نحن نعرف مصائر الجرائم التي يرتكبها الأفراد تجاه بعضهم، أو تجاه الدولة. لكن، ما مصير الجرائم التي ارتكبت من طرف الدولة تجاه الأفراد بوحشية كثيرا ما وصلت إلى مستويات رهيبة، أسميه في هذه الورقة الماضي الأليم؟
شغل موضوع العدالة الفكر الإنساني منذ قرون. إلا أن المرجعية الأساسية لفكرة العدالة الحديثة تستمد جذورها من المقترب التعاقدي (نسبة إلى فكرة العقد الاجتماعي) الذي برز مع فكر الأنوار والذي يمثله كل من هوبس ولوك وروسو ثم استمر لدى كانط ووريثه المعاصر جون رولز1. سنسميها أيضا العدالة الليبرالية كما تداولها الكتابات حول الموضوع.
تجعل العدالة الليبرالية من الحرية الفردية، والحقوق المدنية والسياسية ومساواة المواطنة والانتخابات الديمقراطية والعدالة في التوزيع ومعاقبة المجرمين مبادئ مركزية. وتشكل العدالة العقابية ركنا أساسيا في عدالة الأنوار. فالجريمة يجب أن تعاقب لأن الجرائم متنافية مع فكرة العدالة وجزاء الجريمة هو العقاب الجنائي. ورسخت الديمقراطيات الليبرالية الدستورية هذا المبدأ2. وانطلاقا من المساواة، وهو مبدأ أنواري آخر، فلا يمكن أن يكون هناك تمييز بين مرتكبي الجريمة. إن الجميع متساوون أمام القانون3. يشمل مبدأ المساواة أمام القانون الدولة التي تعتبر هي أيضا مسؤولة عما ترتكبه والتي يجب أن تواجه الجزاء المستحق للجريمة المرتكبة.
إلا أن العدالة العقابية عندما يتعلق الأمر بجرائم الدولة لا تطبق إلا في حالات استثنائية. نادرا ما يعترف نظام سياسي بارتكابه لجرائم تجاه مواطنيه وقليلا ما تواجه الدولة ما تستحق من جزاء. وهذا الأمر ينطبق على جميع الأنظمة ديمقراطية كانت أو غيرها.
لا يُتوقع من الأنظمة الديمقراطية أن ترتكب جرائم تجاه مواطنيها وذلك بسبب الضمانات القانونية التي تتوفر عليها لحماية حقوق المواطن ولتمكينه من متابعة الدولة عندما ترتكب انتهاكا ما في حقه. ذلك أن الديمقراطية نشأت بالأساس لتحمي الفرد المواطن من ظلم الحاكم وعنفه واستبداده. لكن هذا لم يمنع الديمقراطيات من أن تمارس أشكالا متنوعة من الانتهاكات القانونية. وقد ظهرت كتابات متعددة حول الموضوع خاصة منذ 11 شتنبر 2001 توثق للممارسات المتنافية مع فكرة العدالة الليبرالية التي ارتكبتها ديمقراطيات عريقة في واجهتها لخطر الإرهاب4.
أما بالنسبة للأنظمة غير الديمقراطية، والتي ترتكز في جانب من ممارستها للسلطة على العنف، فهي إما تنكر هذه الممارسة وتخفيها، أو تجد تبريرات لشرعنتها. ولا تُعتبر هذه الممارسات انتهاكات أو جرائم إلا عندما يحدث تغيير في النظام السياسي عن طريق الثورات أو الانقلابات أو الانتقال الديمقراطي. إلا أنه عندما تتم مساءلة المسؤولين عن النظام الاستبدادي، فإن محاكماتهم لا تستجيب لشروط العدالة التي ترتكز عليها فكرة العدالة الأنوارية. لدينا نماذج شهيرة لمحاكمة الملك لويس السادس عشر في خضم الثورة الفرنسية سنة 1793، و القيصر الروسي نيكولا الثاني سنة 1918، والرئيس الروماني تشاوسيسكو وزوجته سنة 1989. في هذه الحالات شهدنا عقابا متنافيا مع مبادئ العدالة الليبرالية. إنه العقاب الثوري المتعارض مع العدالة الأنوارية والذي يعتمد على القصاص أو الانتقام (العين بالعين)، وعلى رفض مقومات العدالة ما قبل الثورية باعتبارها غير مشروعة أصلا5.
وبالنسبة لحالات الثورات الوطنية فلم تشهد تطبيقات للعدالة العقابية سواء الليبرالية منها أو الثورية. ففي مرحلة ما بعد الاستقلال لم تواجه الدول الاستعمارية ومسؤوليها عقوبات على الجرائم التي ارتكبتها مسجلة بالتالي ممارسة واضحة لإفلات شامل من العقاب.
النتيجة هي أن الجرائم التي ترتكبها الدولة الاستبدادية أو الدول الديمقراطية على الأفراد سواء كانوا مواطنيها أم لا، بقيت بصفة عامة جرائم بدون عقاب، خارجة عن مجال تطبيق العدالة العقابية.
جرائم الدولة والعدالة العقابية:
إذا كان الإفلات من العقاب من طرف الدولة على الجرائم التي ارتكبتها هي الوضعية السائدة، فإن ذلك لم يعن انعدام اللجوء إلى العدالة بشكل كامل. بل إن العالم شهد بعض التجارب لتطبيق العدالة العقابية، وإن كانت قليلة مقارنة بحجم الجرائم المرتكبة. وعرفت نهاية الحرب العالمية الثانية أولى التجارب الرائدة في هذا المجال حين تقوت القناعة بضرورة تطبيق العدالة العقابية على الجرائم التي ارتكبتها الدولة النازية ضد ضحاياها اليهود أو تلك التي ارتكبتها القوات اليابانية. وبالرغم من الإحساس الذي ساد وقتها بأن تطبيق العدالة العقابية إزاء جرائم الدولة يعرف منحى جديدا في اتجاه تعميمها إلا أن هذه التجارب توقفت بعد محاكمات النورمبورغ6 وطوكيو7 في منتصف الأربعينات، لتُستأنف بعد ذلك بحوالي ستة عشرة سنة في محاكمة أدولف أيخمان بالقدس سنة 1962، ثم لتعود في شكل جد محدود في منتصف السبعينات في اليونان. وعرفت محاكمات المسؤولين عن جرائم الدولة ارتفاعا ملحوظا منذ 1990 ليصل في ماي 2008 إلى 67 رئيس دولة ينتمون إلى 43 بلدا. ولم تنفذ العقوبات إلا في حق 17 منهم، معظمها كانت بسبب جرائم مالية وليس لانتهاكات حقوق الإنسان8. في جميع هذه الحالات،لم نشهد تطبيقا نموذجيا لفكرة العدالة العقابية، بقدر ما كان التطبيق انتقائيا ومحدودا خضع للحسابات السياسية المرتبطة بسياقاته. تنوعت هذه السياقات حسب القضايا. إنها بالنسبة للنورمبورغ واليابان تتمثل في الهزيمة العسكرية الكاسحة التي عرفتها القوات النازية واليابانية، واكتشاف العالم لمدى فظاعة جرائم الإبادة ضد اليهود الأوربيين. وهي ترتبط بالنسبة لأيخمان بسعي القيادة السياسية لإسرائيل للدفاع عن مشروعية إنشاء دولة مستقبِلة لكل اليهود9. أما بالنسبة لمحاكمات جنرالات اليونان والأرجنتين فقد كانت نتيجة الهزيمة العسكرية التي منيت بهذه هذه القيادات في حروبها في كل من قبرص والمالوين10. وفي سلسة باقي المحاكمات التي عرفها العالم منذ 1990، فإن السياق الذي سمح بها كان نهاية الحرب الباردة، والدور الأساسي الذي أصبحت تلعبه الولايات المتحدة كزعيم أوحد للعالم الأحادي القطبية قادر على فرض خياراته بدون أن يواجه مقاومة معارضة فعالة.كما أن هذه المحاكمات عرفت تراجعا منذ 2001، بعد أن أصبحت الولايات المتحدة تولي الأولية لحربها على الإرهاب على حساب المساءلة عن جرائم الدولة11.
الانتقاد الأول الذي وجه لهذه المحاكمات اعتبرها خاضعة لحسابات السياسة التي قادت إليها أكثر من كونها شكلت تطبيقا نموذجيا لفكرة العدالة الليبرالية. وتعد التغطية التي كانت قامت بها حنا أرنت لمحاكمة أيخمان أشهر توثيق لهذا الموقف12. الانتقاد الثاني يتمثل في كون أن عدد المتهمين بارتكاب جرائم باسم الدولة الذين قدموا للمحاكمات جد محدود مقارنة بالجرائم المرتكبة. إذ أنه ومقابل الملايين من الجرائم التي ارتكبت باسم الدولة لم يتجاوز عدد الأحكام التي صدرت بهذا الشأن المائة.
تجب الإشارة هنا إلى أن الانتقادات الموجهة إلى هذه المحاكمات، وعلى قِلّتها، لم تقتصر على كونهالم تكن منسجمة مع فكرة العدالة الليبرالية. فمارك أوزيل مثلا ينتقد هذه المحاكمات التي يسميها “المحاكمات الإدارية” لعدم فعاليتها كوسيلة لترسيخ ذاكرة جماعية ليبرالية معادية لعنف الدولة13.
تعكس هذه الممارسات أزمة العدالة الليبرالية في أن تقدم أجوبة عملية قابلة للتطبيق تجاه قائمة طويلة من الجرائم التي ارتكبت في السابق. وبالرغم من أن هناك من يعتبر أن هذه الوضعية مؤقتة ستتغير عندما ستكتسب المحكمة الجنائية الدولية فعالية أكبر، إلا أن بدايات هذه المحكمة لا تبشر بتغير نوعي وشامل في المستقبل القريب. إن مبادئ العدالة الليبرالية في هذا المجال تصبح فكرة مثالية، مجردة، منفصلة عن الواقع، طوباوية، ولذلك فهي غير نافعة لإيجاد حلول لإشكالات معاشة. يجب الاعتراف إذن بأن هناك أزمة حقيقية لفكرة العدالة الليبرالية في معالجة مسألة الماضي الأليم14.
بدائل للعدالة العقابية: العدالة الانتقالية:
ابتكرت مقاربات بديلة للعدالة العقابية استلهمت مرتكزاتها الفكرية من مرجعيات أخرى غير فكرة العدالة الليبرالية تنوعت ما بين علم النفس الجماعي والبراغماتية السياسية والدين والتقاليد. ويمكن قراءة المسار الذي تبلورت فيه بدائل العدالة الليبرالية في مواجهة جرائم الدولة من خلال عاملين:
الأول مرتبط بعدم القدرة على تكرار تجارب تطبيقات العدالة العقابية منذ محاكمات النورمبورغ إلا في حالات نادرة، وهو ما خلق قناعة بعدم فعالية العدالة العقابية الليبرالية كإجراء للتصدي لجرائم الدولة.
- العامل الثاني برز منذ موجة الانتقال إلى الديمقراطية التي بدأت في جنوب أوربا في منتصف السبعينات، ثم انتقلت إلى أمريكا اللاتينية ودول أخرى على رأسها جنوب إفريقيا، وهو الانتقال الذي اشتهر ب “الموجة الثالثة”15. خلال هذه الموجة، عرفت عدد من البلدان الانتقال إلى الديمقراطية سلميا، بشكل تعايشت فيه نخب ومؤسسات الأنظمة السلطوية مع النخب والمؤسسات الجديدة التي ظهرت مع التحول الديمقراطي.كان موضوع الجرائم التي ارتكبت باسم الدولة في فترة ما قبل الدَّمَقرطة من الإشكاليات الأكثر إلحاحا التي واجهتها هذه الدول. وبالرغم من أن الأنظمة الحديثة العهد بالديمقراطية لم تتخل نظريا عن مبدأ العدالة العقابية، إلا أن المجهودات التي بذلتها كانت تصب في اتجاه البحث عن بدائل لهذه العدالة عكستها الأفكار والمفاهيم التي ارتبطت بديمقراطيات الموجة الثالثة كالمصالحة والعفو والعدالة التعويضية وأولوية تحقيق السلم وضمان الانتقال الديمقراطي، مع تأجيل اللجوء إلى العدالة العقابية حين تتوفر شروط تطبيقها. هذه الأفكار يلخصها ما أصبح يعرف ب”العدالة الانتقالية”.
كانت المصالحة تعني تهيئ الفرص لقبول الضحايا بمشروعية مؤسسات دولتهم ولتعايشهم السلمي مع من اعتُبروا مسؤولين عن الجرائم التي لحقت بهم. وكانت هذه العملية تتطلب إجراءات ذات أبعاد مختلفة مثل اعتراف الدولة بالانتهاكات وبالآلام التي تسببت فيها للضحايا وذويهم، أو فتح المجال أمام الضحايا للتعبير عن معاناتهم في جلسات استماع عمومية، أو تقديم تعويضات فردية أو جماعية للضحايا، أو اللجوء إلى الدين والتقاليد المحلية لتجاوز الآلام والإحساس بظلم الجلادين. وطبقت وصفات من هذه الإجراءات البديلة للعدالة العقابية بأشكال تنوعت من حالة إلى أخرى سنقتصر على الإشارة إليها بالنسبة لأربع دول.
كانت الأرجنتين إحدى أولى التجارب الرائدة في مجال العدالة الانتقالية حيث أنشأ الرئيس ألفونسين سنة 1983، اللجنة الوطنية للمختفينCONADEP (National Commission on the Disappeared) بعد الهزيمة المُذلّة التي تلقاها الجيش الأرجنتيني على يد البريطانيين في جزيرة المالوين سنة 1982. تنازع في الأرجنتين وقتها موقفان إزاء الماضي الأليم، موقف متشبث بضرورة تحقيق العدالة طالب بمعاقبة المسؤولين عن جرائم الحكم السلطوي، وموقف ثاني دعا إلى تناسي الماضي مخافة من رد فعل معادي للديمقراطية من طرف الجيش. وظلت تجربة الانتقال الديمقراطي الأرجنتيني منذ تلك الفترة تتطور وهي تتأرجح بين تطبيق العدالة العقابية وبين العدول عنه خوفا من شبح التدخل العسكري في الشأن السياسي الذي لم يختفي بشكل نهائي.
شبح العنف العسكري هذا كان أكبر في الشيلي، نظرا لأن الجيش هناك، على عكس الأرجنتين، كان يتمتع بشعبية واسعة وقوية. وحتى عندما انهزم بينوتشي في استفتاء سنة 1988، فإن ذلك لم يتحقق إلا بفارق ضئيل من الأصوات. ولذلك، فإن الصفحة الأليمة في الشيلي كانت تعني الاعتراف بانتهاكات الدولة وتهييئ الأرضية لجبر أضرار الضحايا في الوقت الذي كانت الدَّمقرطة تتسع تدريجيا بالرغم من مقاومة الجيش ومؤيديه المدنيين16.
في جنوب إفريقيا، برّرت ضرورةُ التفكيك السلمي لنظام الأبارتايد العنصري خيارَ التخلي عن العدالة العقابية. فقايضت لجنةُ الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا العقاب بالعدالة التعويضية والكشف عن الحقيقة بالعفو. وتم القبول بهذا الأمر كجزء من وصفة سياسية لضمان تحقيق الانتقال السلمي. وكانت النتيجة أن بقي المتهمون بجرائم الماضي في مناصبهم سواء على مستوى الأجهزة الأمنية أو الجيش أو المناصب العليا الإدارية والاقتصادية بدون محاكمات. وعوض اللجوء إلى العدالة الانتقالية نُظِّمت جلسات الاستماع ووُظّفت تقاليد العفو والطقوس الدينية للمصالحة من أجل الطي النفسي للصفحة الأليمة ومن أجل تدعم البناء السلمي للأمة الذي يتصالح فيه ضحايا الأبارتايد مع مهندسيه السياسيين ومنفذي مشاريعه وبرامجه17.
بالنسبة للمغرب، كان البحث عن بديل للعدالة العقابية بسبب البراغماتية السياسية. إذ في الوقت الذي لم تكن فيه موازين القوى تسمح بمساءلة المسؤولين عن الانتهاكات، والدولة تبحث عن مصادر متجددة للمشروعية السياسية منسجمة مع الثقافة السياسية الحديثة، بدا خيار الحقيقة والمصالحة كبديل عملي ممكن للعدالة العقابية لدى فعاليات من المعتدلين في صفوف كل من الدولة والمجتمع.كان المبرر الآخر لهذا الخيار هو أن الحقيقة والمصالحة يمكنهما أن يتحولا إلى دعامات تسهل الانتقال الديمقراطي. فكانت البراغماتية إذن أحد العوامل الرئيسية التي رجحت خيار المصالحة على العدالة العقابية كوسيلة للتعامل مع الماضي الأليم في المغرب.
ارتكز العامل الثاني كبديل عن العدالة العقابية على الشفاء النفسي من مخلفات جرائم الدولة، وهو ما يعني إحساس الضحية بالإنصاف بوسائل أخرى غير العقاب والتي تؤدي إلى اقتناعها بطي الصفحة لتحقيق ما يسمى في علم النفسclosure) )، الشفاء من الماضي الأليم. إن العقاب ليس هدفا في حد ذاته. بل إن العدالة العقابية التي تمارس من خلال مؤسسات الدولة جاءت لتعوّض الغريزة النفسية للانتقام، وهو ما لا يتحقق عن طريق تكرار نفس درجة الألم على المعتدي، صورة العين بالعين، بل عن طريق “الاعتراف بأن شيئا في غاية القبح قد حصل للضحية.” والاعتراف الذي يعطي للضحية الإحساس بأن العدالة قد تحققت إذا ما اعتمدنا لغة القانون أو أن الشفاء حصل على المستوى النفسي، قد يتخذ أشكالا متنوعة ليس الجزاء إلا مظهرا واحدا له. بل إن الجزاء نفسه ليس إلا تعبيرا رمزيا عن المعاناة الأصلية التي عاشتها الضحية18.
في حالة الجرائم التي ارتكبت في حق الشعوب المستعمرة، فإن صفحة الماضي الأليم طويت بفعل حصولها على الاستقلال الذي لعب المقابل النفسي للعدالة العقابية تجاه الدول الاستعمارية19. إن الانتصار السياسي، الاستقلال، في هذه الحالة كان هو البديل عن العدالة العقابية. وفي حالات استعمارية سابقة أخرى، لجأت بعض الدول للتعبير عن ندمها عما ارتُكب باسمها تجاه مستعمراتها وبتقديم الاعتذار العلني وبطلب العفو من ضحاياها كمبادرات بديلة عن العقاب لإنصاف الضحايا وبطي صفحة الماضي الأليم20. وتعتبر تيريرا غولدوين فيلبس أن الحكي عن الماضي الأليم يمكن أن يوازن بشكل مقبول ظلم الألم والقمع. ولذلك، فإن جلسات الاستماع التي نظمتها هيئات الحقيقة والإنصاف في عدد من الدول التي جربت العدالة الانتقالية والتي لم تكن لها الإمكانيات والموارد لكي تمارس العدالة العقابية، تعتبر حسب هذا التصور البديل النفسي عن المحاكمات والعقاب21.
شكل التراث الديني المسيحي والثقافة التقليدية مرجعيات بديلة عن العدالة العقابية، وكانت جنوب إفريقيا رائدة في هذا المجال. فقد وظفت تقاليد المصالحة التقليدية المعروفة هناك بأوبونتو (Ubuntu) التي تتخلى عن المحاسبة الفردية وتركز بدلها على المصالحة من أجل المحافظة على تضامن المجموعة22. ويقول ديزموند توتو، الرئيس السابق لهيئة الحقيقة والمصالحة الجنوب-إفريقية: “إن العفو، والاعتراف، والمصالحة، هي أقرب إلى المجال الديني”23 وهي الأفكار التي استلهمت منها هيئة الحقيقة والمصالحة مقاربتها في التعامل مع ماضي الأبرتايد الأليم.
إن العدالة الانتقالية إذن تختلف اختلافا عميقا عن العدالة الليبرالية، لأنها لا تولي الأولوية للعدالة العقابية التي تتغاضى عنها أو تؤجلها إلى أجل غير مسمى، بل عوضها تولي هذه الأولية لمبادئ السلم والدَّمقرطة والحقيقة والمصالحة. ولقد تمكنت خيارات العدالة الانتقالية هاته من أن تحقق إنجازات سياسية متميزة، بل مبهرة أحيانا، ظهرت في تسهيل الانتقال الديمقراطي السلمي في كل من الأرجنتين والشيلي وجنوب إفريقيا، وتوصلت في المغرب إلى أن تكشف عن حقيقة الانتهاكات التي ارتكبتها الدولة وأن ترد الاعتبار للضحايا.
إن المفارقة القائمة الآن هي أنه في الوقت الذي لا تقدم فيه العدالة الأنوارية في صيغتها التعاقدية تجارب ناجحة ورائدة على المستوى العملي في التعامل مع جرائم الدولة، فإن خيارات العدالة الانتقالية أعطت نماذج لنجاحات متعددة في تحقيق الانتقال السلمي، وتحييد الخطر العسكري، والكشف عن الحقيقة، وحصول الضحايا على الاعتراف وعلى جبر الضرر.
لم تخلُ بدائل العدالة الانتقالية من انتقادات استهدفت مدى توفقها في تحقيق الأهداف التي سعت إليها عن طريق بدائل للعدالة العقابية. انتُقدت البراغماتية في كونها تحولت إلى إيديولوجية لتبرير الأنظمة القائمة24، وفي كون الديمقراطية الموعودة لم تعادل فكرة العدالة العقابية، بل إنها في نهاية الأمر أدت إلى الإفلات من العقاب، وأخلّت بذلك بمبدئ أساسي لفكرة العدالة. كما أن اعتماد تقاليد المصالحة أو الطقوس الدينية للعفو تعتبر مسارات غير منسجمة مع فكرة العدالة، فهي تعتمد مرجعيات بعيدة عن الحداثة وفكر الأنوار. ولا يزال الشفاء النفسي الناتج عن الحكي في جلسات الاستماع العمومية موضوع خلاف بين المختصين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الانتقال من العدالة التعويضية إلى العدالة العقابية لم يتحقق إلا في حالات محدودة ومتقلبة. فاللجوء إلى العدالة العقابية في الأرجنتين شهد حركة مد وجزر منذ نهاية ولاية الهيئة الوطنية للمختفين سنة 1984 إلى اليوم. وتطلب فتح ملف العدالة العقابية في الشيلي عدة عقود منذ1991. أما في جنوب إفريقيا، فقد تم التخلي عن فكرة العدالة العقابية بشكل يبدو أنه نهائي. “لقد طوي كتاب المساءلة في فترة ما بعد الأبارتايد” يقول بحسرة كتاب صدر مؤخرا حول الموضوع25. وبعد مرور ما يناهز العقدين على بدايات العدالة الانتقالية إن عدد المحاكمات المرتبطة بالماضي الأليم تبقى قليلة مقارنة بحجم الجرائم التي ارتكبت، وبالعدد الكبير للمجرمين المحتملين الذين ارتكبوها. وغدت نتيجة هذه الوضعية أن العدالة الانتقالية لا تبدو كمرحلة مؤقتة في انتظار تحقيق العدالة العقابية كما ظلت تعد بذلك، بل هي تشكل على مستوى الممارسة بديلا دائما للعدالة العقابية.
لكن، إذا كان هذا البديل حقق إنجازات عملية مؤهَّلة لأن تبرِّره، فإنها بالمقابل ظلت تفتقد إلى ترسيخ فلسفي منسجم مع فكرة العدالة الليبرالية الأنوارية. ولذلك، فإننا نكاد لا نعثر في أدبيات فلسفة العدالة الأنوارية على إحالات تذكر لفكرة العدالة الانتقالية. وهذا ما دعا دانييل فيلبوت إلى أن يؤكد على أن المصالحة التي تعد إحدى ركائز العدالة الانتقالية تتعرض لانتقادات قوية من العديد من الليبراليين المعاصرين، وأن هناك توثرا عميقا قائما بين مرجعيات الليبرالية للفلسفة السياسية وبين العدالة الانتقالية26.
أمارتيا سن وإشكالية التوفيق بين العدالة الانتقالية والعدالة العقابية:
في الكتاب الذي أصدره أمارتيا سن سنة 2009، يقدم تعريفا للعدالة يعتبره بديلا عن التعريف الليبرالي الكانطي. ينتقد سن المقترب الكانطي للعدالة بكونه متعالي (transcendent)يسعى لتحقيق عدالة نموذجية مثالية، ويقترح بدله مقتربا مقارنا ينطلق مما يمكن أن يتحقق من أجل تقليص الظلم. إن المجتمع العادل بالنسبة لرولز يتحقق “من خلال المؤسسات المثالية والسلوك المثالي.” ولذلك فإن أطروحته تسعى إلى تحديد الترتيبات المؤسساتية العادلة الكاملة التي يعتبرها سن مثالية وغير عملية، بل ينتقدها معتبرا إياها “أصولية مؤسساتية”. تركز على المؤسسات المجردة والمتعالية وتغفل الواقع المعاش27. يجد سن جذور هذه المثالية لدى رولز في نظرية العقد الاجتماعي التي بدأت مع هوبس، ولكن تبناها أيضا لوك، روسو وكانط. وكان السياق التاريخي السياسي لدى هؤلاء يدفعهم إلى البحث عن كيفية تجنب استبدادية الحكم الفردي فانصب عملهم على تطوير إطار لصنع قرارات عقلانية وديمقراطية من خلال مؤسسات مستقلة عن نزوات الحاكم. لكن نتيجة هذه “الأصولية المؤسساتية” حسب سن، كانت هي تعاليها عن الواقع، ومثاليتها عديمة الفعالية.
يقترح سن مرجعية نظرية بديلة للعقد الاجتماعي هي الخيار الاجتماعي التي ظهرت خلال الثورة الفرنسية على يد جون شارل دو بوردا و والماركي دو كوندونسي (Jean-Charles de Borda et the Marquis de Condorcet) ثم طورها في الخمسينات الفيلسوف الأمريكي كينيث آرو. الأولوية لدى سن تصبح هي تقييم المنجزات الاجتماعية التي تتحقق فعلا، بدل تصور المؤسسات والترتيبات التي تسعى نظريا لضمان العدالة الكاملة والغير ممكنة التحقق حسب رأيه. العدالة ليست مرتبة كاملة مجردة يجب أن نطمح إلى تحقيقها، ولكنها مسلسل من الممارسات، بل ومن الإصلاحات غير الكاملة التي نقوم بها في عالم موجود، حاضر.
إننا لا نستطيع أن نحقق العدالة المتعالية الكاملة. كما أننا عاجزون عن تحقيق الإجماع حول محتوى هذه العدالة من خلال النقاش الافتراضي الغير واقعي والغير ممكن الذي يقترحه رولز والذي يعتمد على العقلانية الصارمة التي يفترض أن يهيئها “حجاب الجهل” و”الموقع الأصلي.”28 لكننا بالمقابل، وانطلاقا من مقترب الخيار الاجتماعي يمكننا أن نقلص من الظلم. يسمح هذا التعريف بالاعتراف بالحلول الجزئية وبتنوع التأويلات والمساهمات الفكرية من أجل إنجاز ما يساعد على الوصول لهدف تقليص الظلم وإخضاع هذه المنجزات إلى التقييم عن طريق المقارنة الميدانية.
ظلت الانتقادات الموجهة للعدالة الانتقالية تركز عن كونها بقيت بعيدة عن تحقيق العدالة المثالية مركزة في ذلك على التناقض الواضح بين المصالحة بدون عدالة عقابية وفكرة العدالة في أصلها التعاقدي. كما أن بقية مبادئ العدالة الانتقالية مثل الحقيقة وجبر الضرر لم تعتبر إلا إجراءات رمزية لا ترقى إلى مستوى فكرة العدالة المثالية، بل إن هناك من اعتبرها متناقضة معها. إلا أن مقترب سن يسمح بمدخل جديد لإعادة النظر في علاقة العدالة الانتقالية مع فكرة العدالة من صلب فلسفة الحق الأنوارية. من هذه الزاوية، فإن تقييم قضايا المصالحة وجبر الضرر الفردي والجماعي وجلسات الاستماع لا تنطلق من مدى تطابقها مع فكرة العدالة المثالية بل في دورها في تقليص الظلم على المستوى الميداني واعتمادا على ما أنجز عمليا. وأهمية ما أنجزته العدالة الانتقالية من هذا المنظور تكمن ليس فيما تَعِد بتحقيقه مستقبلا وهي تسعى (بدون أن تتمكن من ذلك) إلى أن تحقق العدالة الكاملة، بل في كون أن ما تحققه عمليا على أرض الواقع يساهم في التقليص الفعلي للظلم.
إن العدالة الانتقالية أنجزت الانتقال الديمقراطي السلمي، ومكنت الضحايا من الحصول على الاعتراف بمعاناتهم، وتوصلت إلى الكشف عن حقيقة جرائم كثيرة، وقدمت لضحايا عنف الدولة تعويضات مادية ومعنوية عما عانوه، وهي تفوقت في ذلك مقارنة بما حققته في هذا المجال العدالة العقابية.
لن يضمن اعتماد فكرة سن بالضرورة الدفاع عن كل منجزات العدالة الانتقالية. فالنقاش يبقى دائما قائما بين من يعتبرون أن تلك التجارب تمكنت فعلا من تحقيق السلم، ومن وضع حد لجرائم الدولة، أو من تسهيل الانتقال الديمقراطي. إن تقييم العدالة الانتقالية من منظور الإنجاز لن يضمن بالضرورة الدفاع عما حققته العدالة الانتقالية. بل إن هذه الأخيرة تتعرض لانتقادات ليست فقط في كونها غير منسجمة مع فكرة العدالة العقابية، بل أيضا في كونها لم تف بما وعدت هي نفسها بتحقيقه. فتوصيات الهيئات المتعددة والمتعلقة بالحقيقة، والمصالحة والتعويض لم تتحقق في عدد من الحالات على رأسها جنوب إفريقيا.
ومن هذا المنظور فإن تعريف العدالة كتقليص للظلم تبقى في حاجة لمعايير لضبطها. كيف يمكن إذن أن نحدد مدى قدرة فعل ما من أن يقلص الظلم، وهل هذا التقليص كاف لكي يعتبر حقيقة تقليص للظلم؟ هل كانت هناك وسائل أخرى قادرة على أن تقلص بشكل أكبر من الظلم؟
خلاصات:
إن فكرة العدالة لدى سن توفر إمكانية الترسيخ الفلسفي لتجارب العدالة الانتقالية، وهو الضعف الذي ظل يواجه هذه الأخيرة. كما أن مقترب سن يقدم مدخلا فلسفيا جديدا لتحليل العدالة كفكرة وكممارسة على ضوء ما يتم تحقيقه على أرض الواقع وليس ما تعد بتحقيقه في مجتمع مثالي ربما لن يتحقق قط. وتسمح مقاربة سن بتقييم إنجازات العدالة الانتقالية انطلاقا مما تحققه وليس باعتبار إنجازاتها إجراءات مؤقتة تعد بالوصول إلى مرحلة أسمى هي مرحلة العدالة الكاملة. ولعل هذا المدخل سيفتح أفاقا جديدة لتطوير أكبر لفكرة العدالة ولتوسيع معالجتها انطلاقا من مقاربات متعددة التخصصات عوض حصرها في مجال الفلسفة.
الأحد يوليو 19, 2015 2:48 pm من طرف ثائرة غريد