فعلها هذا الأسبوع الرئيس الرابع والأربعون للولايات المتحدة باراك أوباما (الديمقراطي) بما لم يكن في وارد سلفه الديمقراطي الرئيس رقم 35 جون كنيدي بالنسبة لكوبا، وأيضا بما لم يكن في وارد سلف آخر ديمقراطي وهو جيمي كارتر الرئيس رقم 39 بالنسبة لإيران.
لم يكن ما انتهت إليه سياسة الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة أول رئيس أسود هذا الأسبوع مجرد تحقيق ذات للرئيس ولا لمجرد تسديد دين سابق يحرص الحزب الديمقراطي على تسديده لكلا البلدين انتهازا لوجود ممثل له في المكتب البيضاوي على أساس أن الخلاف بين الحزب وممثليه الرئاسيين كان على خلاف عرقي أو فكري أو عقائدي مع كوبا الماركسية وإن اختلف الأمر مع إيران الإسلامية بعكس الحال مع الحزب الجمهوري الذي تداول معه السلطة بين أرقام الرؤساء من 35 إلى 44، فالمفارقة أن بدايات الأزمة مع كلا البلدين كانت على أيدي رؤساء جمهوريين ليتحمل اتخاذ القرار فيها بعد ذلك رؤساء ديمقراطيين، وهذه إحدى صور التداول في وجود أجهزة وتقاليد قائمة ومصالح وسياسات يتغير الرئيس وتبقى للدولة كيانها .. ومع ذلك وبالنسبة للحالة الأمريكية فإن الكيد السياسي بين الحزبين البعيد عن التزوير أو خرق القوانين مثل التجسس على الخصوم السياسيين وارد جدا كما كان في حالة الرئيس رقم 37 ريتشارد نيكسون في فضيحة (ووترجيت) وهي الحادثة التي تجسس فيها الرئيس على منافسه في الحزب الديمقراطي بمساعدة الأجهزة الأمنية الرسمية وتم اكتشافها في 1972م عن طريق صحيفة (واشنطن بوست) وأجبر بعدها على الاستقالة، وقد تكون هناك حوادث أخرى غير مكتشفة ولكن يبقى الكيد السياسي واضحا عندما يلجأ الرئيس في نهاية ولايته الثانية التي لا يحق له التجديد بعدها ليتخذ من القرارات الكبيرة ما يقطع بها الطريق على منافسي حزبه في الانتخابات القادمة على المنصب الرئاسي وما يحققه من منافع شخصية وسياسية على أركانه وقياداته وفي خدمة مصالح البلاد بالطبع وبوجود الأجهزة التي اتضح من تجربة نيكسون أنه يمكن اختراقها فتخرق القانون، وفي حالة هذا الأسبوع مع الرئيس رقم 44 وحزبه الديمقراطي الذي يستعد لانتخابات العام القادم 2016م وبدون خرق للقوانين فورقة المصالح حتى لو كانت لصالح حزبه ما زالت في يده .. وهكذا تجري السياسة وتداول السلطة على أقوى منصب في أقوى دولة على وجه الأرض الآن..!!
أزمة الولايات المتحدة مع كوبا بدأت أحداثها في نياير 1959م بعد استيلاء الثوار الماركسيون بقيادة فيدال كاسترو على السلطة في شبه الجزيرة في عهد الرئيس الجمهوري إيزنهاور وفي أجواء الحرب الباردة وسياسة حافة الهاوية وقيام الاتحاد السوفييتي في عهد جروتشوف بوضع صواريخ على الأرض الكوبية، فكان القرار من الرئيس الأمريكي السابق الجنرال الذي قاد الحلفاء في حرب النازي بغزو كوبا وقامت المخابرات الأمريكية بإعداد مجموعات من المعارضين الكوبيين للحكم الماركسي، وشاء قدر خلفه الرئيس الديمقراطي جون كينيدي أن يبدأ الغزو الذي فشل وفي عهدته في إبريل عام 1961م لتبدأ الأحداث الساخنة بين البلدين والهجرات غير المشروعة والمؤامرات، وأيضا الاتصالات السرية وغير السرية التي مهدت للقاء المشهور في إبريل هذا العام 2015م على هامش قمة الأمريكيتين بين الرئيس أوباما ورئيس كوبا الحالي راؤول كاسترو ووصف الأخير للرئيس الأمريكي بالرئيس النزيه وبدء العد التنازلي لإنهاء القطيعة إلى أن انتهت هذا الأسبوع.
وتشابهت البداية العسكرية مع إيران كما تشابهت مع كوبا، فقد ورث الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر (1977-1981) سلبيات الدعم المطلق لشاه إيران من طرف سلطة الجمهوري جيرالد فورد الذي أكمل المدة الرئاسية الثانية لريتشارد نيكسون وقامت الثورة الإسلامية في 1979م وحدثت أزمة استيلاء الطلاب على السفارة الأمريكية في طهران وقرار إنقاذ موظفيها عسكريا الذي فشل بعد اصطدام الطائرة العسكرية لنقل الجنود بطائرة أخرى بسبب عاصفة رملية مفاجئة في مطار صحراء طبس الإيرانية، واستمرت القطيعة مع إيران مع الحرب الخفية والمعلنة طوال أكثر من خمسة وثلاثين عاما تناوب عليها ثلاثة رؤساء جمهوريين (رونالد ريغان، جورج بوش الأب، وجورج بوش الابن) وبينهما الديمقراطي بيل كلينتون، وبعد اثني عشرة عاما من المفاوضات تلاقت فيها مصالح الولايات المتحدة مع حلفاء كانوا حضورا طوالها بمن فيهم الكيان الصهيوني الذي لم يكن ممثلا في أشخاص يحملون هويته، وتم إغفال مصالح آخرين مثل الدول العربية الذين هم في الأصل كما يقول الشاعر العربي لا يستأذنون وهم حضور فما بالنا وهم غياب.
دوافع العلاقات الدولية في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية لا يختلف عليها الحزبان المتنافسان على الرئاسة طوال تاريخها، وهذا ينطبق على العلاقة مع كل الدول ومنها كوبا وإيران .. وهي الحرص على الهيمنة والسلطة والاستحواذ على كل مقدرات البشر مع مراعاة الكثير من مصالح الحلفاء وخصوصا الأوروبيين، وكل المصالح الخاصة بإسرائيل حتى ولو كان بعضها على حساب بعض المصالح الأمريكية، وما قام به الرئيس أوباما الديمقراطي في نهايات حكمه هو نفس ما كان يقوم به سابقوه، مع اختلاف الأساليب باختلاف صور القضايا والأحداث.
ومع كوبا وإضافة إلى العلاقات التجارية والاقتصادية التي ازدادت مع دول أمريكا الجنوبية بعد تخلص معظمها إلى حد كبير من الفساد الذي أوجدته الانقلابات العسكرية، وتنامي العلاقة مع كوبا التي تقلص فيها أو يكاد يكون قد انتهى تأثير الكرملين أخذ حجم أصوات الأمريكيين ذوي الأصول اللاتينية الذين يشكلون الأغلبية في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة في الاعتبار لتكون في صالح المرشح الديمقراطي القادم كانت هي الفرصة التي لم يكن للحزب الديمقراطي أن يغفلها خصما من المنافس الجمهوري القادم بإرث الرئاسة في العائلة بوش الثالث!!.
ويبقى عامل الإرادة
تتبع حالة الحروب الخفية العسكرية والاقتصادية المعلنة أو غير المعلنة بمباشرة الإدارة الأمريكية نفسها مع كوبا أو بالواسطة أحيانا كحالة البعث العراقي مع إيران رغم الفرق الهائل في التفوق العسكري والسياسي والحشد الدولي، لا يمكن فيها إغفال عامل الإرادة الصلبة التي استمسك بها صانعي القرار في كل من هافانا وطهران في وجه كل أصحاب القرار في واشنطن من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وقدرة النظامين في البلدين في اكتساب دعم شعبيهما والصبر العجيب على تحمل تبعات هذه الحرب رغم الخلاف الواضح بين أهداف وعواقب هذه الحروب .. بين فكر مادي لا يقيم في حساباته غير أهداف دنيوية كما في الفكر الماركسي الذي سيطر على الشعب الكوبي، وفكر عقيدي يربط عمل الدنيا بالآخرة وفق شريعة سماوية كما في إيران دون إغفال قوة الضبط الفاعلة في كلا البلدين .. ثم وهم المهم في تتبع هذه الحالة وبقدر الله وحده سبحانه (رغم التباين في صمود أصحاب القرار في العاصمتين) يأتي تنازل صاحب القرار في واشنطن (وأيضا) رغم اختلاف مساحة التنازل مع كل من هافانا المادية وطهران الإسلامية.
قاعدة قدرية ثابتة تربط عمل الإنسان التقي وغير التقي بالسعي والأخذ بالأسباب وليس بالتواكل والتمني تستعرضها سورة الإسراء في الآيات الكريمة (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا).
إنها إرادة العمل والسعي إليه التي تكتمل بها الأسباب ويبقى قدر الله سبحانه الذي لا يتخلف وعده.