تتأسس اليهودية –كدين- على تراثين:
* "الكتاب المقدس" أو ما يعرف بـ"التناخ" وهو يضمّ أسفار موسى
الخمسة(التوراة): سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد،
وسفر التثنية؛ مع أسفار الأنبياء كبارا وصغارا؛ والأسفار التاريخية، وأسفار
الحكمة الشعرية.
* التلمود: يضمّ جماع التقليد الشفويّ العقائديّ والتشريعيّ العبرانيّ
كما تمّ جمعه وتدوينه بين القرن الثالث والقرنين الخامس /السادس
الميلاديين. ويتكوّن التلمود من المشناه (المتن) والجمارة (التفسير).
وكدين توحيديّ خالص يدّعي قيامه على أساس علاقة خاصّة مع
الربّ (يهوه)، تستند إلى قاعدة "العهد" و"الشعب المختار"، فقد طرحت منذ
القديم مسألة مجابهة "الحكمة" اليونانية البارزة – من جهة- ومنافسة
الديانتين التوحيديتين: المسيحية والإسلام- من جهة أخرى.
المسألة الأولى تبلورت بشكل أوّليّ مع فيلون السكندري (حوالي
12ق.م-54ميلادية) الذي يُعدُّ، رغم حضوره الباهت في تاريخ الفلسفة
اليهودية، أوّل من أنجز "تركيبة" خالصة بين المعتقد اليهوديّ و"حكمة"
الرواقيين أساسا. إضافة إلى فكرته الهامّة المتمثّلة في ضرورة وضع الفلسفة
في خدمة الدين.
أمّا علاقة اليهودية بالإسلام خاصة (وسنقتصر عليها هنا)، فهي
أدقّ وأكثر تعقيدا وأعمق، إلى حدّ أنه صدر في سنة 1857كتاب لسالومون مونك
بهذا العنوان بالغ الدلالة: اختلاط الفلسفة اليهودية والعربية.
فمن جهة،عاش اليهود كذمّيين في كنف الدولة الإسلامية (وقد
تمكّن بعضهم من شغل مناصب رفيعة وحساسة في أجهزة هذه الدولة)، ومن جهة
أخرى- وهذا هو الذي يهمّنا هنا- فلقد تأثّروا كنخبة فكرية ودينية بـ"مناخ"
الحضارة العربية- الإسلامية الفكريّ والثقافيّ إلى حدّ ليس فقط تبنّيهم
اللغة العربية وسيلة للكتابة والتعبير، ولكن تغلغل إشكالات وقضايا علم
الكلام والفلسفة الإسلاميين في قلب ما يمكن أن ندعوه بعلم كلام وفلسفة
يهوديين.
فهذا سعديا بن غاون (882-942) يؤلّف سفرا بعنوان " كتاب
الأمانات والاعتقادات" يعتبر أوّل نصّ كلاميّ/فلسفيّ يهوديّ يبرز فيه
جلّيا تأثير المعتزلة وإخوان الصفا.
وبتأثير بالغ من أبي حامد الغزالي كتب يهوذا هاليفي
(1075-1141) كتاب الحجّة والدليل في نصر الدين الذليل، أو كتاب الخزري،
يدافع فيه عن "نصية" الدين مقابل "مقاصد الفلاسفة" (وهذا عنوان كتاب شهير
للغزالي).
لكنّ التأثير الحقيقيّ والبالغ للفلسفة العربية الإسلامية في
الفكر العبراني اليهودي فهو – دون جدال- لأبي الوليد ابن رشد، من خلال
شخصية موسى بن ميمون ونصوص من يمكن نعتهم صراحة بـ"الرشديين اليهود".
- موسى بن ميمون (1138-1204): عالم دين وقاض وطبيب وفيلسوف ومفخرة يهودية وإنسانية بامتياز. ولد- مثل ابن رشد- في قرطبة من أسرة مجد دينيّ وعلميّ،
وتعلّم وتثقّف ونهل مثل أبناء جيله من معين الثقافة العربية الإسلامية
المهيمنة التي كانت قرطبة آنذاك – بمعنى من المعاني- مركز "أنوارها". وتحت
ضغط القلاقل السياسية (سيطرة الحكام المسلمين الجدد [الموحّدين] على قرطبة
وعدم تسامحهم الظاهر مع اليهود)، دفع عائلة ابن ميمون – مثل آخرين- إلى
الفرار والهجرة. فكانت الإقامة في فاس من 1160إلى 1165. وهناك، في جامعة
القرويين العريقة، عمق ابن ميمون تعليمه وتكوينه في الطبّ وعموم المعرفة
العربية الإسلامية المزدهرة وقتذاك. وعليه، فابن ميمون هو نتاج خالص لهذه
المعرفة رغم يهوديته الأصلية والمتأصلة.
وفي فاس بدأ ابن ميمون وضع مصنّفاته الرئيسة التي لن تكتمل
إلا في القاهرة - حيث هاجر وأقام معزّزا مكرّما كطبيب وعالم دين وفيلسوف
يهوديّ في كنف السلطان صلاح الدين الأيوبي ووزيره "الفاضل" وابن السلطان
لاحقا- ولقد اكتملت مصنّفات ابن ميمون بكتاب دلالة الحائرين الذي انتهى منه
عشر سنوات قبل موته.
لقد بدأ ابن ميمون بوضع رسالة في المنطق بعنوان: بحث في
مفاهيم المنطق تكشف عن استيعابه المبكر للمنطق الأرسطي الذي تعلّمه على
أيدي أساتذته المسلمين. ثمّ جاءت المصنّفات "التقليدية" التي بوّأت ابن
ميمون مكانة الريادة و"التجديد" في دراسة وتدريس التوراة والتلمود (السراج،
مشناه التوراة، كتاب الأحكام).
ويبقى كتاب دلالة الحائرين الإنجاز الفكري/الفلسفي الأبرز لموسى بن ميمون.
لقد كتب ابن ميمون"دلالة الحائرين" بالعربية مستعملا الأحرف العبرية بين
1186 و1190. وترجم الكتاب كاملا إلى العبرية من قبل صموئيل بن طبون سنة
1204. وأنجز محمد التبريزي- وهو من علماء القرن الثالث عشر المرموقين- شرحا
ضافيا لفصول من الجزء الثاني من دلالة الحائرين.[الترجمة" العربية الكاملة
والمحققة تحقيقا علميا لم تتم إلا حديثا ونشرت كالتالي: دلالة الحائرين،
تأليف الحكيم الفيلسوف موسى بن ميمون القرطبي الأندلسي- عارضه بأصوله
العربية والعبرية وترجم النصوص التي أوردها المؤلف بنصها العبري إلى
العربية وقدم له الدكتور حسين آتاي، مكتبة الثقافة الدينية. وهي الترجمة
التي نعتمد عليها].
وعرف الكتاب بترجمة لاتينية في أوروبا. وعليه، تحوّل الكتاب إلى بؤرة
للمعارضة الجذرية والقبول الحذر[نشير في هذا الصدد إلى واقعتين: جمع وحرق
كلّ مصنفات ابن ميمون علنا في الساحة العمومية سنة 1223، في مونبلييه في
جنوب فرنسا، و"فتوى" الربّي راشبا (1235-1310) بمنع تدريس الفلسفة بالنسبة
لمن يقل عمرهم عن ثلاثين سنة.]
وفي الواقع، فإنّ نمطا جديدا في "قراءة" النصوص الدينية
(التأويل العقلي والمجازي)، وتقرير العلاقة بين العقل والإيمان
("اتّصالهما" وليس "انفصالهما" على غرار ما يقرّره ابن رشد)، هو ما يعيد
إنتاجه وإقراره ابن ميمون من داخل سياق مختلف. وعليه، نتكلّم هنا عن "رشدية
يهودية " ليس بمعنى تتلمذ ابن ميمون وتبعيته المباشرة لابن رشد، ولكن
بمعنى تبلور سياق وإطار عامّين للفكر والتفكير وقتئذ برزت نصوص ابن رشد
باعتبارها الصيغة الرائدة والتامّة لهما، وابن ميمون يعترف صراحة في رسالة
له سنة 1191بحصوله على هذه النصوص كاملة ما عدا كتاب الحس والمحسوس واطلاعه
المجدّ عليها. هذا أوّلا.
ثانيا: إنّ كتاب دليل الحائرين مكوّن من ثلاثة أجزاء ضخمة
متضمّنة لعشرات الفصول والمباحث التي تطرح كمّا هائلا من القضايا
والإشكالات الدينية والفلسفية. وبهذه الصفة فهو كتاب معرفيّ موسوعيّ.
ولكنّه أيضا – وخصوصا- نصّ "وجوديّ" ملتصق بوضعية عقلية وروحية تتخبّط
داخلها ذات قلقة حائرة تبحث عن دليل. نقرأ بقلم ابن ميمون نفسه في "مقدمة
في غرض المؤلف في تأليفه دلالة الحائرين" ما يلي: "هذه المقالة غرضها تبيين
معاني أسماء جاءت في كتب النبوّة: من تلك الأسماء: أسماء مشتركة فحملها
الجهّال على بعض المعاني التي يقال عليها ذلك اسم المشترك. ومنها مستعارة
فحملوها أيضا على المعنى الذي استعيرت منه. ومنها مشككة فتارة يظن بها أنها
تقال بتواطؤ وتارة يظن بها أنها مشتركة"(ص5) ". تضمّنت هذه المقالة غرضا
ثانيا وهو تبيين أمثال خفيّة جدّا جاءت في كتب الأنبياء ولم يصرّح بأنّها
مثل، بل يبدو للجاهل والذاهل أنها على ظاهرها ولا باطن لها، فإذا تأمّلها
العالم بالحقيقة وحملها على ظاهرها حدثت له حيرة شديدة، فإذا بينّا له ذلك
المثل أو نبّهناه على كونه مثلا، اهتدى وتخلّص من تلك الحيرة، ولذلك سمّيت
هذه المقالة: دلالة الحائرين" (ص6)
ثالثا: يخاطب ابن ميمون في كتاب/نص دليل الحائرين طائفة من
الناس بعينها:"أما الذين لم يروا ضوءا وهو ساقط بل هم في ليلهم يخبطون، وهم
الذين قيل فيهم أنهم لا يعلمون ولا يفهمون، سيكونون في الظلمة وخفي عنهم
الحقّ جملة مع شدة ظهوره كما قيل فيهم: إنهم لا يرون النور الذي يلمع في
السماء وهم جمهور العامة فلا مدخل لذكرهم في هذه المقالة" (ص8)؛ "أما هذه
المقالة فكلامي فيها مع من تفلسف كما ذكرت وعلم علوما حقيقة وهو معتقد
للأمور الشرعية حائر في معانيها التي حيرت فيها الأسماء المشكلة والأمثال"
(ص11) ".
رابعا: يوصي ابن ميمون في آخر"مقدمة في غرض المؤلف في تأليفه
دلالة الحائرين" كالتالي: "إذا أردت أن تحصل على جملة ما تضمنته [هذه
المقالة] حتى لا يغادرك منها شيء فردد فصولها بعضها على بعض ولا يكون غرضك
من الفصل فهم جملة معناه فقط، ألا وتحصيل كل لفظة جاءت فيه في معرض القول
وإن لم تكن من غرض الفصل، لأن هذه المقالة ما وقع فيها الكلام كيف اتفق،
إلا بتحرير فائض وضبط زائد وتحفظ من الإخلال بتبيين مشكل، وما من شيء قيل
فيها في غير موضعه ولا تتبعها بأوهامك فتؤذيني ولا تنفع نفسك، بل ينبغي لك
أن تتعلم كل ما ينبغي تعلمه، وانظر فيها دائما فهي تبين لك معظم مشكلات
الشريعة التي تشكل على كل عاقل…"(ص16-17).وعليه، يتضح أن وراء تعدد واختلاف
بل وتشتت موضوعات الكتاب/النص وحدة الإشكال/الرؤية كالتالي:
الإشكال: حيرة أهل العلم والمعرفة إزاء التباسات وتناقضات الشريعة وبالتالي ظهور الحاجة إلى دليل.
الرؤية: التأويل العقلي لـ"جميع ما قالته الأنبياء عليهم السلام" هو "المفتاح" والدليل (ص11).
وهنا يحضر الإشكال/الرؤية في منظور ما دعوناه بـ"الرشدية"
رغم عدم الجزم بالقول بتلمذة وتبعية ابن ميمون المباشرة والصريحة لأبي
الوليد ابن رشد، مقابل، من يمكن نعتهم مباشرة وصراحة بـ"الرشديين اليهود"-
وأبرزهم بدون جدال: إسحاق البلاك، ليفي بن جرسون، موسى النربوني.
- اسحاق البلاك: لا يعرف عن حياته سوى النزر القليل مع العلم أنه عاش في حدود
القرن الثالث عشر. له كتاب واحد معروف هو عبارة عن ترجمة ناقصة لكتاب
مقاصد الفلسفة للغزالي مع تعليق – هو المهم- ينتقد فيه البلاك نقد الغزالي
للفلاسفة والفلسفة وهو (أي الغزالي) لم يقرأ أرسطو إلا عبر تفاسير محددة
(ابن سينا)…وهذا هو ذات النقد الذي يوجهه البلاك إلى ابن ميمون، وبالتالي،
يسعى إلى تجاوزه معلنا رشديته الكاملة.
يبرز البلاك توافق الفلسفة والدين على مستوى الأغراض العامة
(السامية)، كما يبرز تمايزهما على مستوى الخطاب (الفلسفة تبرهن والدين
يلقّن) وعلى مستوى المخاطَب (الفرد في حال الفلسفة والجمهور في حال الدين).
وهو هنا رشديٌّ خالص.
ليفي بن جرسون (1288-1344): طبيب وفلكيّ وفيلسوف وضع شروحا على نصوص ابن رشد معتبرا "أنّ
الحقيقة موجودة في المشائية العربية والمطلوب هو التوفيق بين هذه الأخيرة
والديانة اليهودية حتى لا يضادّ الحقّ الحقّ" .
والكتاب الرئيسي لابن جرسون هو حروب الربّ الذي وضعه على
غرار دلالة الحائرين بحيث إنه يحتوي على ستة أجزاء هي: الطبيعة وخلود
الروح- النبوة- العلم الإلهيّ- العناية الربانية- الجواهر السماوية- الخلق.
وعليه، فهذا الكتاب "هو بلا ريب واحد من المعالم الأكثر أهمية للتفكير
النظري [الديني اليهودي]، ليس فقط لأنه مثل دلالة الحائرين يتضمن نظاما
فلسفيا شبه كامل، ولكن لأنّ هذا النظام [لابن جرسون] عوض أن يكون مجرّد صدى
– كما هي الموضة وقتها- لنظام ابن ميمون، هو بالعكس - أو على الأقلّ
يحاول أن يكون كذلك – إعادة تشكيل وتصحيح له." كما أنّ بن جرسون هو حاسم
وصريح في انحيازه إلى ابن رشد، وبالتالي فهو قد قام بإنجاز نوع من التركيب
العجيب بين الرشدية والموسوية وجعل اللقاء ممكنا بين أرسطو والتوراة.[
المرجع:Isidor Weil : Philosophie religieuse de levi ben Gerson.]
موسى النربوني (1300-1362): درس الفلسفة مبكرا على يد أبيه (سليل عائلة عريقة في العلم)،
رغم "حظر" تدريس الفلسفة لمن هم دون 25/30 سنة. ورشديته ثابتة وحاسمة، إذ
ينسب إليه القول التالي في حقّ أبي الوليد بن رشد: "الحكيم الإنساني الذي
قوّم أحسن تقويم كل آراء أولئك الذين حادوا عن طريق من وضع أس العلوم
(أرسطو)،وعمل على أن يصل بها إلى قمة كمالها في الفلسفة، والذي وفق بين
حقيقة الدين والحقيقة نفسها".
إضافة إلى نصوص موضوعها الأساس تقديم مؤلفات رشدية والتعليق
إيجابيا عليها، فله تفسير نقديّ شامل لكتاب دلالة الحائرين يبرز فيه
"الميل" السينوي (نسبة إلى ابن سينا) المنفلت أحيانا لدى ابن ميمون، ويؤكد
على الأطروحات الرشدية المعروفة والبارزة: الفيلسوف لوحده قادر على بلوغ
المعاني العميقة في القول الديني (ما هو موحى به إلى الأنبياء). والخلاصة
كما يقرّرها Maurice-Ruben Hayoun في آخر كتابه: الفلسفة واللاهوت لدى موسى
النربوني، أن مكانة هذا الأخير في التاريخ هي مكانة رشديٍّ حاسمٍ un
averroïste déterminé إذ لا يمكن تصوّر إعادة تشكيل فكر ابن ميمون في العصر
الوسيط بدونه.