إن أهمية الموضوع المطروح
للنقاش، وهو واقع التعليم الجامعي في الجامعات العربية، لاتتوقف على جانب
واحد من الإشكالات المتعلقة به، لأنه يمس العديد من الجوانب المهمة في
المجتمع، ويشتمل على العديد من المسائل الأساسية المرتبطة بالواقع
الإجتماعي والسياسي والإقتصادي في البلدان العربية. ولابد من التطرق لبعض
هذه الجوانب الموضوعية، لكونها تمس وتخترق موضوع التعليم ككل، وبالتالي
لايمكن تحليل ونقد واستنتاج دقيق بدون النظر للموضوع في إطاره الموضوعي.
في آخر إحصاء عالمي أجرته "جامعة شايو تونغ- شنغهاي الصينية"، حول واقع
الجامعات العالمية: إن من بين 500 جامعة الأولى والأهم في العالم هناك
جامعة عربية واحدة فقط، هي جامعة الملك سعود في المملكة العربية السعودية،
في حين أنّ في إيران جامعة واحدة، بينما هناك سبع جامعات في اسرائيل من ضمن
القائمة المذكورة. هذا وتبين الإحصاءات التي تضمنها بعض التقارير العربية
والعالمية الأخرى أن:
متوسط تخصيص الدول العربية للتعليم بكل مراحله هو 16 إلى 20 % من أصل
الميزانية العامة للدولة. ويترواح الإنفاق، من أصل الدخل الوطني أو القومي
على العملية التعليمية برمتها بين (1.1% إلى 7.4% - كحد أقصى - تونس-)، في
حين تكون حصة التعليم الجامعي والعالي من نفس النسبة (من1 إلى 2%). في
المقابل قد تصل نفس النسبة الى أعلى بكثيرفي الدول الحديثة والعصرية.
فجامعة هارفارد مثلا، يصل دخلها المادي (الوقفي أو الريعي) إلى 37 مليار
دولار سنويا، وهذا الرقم يقل أو يزيد قليلاً عن بعض الميزانيات في الدول
العربية. كما يبلغ تدني الإنفاق على قضايا البحث العلمي إلى (0.01%) من
مجمل الدخل القومي في الدول العربية، في حين أنه يصل إلى 4.7% في اسرائيل
مثلا.
ولذلك أود أن أتناول واقع التعليم الجامعي العربي في مستويين، لاينفصلان
عن بعضهما البعض، من حيث تأثير وتأثرالموضوع بواقع المجتمع العربي ككل.
المستوى الأول: يتعلق بالمؤسسة التعليمية ذاتها، ومستوى المعرفة التي
تقدمه للطالب، وشروط الانتساب، والمنهج المدرس في الجامعات، وطريقة التدريس
ووسائله.
والمستوى الثاني: يشمل واقع التعليم الجامعي، وعلاقته بالمحيط الموضوعي في
كل المجالات، وتأثيرالواقع السياسيـي والإقتصادي والفكري والإجتماعي-
المتردي في معظمه- على واقع التعليم الجامعي، بل يمكن القول على واقع
التعليم في جميع مراحله.
إن أهمية التعليم، كقيمة اجتماعية وفكرية ومادية، من المسائل المهمة
لتوسيع قاعدة التعليم وتطوير نوعيته. ولكن السؤال هنا: هل ما نتعلمه يساهم
في تحفيز المجتمع لتبني أولية التعليم؟ وهل الحصيلة العلمية والمعرفية
تتناسب مع جهد الدراسة خلال سنوات التعليم؟ وهل حقق التعليم الجامعي أهدافه
من حيث مساهمته في عملية التغيير الاجتماعي ككل، ومن حيث رفع الدرجة
المعرفية والعلمية، مقارنة مع نظيره بالعالم من جهة، ومع الإمكانات المتاحة
من جهة أخرى؟
إن الأرقام التي تؤكدها الإحصاءات تقول: إنه تم تحويل الجامعة العربية الى
مؤسسة تدريس نمطية وليس إلى مؤسسة تعليمية توفر المعرفة اللازمة لمواجهة
تحديات العلم المعاصرة، من خلال اتباع الشكل التقليدي للمناهج، الذي لايزال
متدني المستوى في نوع المعرفة المقدمة، والوسائل التقليدية المعتمدة في
طريقة التعليم، والاختبارات والتقييم وحتى الإنتساب. إن الاعتماد على
الوسيلة الحفظية، كوسيلة وحيدة للتعلم، وعدم الاهتمام بالوسائل البصرية
والسمعية والتكنولوجية الحديثة، وغياب تفاعل الطلاب، من خلال المشاركة
الواسعة، والنقاش والنقد، وتوفير متطلبات استفزاز الروح الإبداعية لدى
الطلبة، أدى إلى تحويل معظم عملية التعليم، إلى واجب حفظي (لكمّ) من
المعلومات، تسمح للطلاب بتجاوز سنوات الدراسة، والحصول على الشهادة
الجامعية لا أكثر، وأدى إلى اكتفاء جزء كبير من جمهور المدرسين، في جمع
كمية من المعلومات وإعطائها للطالب كيفما كان، وأيضا بطريقة لاتتوافق مع
مستوى التعليم الحديث. فالمحاضرات الجامعية في الكثير من الجامعات العربية
(الخاص والعام) تطبع وتنسخ وتكتب بطريقة عشوائية في كثير من الأحيان، وتوزع
للطلاب في المكتبات (التجارية) بدون رقابة ومسؤولية، مما أضر بمستوى
التعليم الجامعي عموما. هذا عدا عن عدم توحيد المنهج التعليمي لكل مادة،
فكل دورة فصلية مختلفة عن ما قبلها ومابعدها - كمّاً ونوعاً- بحسب طريقة
الأستاذ المحاضر، أو فن الطالب المكلف بتدوين المحاضرة الشفهية للدكتور،
بحيث أصبحنا نتكلم عن نمطية متخلفة في المجال التعليمي، وليس عن عملية
تعليمية بنّاءة تطوّر المستوى المعرفي للطلاب، وتدفع لإنتاج جيل متعلم
يتصدر جمهورعملية التغيير والتطويرالإجتماعي.
يضاف إلى ذلك غياب القوانيين الجامعية الضابطة سواء للمعلم أوالمتعلم،
كضرورة وجود أبحاث دورية لكل أستاذ جامعي كشرط من شروط التعيين، وإنشاء
مجلات مختصة، تخضع لنظام التعليم الجامعي، تسمح بنشر تقارير ودراسات دورية،
مما يتيح استثمار القيمة المعرفية أكثر، ويساهم في عملية حراك معرفي. كل
ذلك عمل على تحويل مهنة الدكتور الجامعي إلى شبه عمل إداري لا أكثر، وجعل
الطالب آلة حفظية لجمع المعلومات، التي تنقل في الامتحان المقرر وتنتهي
العملية التعليمية.
وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة البحث العلمي المتطور، كجزء مهم من عملية
التعليم الجامعي والعالي، فكل الجامعات المعروفة في العالم تولي البحث
العلمي أهمية كبيرة وضرورية في عملية التعليم ككل. هذه الأبحاث ذات مستوى
متطور وخاصة في المجال العلمي، وتنشرنتائجها بشكل دوري، وقد ساهمت في
اكتشاف الكثير من القوانين والتفسيرات العلمية الحديثة. إن الكثير من
جامعاتنا تفتقر لهذا النوع المخبري البحثي، وهذا مرتبط بفقرها إلى الكثير
من اختصاصات التعليم العالي، سواءً في الجهاز التدريسي أو البنى التحتية من
مخابر ومراكز أبحاث.
كل هذا لاينفي حقيقة مساهمة العديد من الجامعات العربية في تخريج طلاب
أصبحوا علماء وباحثين وأساتذة متميزين، سواء عربيا أو عالميا. ولكن هذا
لايكفي بالنظر للمشاكل التي تعاني منها العملية التعليمية ككل، وخاصة
التعليم الجامعي والعالي، ومقارنتها بمثيلاتها الأكثر تطورا في المستوى
العلمي والمعرفي. إن عملية المقارنة الإحصائية التي نطرحها هي أحد أدوات
معرفة وتحليل ونقد الواقع التعليمي الجامعي. فمعرفة الآخرمن خلال المقارنة
المشروطة، تتيح توسيع معرفة الذات وموقعها، كجزء من عملية التحول المطلوبة
لواقع عصري يحقق الحاجات والمتطلبات المتنامية للمجتمع والفرد.
في الظرف الموضوعي:
في المستوى الآخر الذي يتعلق بارتباط التعليم بالظرف الموضوعي المحيط، نرى
أن التعليم في الدولة العربية اتسع أفقيا في السنوات الماضية، سواء توسعه
نحو قطاعات أكبر من قطاعات المجتمع، أو التوسع إلى المناطق الريفية
والهامشية والفقيرة، رغم أنه لم يصل إلى الحد المطلوب بعد. فتقرير اليونسكو
لعام 2009 يؤكد أن عدد الكبار المصنفين في فئة الأميين بين سكان المنطقة
العربية 58 مليون نسمة، وهناك حوالي 8 ملايين طفل لايتاح لهم الإلتحاق
بالمدرسة. ويجب الإشارة إلى أن هذا التوسع جاء في معظمه من التطور التلقائي
والآلي الذي يفرضه المجتمع، وليس من خلال فعل مقصود وممنهج طويل الآمد،
يؤمن بأهمية وأولوية العملية التعليمية على أي شيء آخر. إن هذا التوسع
الأفقي المتواضع لم يوازِه تطور عامودي، يمَس نوعية التعليم المقدم في
الجامعات العربية عموما، الذي لم يصل بعد للمستوى العالمي، سواء من حيث
الإمكانات المتاحة، أو من حيث المنافسة مع الجامعات المتقدمة، أو من حيث
الحاجة الماسة لتطوير نوعية التعليم. وهذا ما تؤكده كل الإحصاءات، كما
يؤكده الواقع المأزوم للتعليم ككل، والجامعي على وجه الخصوص.
الدولة:
في الحديث عن دور الدولة، وأهمية الدورالذي تلعبه في تطويرالتعليم، الذي
يتضمن نشر التعليم لكافة قطاعات المجتمع، ووصوله إلى المناطق الريفية
والنائية، والموازنة بين الجنسين في عملية الإلتحاق والقبول، وتحسين نوعية
التعليم، والاهتمام بالبحث العلمي، الذي لاينحصر فقط في الجامعات، بل في
مؤسسات مستقلة متخصصة، أو في مؤسسات تابعة لوزارات الدولة نفسها، تحقق
إشباع حاجات الدولة والمجتمع للثروة البشرية الخبيرة، والأبحاث التي تساهم
في عملية التنمية الشاملة في كل القطاعات، ناهيك عن ضرورة وجود الأبحاث
المرتبطة بحاجات السوق. وهذا ما لا تقوم به الدولة العربية، رغم أنه قد
تختلف النسب كثيرا بين دولة وآخرى. بل على العكس، عملت بعض الدول من خلال
بعض الممارسات، على وضع العراقيل في وجه تطوير التعليم الجامعي والعالي،
كفرض شروط الولاءات السياسية لعملية القبول الجامعي، والقبول الوظيفي،
وإيصال الفساد المؤسساتي والحكومي إلى قطاع التعليم الجامعي، والتي تعد من
أعلى النسب في العالم. إن عدم إعتماد معايير موضوعية في القبول الجامعي
والوظيفي، للطلاب الجامعيين من جهة، وللجهاز التعليمي والإداري من جهة
أخرى، أدى ومايزال إلى نتائج خطيرة، وأنتج ظواهر سلبية وقد تكون كارثية.
تشير الإحصاءات إلى ارتفاع نسبة البطالة بين الخريجين الجامعيين العرب
لتصل (من 11% إلى30%)، بينما هي (3%) في دول التعاون والتنمية الإقتصادية.
وهذا يعني أن الطالب الجامعي العربي، يدفع ضريبة التحاقه بالجامعة بانخفاض
فرصته في العمل، وهو واقع مقلوب مقارنة مع نظيره في الدول المتقدمة، ومع ما
يجب أن يكون.
لقد ساهمت كثير من الجامعات في الدول العربية والعالم، في عملية التنوير
الاجتماعي، وتقليص التمايز الطبقي والإجتماعي والجنساني، ونحن نلحظ أن هذا
الدور يأخذ بالإنحسار نتيجة المشاكل التي يعاني منها المجتمع عموما،
والتعليم الجامعي بشكل خاص. فمثلا نجد أن معظم المدارس والجامعات في الكويت
- حتى الخاصة- قد تم الفصل بين الإناث والذكور فيها بعد أن كانت مختلطة،
وهو مؤشر سلبي يدل على تنامي الفكر السلفي والمتطرف، الذي سيؤدي إلى انحسار
الدور التنويري المفترض أن تلعبه الجامعات، ويضيف مشكلة أخرى تواجه
التعليم الجامعي.
الجامعات الخاصة:
شكَل افتتاح العديد من الجامعات الخاصة في الدول العربية فرصاً جديدة تتيح
لبعض الطلبة إكمال تعليمهم، وخاصة لهؤلاء الذين لم يتمكنوا من الإلتحاق
بالجامعات الحكومية، خاصة مع بعض العوائق المفروضة للإلتحاق بالتعليم
الجامعي العام، وأعطت الأمل بالحصول على تعليم نوعي متميز، بالرغم من
التكلفة العالية التي يتحملها الطالب، حيث يحتاج إلى مبالغ مالية كبيرة،
مقارنة مع دخل الفرد في بعض الدول العربية، ففي الأردن مثلا، ينفق الطالب
98 % من دخل الفرد العام لإنهاء تعليمه الجامعي فقط. والسؤال هنا: هل
استطاع التعليم الجامعي الخاص تقديم تعليم ذي مستوى معرفي متميز؟ وهل ساهمت
الجامعات الخاصة في فتح آفاق جديدة لعملية التنمية ككل؟
إن ما لم نستطع إدراكه حتى الآن أن قطاع التعليم لايمكن أن يكون قطاعاً
ربحياً، يشبه الشركات التجارية والبزنس، وعملية تحويل التعليم في الجامعات
الخاصة إلى نشاط ربحي، يهدف إلى جني المال بالدرجة الأولى، مع العوامل
سالفة الذكر، عملت على تحويل عملية التعليم الجامعي إلى عملية ربحية
واستثمار اقتصادي بحت، لا يكترث بأساسيات ودور التعليم، في بناء بنية تحتية
بشرية، وصنع طاقات وقيادات اجتماعية، قادرة على المساهمة الإجتماعية
الفاعلة، بالرغم من الدور المهم -المفترض- الذي قد تساهم فيه الجامعات
الخاصة، شأنها في ذلك شأن الجامعات الحكومية. والذي لن يتم بالضرورة إلا
بإخضاع التعليم ككل (الخاص والعام)، إلى مشروع وطني عام تحت إشراف الدولة
العصرية، المؤمنة بأهمية التعليم كأساس مهم وضروري في عملية البناء
والتنمية، ووجود مجلس أعلى للتعليم العالي يضع شروط لمستوى التعليم وافتتاح
الجامعات، وضرورة استثمار جزء من ربحيتها في مشاريع البحث العلمي، وافتتاح
الفروع الجامعية التي تتناسب مع حاجة سوق العمل وخطط الدولة - إن وجدت -.
فالتعليم الجامعي المفتوح في سورية (الخاص) على سبيل المثال لا الحصر،
يمتلك عدداً قليلاً من الاختصاصات لا يتجاوز بعض الكليات، وبمستوى تعليمي
أقل من المطلوب. يبلغ عدد الطلاب المسجلين فيه (حوالي 60 ألف طالب)، (مع
العلم أن كلفة المادة الواحدة 3000 ليرة، وبمعدل عشرة مواد لكل سنه
دراسية). مما يعني ما يقارب الملياري ليرة سورية سنويا من الأقساط الجامعية
فقط، التي لا يستثمر منها شيء يذكرفي عملية تطوير نوعية التعليم، أو حتى
قضايا البحث العلمي. وهي جامعات قد لا تجد لها مكان حتى في الـ 5000 جامعة
الأولى في العالم.
هنا لابد من التأكيد على أنه حتى في الدول الرأسمالية التي تعتمد بشكل
أساسي على القطاع الخاص، وتتبنى سياسات اقتصادية ليبرالية، لايزال التعليم
الجامعي والعالي تحت إشراف ودعم الدولة، مضافا إليه طبعا مساهمات الأفراد
والمؤسسات المدنية والجمعيات الأهلية (الريعية)، ووفق شروط معينة. والأهم
هو بقاء التعليم كقطاع لايمكن العبث به، شأنه في ذلك شأن قطاع الصحة
والقضاء.
خلاصة:
كل الإحصاءات السابقة وغيرها، تدق نواقيس الخطر، حول حجم الخراب في
العملية التعليمية، وتزيد من أهمية الحاجة إلى زيادة رأس المال المستثمَر
في التعليم الجامعي والعالي، وهذا لا يعني البتة تحويل الجامعة إلى شركة
تجارية، تعطي الأولوية للربح المادي الصرف، الذي سيؤدي بالتعليم الجامعي
للابتعاد عن أهدافه الأساسية في إنتاج بنية بشرية مسلحة بالعلم والمعرفة
تقود عملية البناء، وتساهم في خلق جيل يؤمن بالعلم كوسيلة لأنسنة الواقع،
والمساهمة الفعالة في جسر الهوة الطبقية بين فئات المجتمع ككل. كما أن
استمرار وصول يد الخراب - وهي مسؤولية الجميع - إلى مؤسسات التعليم الجامعي
والعالي سيزيد من الفجوة بيننا وبين شروط المعاصرة والعلم الحديث، من خلال
إنتاج أجيال من المتعلمين الأميين..