيرة ورجاحة العقل فيرتدّ
أنانيّا صغيرا باكيا هزيمته في محاولة لتعطيل المسار الديمقراطيّ أو
لاستدرار عطف ما. وحتى إن فعل فلا أحد سيصغي إليه. ثمّ إنّ الممارسة
الانتخابيّة ليست مسألة شخصيّة. يعني الشخص المدنيّ ليس هو الخاسر. وإنّما
مؤسّسة الحزب هي الخاسرة. فأسباب الخسارة لا تكمن في المترشّح ذاته، بل في
إيديولوجيّة الحزب وفي برامجه وفي علاقته بالناخبين وفي مدى اقتناعهم
بجدارته بخدمة مصالحهم. فالرابح أو الخاسر هو (x) مدنيّا، ويمكن أن يستبدل ﺒ
(y) متى انتهى دوره أو متى رأى الحزب ذلك. فهو فرد في خدمة الحزب. وليس
الحزب، وهو مؤسّسة سياسيّة مدنيّة، في خدمة الفرد، بل في خدمة المجتمع
والوطن.
ولذلك يكون الخاسر، في الانتخابات الديمقراطيّة الأوروبيّة، أوّل
المتكلّمين قبل الفائز، أحيانا. فيعترف بالهزيمة ويهنّئ الرابح و شعبه على
الرخاء الديمقراطيّ. ويشكر منخرطي حزبه. ويعلن أنّه يعد بالعمل على تجاوز
نقاط ضعفه. ويدعو منخرطيه إلى ضرورة قبول الهزيمة وإلى وجوب التجاوب مع
الفائز لأنّ الرابحين الأكبرين هما الديمقراطيّة والوطن. وردّة الفعل هذه
تعبير عن ثقة الجميع في الديمقراطيّة وفي نزاهة الانتخابات جوهرِها
والسبيلِ إلى تحقيق التداول على السلطة. فالممارسة الانتخابيّة لا يعدُّها
الأوروبيّون، لاسيّما الخضر، ألهية ولا مصدرا للتمعّش والإثراء باستغلال
النفوذ ولا ذراعا خلفيّة لخدمة الأنظمة القائمة. وإنّما هي سليلة
الديمقراطيّة نفسها. فهي صادرة عن المجتمع المدنيّ وموجّهة لخدمته في الآن
نفسه.
وهذا ما حصل مع الأحزاب الإيكولوجيّة الأوروبيّة. فلقد بنت أساسا
نظريّا علميّا. ثمّ نشأت لها قاعدة جماهيريّة متفاعلة مع نضالاتها
الميدانيّة لحماية البيئة من التلويث ولفضح الملوّثين ولتوعية الناس بما
يهدّد حياتهم وحياة أولادهم وأحفادهم، إن بقي لهم زمن يحيونه!!، من مخاطر
بيئيّة سببها الجشع الرأسماليّ والهوس بالتسلّح.
ولكن من المفارقات أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة، وهي أكبر
دولة ملوّثة للبيئة في العالم، وتملك من الأسلحة النوويّة ما يكفي لتدمير
العالم ثلاث مرّات (يا للسخرية؛ فإن دمّرته مرّة متى ستعود لتدميره
ثانية!!؟)، لم ينشأ فيها نشاط سياسيّ إيكولوجيّ معارض. وهي حالة استثنائيّة
تحتاج إلى نظر مخصوص. عدا المثال الأمريكيّ الغريب، غامرت الأحزاب
الإيكولوجيّة وخاضت المعارك الانتخابيّة. فنجحت، حينا، وبلغت سدّة البرلمان
حيث تشرع في خوض المعركة الحقيقيّة من أجل أن تحيا الحياة. ونفذت حتى إلى
البرلمان الأوروبيّ. وفشلت، حينا آخر، فعادت إلى العمل السياسيّ القاعديّ
من جديد، دون أن تتوقّف عن النشاطين العلميّ المخبريّ والنضاليّ الميدانيّ،
كما هو شأن الخضر الإنجليز.
خصوصيّة "الديمقراطيّات" العربيّة!!: وقبل خوض غمار الفوضى العربيّة، وجب التذكير بالفهم العربيّ
الرسميّ للديمقراطيّة. ومنهجيّا، نشير إلى أنّنا اخترنا أن يكون هذا العنصر
وصفيّا خاليا من التحليل والتأويل لأنّنا سنحتاج إلى ممارستهما في العنصر
الموالي من هذا المقال.
جميعنا يعرف ما روّجت له الأنظمة والحكومات المركزيّة العربيّة من
تخريجات دافعت بها عمّا اتّهمت به من استبداد وشموليّة وإلغاء للفعل الحرّ
السياسيّ والإعلاميّ والثقافيّ والنقابيّ. وجوهر هذه التخريجات مردّه إلى
مقولة "الخصوصيّة الديمقراطيّة". فكلّ نظام عربيّ، ملكيّ مورّث أو جمهوريّ
"منتخب" (!!) أو منصَّب أو عسكريّ انقلابيّ، يرى نفسه نظاما ديمقراطيّا.
ولكنّ ديمقراطيّته ليست بالضرورة مطابقة للديمقراطيّة الأوروبيّة ولا
للديمقراطيّة الأمريكيّة. ولكنّها ببساطة ديمقراطيّة مخصوصة تراعي خصوصيّات
الشعوب المحكومة، كما يردّد الحكّام وتردّد أصواتهم البروباغانديّة.
فتنصيب حسني مبارك حاكما لمصر بعد قنص السادات وهو على منصّة
جيشه، منذ ما يقرب من ثلاثين سنة، تمّ اعتباره ممارسة ديمقراطيّة إلى
اليوم. وانقلاب أمير قطر على والده حين كان خارج بلاده عدّ ممارسة
ديمقراطيّة مخصوصة. وقد هلّل الجميع وبارك هذا الانقلاب. ولا أحد عارضه. بل
لا أحد ذكره تقريبا. والانقلابات العسكريّة الموريتانيّة قوبلت باحتجاج
رسميّ وبلامبالاة فعليّة. ثمّ تعامل الجميع مع القائمين بها على أنّهم
حكّام شرعيّون، فيما بعد.
وتدخّلُ العسكر الجزائريّ لإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانيّة في
مطلع تسعينيّات القرن الماضي عُدّ، أيضا، ممارسة ديمقراطيّة الغاية منها
حماية مكتسبات الشعب الجزائريّ الديمقراطيّة وتجنّب الردّة الرجعيّة التي
يلوّح بها أصحاب العمائم واللِّحى. والتغيير السياسيّ الذي عرفته تونس في
ثمانينات القرن الماضي تمّ التعامل معه على أنّه عمليّة دستوريّة قانونيّة
لا ضير فيها لاسيّما أنّها عمليّة ضمنت انتقال السلطة من حاكم إلى آخر بشكل
سلميّ. وخلعُ الملك حسين ولاية العهد عن أخيه لإهدائها ابنَه عدّ ممارسة
ديمقراطيّة. ولا أحد عدّها غير ذلك. واغتيال أبي عمّار، فقط لتنصيب أبي
مازن، عومل على أنّه ممارسة ديمقراطيّة… إلخ والشواهد على خصوصيّة
"الديمقراطيّات" العربيّة كثيرة. وبكلّ بساطة، نستنتج أنّ مظاهر كثيرة
متنوّعة الأسماء تشكّل الفضاء السياسيّ العربيّ. ولا نجد بينها الانتخاب
جوهرَ العمليّة السياسيّة في الفضاء الأوروبيّ، كما رأينا أعلاه.
فهذا وصف حال "الديمقراطيّات" العربيّة، بصيغة الجمع الغريبة في
هذا المقام، لأنّ الديمقراطيّة في أصلها واحدة مفردة، كما رأينا في العنصر
المتّصل بالفضاء السياسيّ الأوروبيّ. وحين انتقلت إلى الفضاء العربيّ صارت
جمعا!! وعلى الباحث أن يجد النظام الذي منه تتشكّل هذه الفوضى حتى يتسنّى
له فهم الغابة العربيّة، إذ وراء كلّ فوضى نظام. وملامح النظام الذي نبحث
عنه مقيمة في عمق طبيعة الأنظمة الحاكمة؛ في كيفيّة نظرتها لممارسة الحكم
ذاتها وفي نظرتها إلى العمليّة الانتخابيّة. وبعد أن نفكّك هذه الشفرة
سنحاول ضبط مكانة الفعل الإيكولوجيّ في الفضاء السياسيّ العربيّ.
مفارقات نشأة الفعل الإيكولوجيّ في الفضاء السياسيّ العربيّ: المجتمع المدنيّ هو مجتمع مؤسّسات لا مجتمع أعراف وقوانين ودساتير
وأنظمة فقط. وهو ليس صفة تطلق بالهوى من قبل أيّ نظام سياسيّ أو حكومة
مركزيّة على المجتمع المحكوم قصد تلميع الصورة في الخارج أو استدرار
التهليل والتصفيق في الداخل، كما هو الحال في الفضاء السياسيّ العربيّ.
فهذه الأنظمة والحكومات أنظمة شيزوفرينيّة إيهاميّة تتوهّم تمدّنها، ثمّ
سرعان ما تصدّق وهمها. فهي تبدأ بإيهام نفسها بما ليس فيها ولا لها. ثمّ
تحلَم أوهامها فتعجبها فتراها آمالا ثمّ تحوّلها واقعا تصدّقه وتروّج له.
وتطلب من الناس أن يهلّلوا لأوهامها!! ولذلك ترى الأنظمة والحكومات
العربيّة في مجتمعاتها مجتمعاتٍ متمدّنة!! وهي فقط التي تراها كذلك!! إذ
حتى شعوبها التي تُحشد بالآلاف للتهليل والتصفيق وتبدو عليها سَكرة الغبطة
أمام كاميرات التصوير لا تصدّق ذلك.
نترك، إذن، ﭭترينة (vitrine une) المجتمع المدنيّ والتمدّن
لنتحدّث في محتوى السلعة التي تبيعها حوانيت الحكم العربيّة، نعني لنوجّه
حديثنا إلى عمق الواقع السياسيّ العربيّ دون دهون ولا زينة ولا تصفيق ولا
تهليل. وهو واقع شديد التعقيد. وتعقّده ناتج، أساسا، عمّا سمّيناه "خصوصيّة
الديمقراطيّات" العربيّة. من ذلك أنّ تأخّر التشكّل الفعليّ للمجتمع
المدنيّ العربيّ، رغم حضوره اﻟﭭترينيّ كما رأينا، له استتباعاته، طبعا.
وأهمّها فقر المشهد السياسيّ العربيّ لأنّه يزدهي في كلّ "ديمقراطيّة"
عربيّة بلون واحد هو لون الحزب الحاكم أو النظام الحاكم (لا فرق بينهما في
الواقع) أو الطائفة الحاكمة أو المذهب الحاكم أو العائلة الحاكمة. ورتابة
المشهد السياسيّ العربيّ وليدة لضعف الثقافة الجماليّة للحكّام. فهم مَن
أسّس نظريّة الواحد.. إنّهم يحبّون الواحد.. مثلما يؤمنون بالواحد.
ولذلك تتّسم "الديمقراطيّات" العربيّة بما يمكن أن نسمّيه
الواحديّة. فالحزب واحد والحاكم واحد. وهذا التشخيص واضح للسلطة الحاكمة
العربيّة كما هو واضح للآخر الغربيّ وللعالم. ووضوحه يزعجها. ولذلك تستنفر
طاقاتها جميعها وأعوانها جميعا للعمل على إخفائه حتى تتمكّن من الجلوس
ﭭترينة المجتمع المدنيّ مبتسمة. ولن يتسنّى لها ذلك إلاّ بالتعدّد وتنويع
المشهد السياسيّ. ولكنّها، هنا، وجدت نفسها واقعة في حبائل إشكاليّة عسيرة؛
الواحديّة والتعدّد معا! ولكن لا شيء يستعصي على "الديمقراطيّات"
العربيّة.
فههنا، يأتي الحديث عن مفهوم المعارضة في "الديمقراطيّات"
العربيّة لأنّ التعدّد لا يكون إلاّ بوجود معارضة في المشهد السياسيّ إلى
جانب السلطة المركزيّة الحاكمة. وهو ما يعني نظريّا أن تتقلّص مركزيّة
السلطة السياسيّة الحاكمة لتسمح لأجسام سياسيّة أخرى بمشاركتها المشهد
ومنافستها على مركزيّته. أمّا على المستوى العمليّ، فإنّ السلطة المركزيّة
مهوسة بواحديّتها. فكيف يتعايش التعدّد مع الواحديّة؟ لا يمكن طبعا،
لاسيّما إذا علمنا أنّ الواحديّة صارت شيزوفرينيا مزمنة لا شفاء منها.
بقي أمام السلطة المركزيّة لتعالج إشكاليّتها الطرحُ المقابل
المتمثّل في الاتّجاه نحو تعديل مفهوم المعارضة بشكل يفقدها معنى المشاركة
والمنافسة دون أن يفقدها وظيفة التعدّديّة السياسيّة التي وجب إحداثها
التزاما بمقرّرات الاستراتيجيا الغربيّة. نستعير مرّة أخرى مفهوم اﻠﭭترينة.
فالمطلوب من المعارضة، داخل الخصوصيّة "الديمقراطيّة" العربيّة، ألاّ
تعارض وألاّ تنافس. بل بالعكس، المطلوب منها أن تخدم الخصوصيّة
الديمقراطيّة وأن تساهم في تثبيت أعمدة السلطة المركزيّة الحاكمة وفي إطالة
حيواتها. يعني ذلك أن تكون ذراعا خلفيّة للسلطة المركزيّة. أي أن تكون
معارضة بالاسم وموالية بالأصل والعمل.
كما أنّ السلطة المركزيّة لا تقبل معارضة فعليّة. فهي لا تراها
مساهمة في تنويع المشهد السياسيّ. وإنّما تنغّص على السلطة المركزيّة
راحتها. وتفسد عليها هناءها بنعمة الحكم. وتشوّش على الرّأي العامّ
استقراره وثقته في حكّامه وفي حكمتهم. ولذلك تلاقي كلّ أشكال التضييق حتى
تسأم المعارضةُ المعارضةَ وتبحث عن نشاط آخر تمارسه أو تتّخذ البكاء
والشكوى من القهر عادة تمارسها. وفي الحالات جميعها يتمّ تجفيف منابعها
الجماهيريّة. وتتقلّص حصّتها في المشهد السياسيّ إلى أدنى نسبة. نستنتج،
إذن، أنّ المعارضة ضرورة في الفضاء الأوروبيّ وإكراه في الفضاء العربيّ.
فهذه ملامح الفضاء السياسيّ الذي يمكن أن يتشكّل فيه النشاط الإيكولوجيّ
باعتباره نشاطا سياسيّا معارضا، إن قدّر له أن يكون يوما.
ولابدّ من التذكير بأنّ الأحزاب الإيكولوجيّة الأوروبيّة قد نشأت
متأخّرة عن الأحزاب اليساريّة والقوميّة والدستوريّة واليمينيّة والمعتدلة
والمتطرّفة وغيرها. وهو وضع مشابه، إلى حدّ ما طبعا، لحال المجتمعات
العربيّة، اليوم. فلقد شهد مغربها، باستثناء ليبيا، ومشرقها، باستثناء دول
الخليج طبعا، نشأة أحزاب معارضة داخل المفهوم العربيّ المخصوص للمعارضة
والتعدّديّة الذي رأيناه، أو خارجه. كما أنّ في هذا الفضاء يتوفّر عاملان
إضافيّان دافعان، نظريّا، إلى نشأة الإيكولوجيا السياسيّة؛ هما البترول
أكبر مستخرَج طبيعيّ مسبّب للاضطرابات المناخيّة، ورأس المال المستنزف
للثروة النفطيّة الطبيعيّة من جهة والمستهلك الأكبر لها من جهة ثانية وأعظم
ملوّث للبيئة من جهة ثالثة. فلِمَ لمْ تنشأ الأحزاب الإيكولوجيّة في
الفضاء السياسيّ العربيّ؟ وإن قدّر لها أن تنشأ؛ ما هي معاركها الحقيقيّة؟
سنحاول، فيما سيأتي، أن نحاور السؤال الأوّل. وسنفرد الثاني بمقال
خاصّ. إنّ مجال السؤال الأوّل بحث في العلل والأسباب. ونحن نعتقد أنّ هذا
البحث لن يستقيم للباحث إذا لم يستعن ببعض المعطيات المستقاة من النظر في
آليّات الحراك الاجتماعيّ. وهذا النظر لن يكون متاحا إلاّ بعد قراءة
سوسيوثقافيّة للمجتمعات العربيّة.
إنّ هذه المجتمعات ليست متجانسة ولا متشابهة. وإنّما سمتها
التعدّد والتنوّع. ونحن قد نخطئ إن عددناها مفردا وخاطبناها بصيغة المفرد.
فالاختلافات بينها بلغت المنتهى على الوجوه كلّها؛ في مستوى طبيعة الأنظمة
الحاكمة، وفي مستوى القوانين والدساتير والأعراف والعادات الاجتماعيّة
والمؤسّسات، وفي مستوى درجة التمدّن أو القبليّة أو البداوة، وفي مستوى
النظرة إلى الغرب والعلاقة معه، وفي مستوى طبيعة الاقتصاد، وفي مستوى
المواكبة للمستجدّات العلميّة والتكنولوجيّة، وفي مستوى الذوق الفنّيّ
والجماليّ، وفي مستوى الإنتاج الأدبيّ والفلسفيّ والفكريّ عموما. فحديثنا
عن مفهوم الأمّة المتجانسة ليس، في رأينا، أكثر من استعارة.
ولكنّنا مع ذلك، يمكن أن نعثر على معيار يساعدنا على تصنيف هذه
المجتمعات. وقد وجدناه؛ إنّه معيار الثروة. فقياسا بهذا المعيار تنقسم
المجتمعات إلى صنفين: واحدة ثريّة وأخرى فقيرة. والمجتمعات الثريّة لم
تكتسب ثراءها من التصنيع، كما هو معروف، وإنّما منحتها الطبيعة بعض كنوزها.
فالثراء والفقر في المجتمعات العربيّة طبيعيّان وليسا مكتسبين. فلا الثريّ
اجتهد ليستحقّ ثراءه. ولا الفقير عمل على الخروج من فقره.
على المستوى السياسيّ، كان التصنيف بمعيار الثروة مجديا. فلقد
أفادنا باستنتاج هامّ مفاده أنّ أغلب المجتمعات الثريّة ظلّت أنظمة الحكم
فيها تقليديّة شموليّة ملكيّة أو أميريّة. أمّا المجتمعات الفقيرة فقد
تغيّرت طبيعة أنظمتها الحاكمة إلى جمهوريّة، نظريّا على الأقلّ، ابتداء من
مطلع النصف الثاني من القرن العشرين في تونس والجزائر، مثلا، وقبل ذلك
بقليل في مصر، على سبيل المثال.
على المستوى الديمقراطيّ كشف هذا التصنيف عن مفارقات مذهلة.
فالصنفان سواءٌ في المسألة الديمقراطيّة. إنّهما متماثلان رغم ما يبدو
بينهما من تعارض. فالديمقراطيّة إمّا موجودة وجودا ﭭترينيّا في المجتمعات
الفقيرة، كما رأينا أعلاه، أو غير موجودة صراحة في المجتمعات الثريّة.
والعلّة في الوجود والعدم تعود إلى "الخصوصيّة الديمقراطيّة". والمعارضة
إمّا أن توجد وجودا ﭭترينيّا أو أن يتمّ التضييق عليها في المجتمعات
الفقيرة أو ألاّ توجد، أصلا، في المجتمعات الثريّة. فلا الثروة حقّقت
الديمقراطيّة. ولا الفقر فعل!! وهو أمر طبيعيّ لأنّ الديمقراطيّة
الأوروبيّة لم تتحقّق بهذا المعيار. وإنّما كانت في أساسها نتاجا لتحوّلات
ثقافيّة واجتماعيّة عاصفة.
نعود، الآن، إلى النظر في آليّات الحراك الاجتماعيّ في الفضاء
السياسيّ العربيّ لنكتشف ضربا آخر من ضروب التماثل بين المجتمعات العربيّة
إضافة إلى ذينك المتّصلين بالديمقراطيّة والمعارضة. فهذه المجتمعات، ذوات
الأنظمة السياسيّة الشموليّة أو الجمهوريّة، المختلفة من حيث الماهية
وطبيعة الحكم وخلفيّته، لم تتنوّع آليّات الحراك الاجتماعيّ فيها. فالذي
يحرّك هذه المجتمعات ليست المؤسّسات ولا المفاهيم المدنيّة كالمجتمع
المدنيّ والمعارضة والحريّة والتعدّديّة. وإنّما الفاعل في هذا الحراك هي
مؤسّسات ومفاهيم تقليديّة كمؤسّسة العائلة ومؤسّسة الزواج ومفهوم الميراث
والملكيّة.
وهذا ما سيقودنا إلى الحديث عن حجم العمل الجمعيّاتي ومداه. فوزن
هذا العمل كبير في المجتمعات الأوروبيّة. وهو يوازي مجهودات الحكومة
المركزيّة في تسيير أمور المجتمع. وهو عمل واع مستقلّ القرار والرّأي. وهو
مسموع ومؤثّر سياسيّا واجتماعيّا. أمّا في المجتمعات العربيّة، فإنّ محلّ
العمل الجمعيّاتي ومداه لا يتعدّيان المنزلة التي رأيناها للديمقراطيّة
والمعارضة. فإنّها تؤدّي في الغالب دورين؛ دور التمسيح على السلطة الحاكمة
ودور اﻠﭭترينة. وبهذا المعنى، فإنّ الجمعيّات تشكّل عبئا على المجتمع
تكلّفه أداءات وضرائب دون أن تقدّم الخدمات الحضاريّة الاجتماعيّة المنتظرة
منها.
لقد رصدنا جانبا من المفارقات الحافّة بنشأة الإيكولوجيا في
الفضاء السياسيّ العربيّ رصدا عرضيّا، وما أكثرها!! فالنشاط الإيكولوجيّ في
أصله نشاط جماهيريّ ميدانيّ نضاليّ ينشأ في مناخ ديمقراطيّ ولم ينشط في
سواه. وهذه العوامل الموضوعيّة غير متوفّرة في الفضاء السياسيّ العربيّ.
فكيف ستنشأ الإيكولوجيا العربيّة؟ وإن كان لها أن تكون فما هو الدور الذي
ستؤدّيه؟