03 يناير 2014 بقلم
عبد النبي الحري قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:لقد نسي المغاربة فعلا ابن رشد، لكن ابن رشد المعجب بأرسطو، المقلد لعلمه الإلهي، واستحضروا الصورة التي كان يحب أن يظهر بها للعامة، والتي نجدها في كتابيه
بداية المجتهد ونهاية المقتصد، و
مناهج الأدلة في عقائد الملة[1].لقد بعث المغاربة، يقول عبد المجيد الصغير، ابن رشد
"من قبره فقيها سنيا، بل سلفيا يكره الفلسفة، ويبتعد عن كل تأمل ميتافيزيقي، ولا يبحث إلا "عما تحته عمل"، كما قال الإمام مالك!
".
[sup][2][/sup]يتعلق الأمر بمغاربة القرن التاسع عشر الميلادي، في عهد السلطان محمد بن عبد الله الذي عاد مجددا إلى إحداث ذلك الانقلاب السلفي الذي بدأ مع المنصور الموحدي ضدا على كل المذاهب الكلامية والفلسفية، والذي تأثر به المغاربة فيما بعد، رغبة في القضاء على أسباب الفرقة والخلاف، حيث لعبت كتب ابن رشد "السلفية" دورا رياديا في هذا المجال.
[sup][3][/sup]وفي هذا النطاق، يستغرب الصغير تمسك ابن عجيبة بتكفير ابن سينا، ويرفع التهمة عن ابن رشد، على الرغم من أن هذا الأخير انتقد الأول بشدة، لأنه خرج عن أرسطوطاليس الذي يعتبر بالنسبة للمسلمين زعيم الكافرين والضالين. وذلك يدل على أن مغاربة ذلك القرن قد أماتوا ابن رشد الفيلسوف، أو لم يعرفوه وأحيوا فيه الفقيه والقاضي السني السلفي
[sup][4][/sup].
إن هذا الحضور السلفي لابن رشد لم يقف عند حدود المغرب الأقصى، بل تجاوزه إلى الشرق الأدنى
[5]، حيث عثر الأستاذ الصغير على مواقف "رشدية" عند زعيم الدعوة السلفية تقي الدين بن تيمية
[sup][6][/sup]، تتمثل في عدد من نقط التشابه والتقاطع بين الرجلين.
لقد اعتقد ابن تيمية، كما اعتقد ابن رشد قبله، أن صريح المعقول موافق لصريح المنقول، متخذا من هذا المبدإ منهجا لمشروعه العلمي على غرار ما فعله سلفه فيلسوف الغرب الإسلامي
[sup][7][/sup]، منتقدا مثله فلاسفة المشرق الإسلامي من جهة خروجهم على الأصول الأرسطية، وأخذهم بأصول فلسفية مشرقية، "ربما كان ابن تيمية، بحكم بيئته، أكثر دراية بها من ابن رشد".
[sup][8][/sup]كما يذهب الأستاذ الصغير إلى أن نقد ابن تيمية لعلم الكلام "فيه إغناء كبير للنقد الرشدي للأشعرية، وقد توسع ابن تيمية، بعد ابن رشد، في نقد شخصية الغزالي، كما أنه عمم نقده على كل المتكلمين وضمنهم المعتزلة الذين يعترف ابن رشد أن بضاعته من مذهبهم كانت مزجاة... .
[sup][9][/sup]لقد انتقد ابن تيمية طريقة علماء الكلام في القياس، معتبرا أنهم في مناظرتهم للفلاسفة في مسائل الخلق والحدوث وإثبات الصانع، قد توسلوا بآليات فاسدة وحائدة عن الشرع والعقل، مؤكدا على أهمية دليل العناية لبساطته، عكس دليل الحدوث الكلامي.
[sup][10][/sup]تلك إذن هي أهم مظاهر التقارب والتشابه، التي يرصدها الصغير، بين ابن رشد وابن تيمية، سواء في نقدهما علم الكلام الأشعري أو في موقفهما من أبي حامد الغزالي، أو في رفضهما الفكر السينوي". ومن الملفت للنظر، يقول الصغير، إن ابن تيمية يقول عن ابن رشد أنه أقرب فلاسفة الإسلام إلى الإسلام، في نفس الوقت الذي يدرك فيه أنه أقربهم إلى أرسطو؛ "فالأقرب إلى الإسلام هو أيضا الأقرب إلى أرسطو. ولعل هذا أقصى ما كان يود ابن رشد أن يسمعه عن نفسه!".
[sup][11][/sup]وإذا كان الصغير قد ركز على تشابه المشروع النقدي الرشدي بالمشروع النقدي التيمي، فإن عبد العزيز العماري قد ركز على تباينهما واختلافهما: فالمشروع النقدي الرشدي رام تقويم وإعادة بناء القول الحكمي الفلسفي على أسس القول البرهاني، بينما سعى المشروع النقدي عند ابن تيمية إلى نقض هذا الإصلاح بالعمل على هدم القول الفلسفي البرهاني من خلال هدم ودك أسسه وأركانه المنطقية
[sup][12][/sup].
تلك إذن، هي المعالم الرئيسة للصورة التي رسمها عبد المجيد الصغير لفيلسوف قرطبة، وتتمثل مشاهدها الأساسية في اعتبار المحنة التي تعرض لها ابن رشد مجرد حادث عرضي في مساره الفكري، وليست هي السبب الرئيس في انحسار الفلسفة في العالم الإسلامي؛ ففضلا على أن هذا التراجع كان عاما بالنسبة لكل العلوم والمعارف، وأن تداول الفكر الإسلامي استمر في الشرق الإسلامي، رغم ما قيل عن مهاجمة الغزالي للفكر الفلسفي، فإن الأستاذ الصغير يحمل ابن رشد نفسه مسؤولية أفول نجمه في بلاد الغرب الإسلامي، نظرا لما تضمنه متنه من عناصر "لا عقلية" و"لا شرعية"؛ لكنه يستدرك أن هذا الغياب لم يكن كليا، إذ سرعان ما انبعث "الوجه السلفي" من متنه، ممثلا في كتابي "مناهج الأدلة" و"بداية المجتهد"، عند ابن تيمية في المشرق الإسلامي ومغاربة القرن التاسع عشر الميلادي.
لكن وعلى الطرف النقيض من هذه القراءة، يقف عزيز حدادي محاولا تحميل حدث "المحنة" الذي تعرض له ابن رشد، كامل المسؤولية عما لاقته الفلسفة الرشدية من إهمال وما عانته من نسيان
[sup][13][/sup]، مستشهدا بما اعتبره شهادة "معبرة ومشرقة"
[sup][14][/sup] للمستشرق دي بور، تقول إن قدر الفلسفة الإسلامية أن تبلغ أوج فهمها لأرسطو مع ابن رشد، ثم "تفنى بعد بلوغ هذه الغاية"
[sup][15][/sup]. ومن دون أن يعطي الكاتب أدنى اهتمام لما تحمله عبارات دي بور من سخرية وتهكم، يواصل حديثه عن نسيان ابن رشد الذي اعتبره "نسيانا لوجودنا"
[sup][16][/sup]، ولما "يشكل قوام هويتنا"
[sup][17][/sup]، قائلا مع هنري كوربان أن تشييع جثمانه كان في الوقت ذاته تشييعا لجنازة الفلسفة في العالم العربي.
[sup][18][/sup] بالرغم من محاولة حدادي الاستفادة، ومن دون أن يصرح بذلك، من الدراسات التي قام بها محمد المصباحي للأثر الأرسطي في المتن السياسي الرشدي،
[sup][19][/sup] ومن قراءة جمال الدين العلوي لتطور المشروع الرشدي، وما آل إليه من انعطاف في أواخر حياته نحو شرح الكتب الطبية لجالينوس
[sup][20][/sup]، فإنه ظل أسيرا لأطروحة الجابري التي فسرت غياب ابن رشد تفسيرا سياسيا يرتبط بما تضمنه شرحه لسياسة أفلاطون من نقد للواقع السياسي العربي في عصره، ودفاعه عن سياسة عقلانية متنورة.
وحاصل القول، إذن، هو أن الدراسات الرشدية لم ترسم صورة واحدة لأفول نجم الرشدية من الفضاء الفكري الإسلامي، فقد توزعت بين موقفين متعارضين؛ أحدهما يعتبر أن غياب الرشدية يعود إلى عوامل ذاتية، ترتبط بعيوب منهجية وقعت فيها الفلسفة الرشدية، وثانيهما، يفسر غياب الرشدية بالمحنة التي كابدها في أواخر حياته بسبب أفكاره السياسية التي تضمنها شرحه لكتاب سياسة أفلاطون.
[1]- يرسم العلمي أحمد صورة تكاد تتطابق مع هذه الصورة السلفية المحافظة التي يرسمها الصغير لابن رشد، من خلال اعتباره المقاربة الرشدية لمسألة الصفات الإلهية تقترب من المقاربة السلفية الحنبلية، حيث يدحض أبو الوليد نظريات كل من جهم بن صفوان والمعتزلة والأشاعرة، في الصفات، وينتصر للموقف الذي يعطي الأسبقية للنص القرآني في معالجة مشكل الصفات الإلهية. (انظر: