** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 هل هناك حاجة لعلم السياسة؟ .عبد الحي مودن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
يوسف هاشم
مرحبا بك
مرحبا بك
avatar


عدد الرسائل : 44

تاريخ التسجيل : 08/07/2015
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 6

هل هناك حاجة لعلم السياسة؟  .عبد الحي مودن Empty
16072015
مُساهمةهل هناك حاجة لعلم السياسة؟ .عبد الحي مودن

الأحداث السياسية لا تتوقف. وتوثق وسائل الإعلام بشكل متواصل القرارات التي يتخذها رؤساء الدول، والقوانين التي تصدرها وتتداولها المؤسسات التشريعية، والقضايا التي تبث فيها المحاكم، والأنشطة التي تقوم بها الأحزاب والجمعيات المدنية والحركات الاجتماعية، والعلاقات بين هؤلاء الفاعلين والتي تتنوع ما بين التعاون والصراع. كما تشكل هذه القضايا مادة هامة في النقاشات العمومية سواء في المجال العمومي المادي أو الافتراضي وعلى مستوى ممارسات الحياة اليومية. وفي نفس الوقت، فإن الانتاج في حقل علم السياسة هو أيضا لا يتوقف، نتابعه في الإصدارات المتواصلة للكتب الجامعية، والمجلات المتخصصة في العشرات من فروع علم السياسية، وفي الندوات التي تنظمها الجمعيات المرتبطة بهذه التخصصات، وفي الأبحاث التي تقيمها مراكز البحث حول قضايا السياسة، وفي الدروس التي تلقنها شعب العلوم السياسية لمئات الآلاف من الطلبة في جل جامعات العالم. ويرتبط هذا الإنتاج بصناعة أُقدر أن حجمها يصل في الولايات المتحدة وحدها إلى عشرات الملايير من الدولارات.
إن سؤال هذا النص، الحاجة إلى علم السياسة، يدعو إلى البحث في العلاقة بين هذين المجالين للسياسة: السياسة كفعل، والسياسة كعلم. إن الجواب التلقائي الأول عن هذا السؤال، والذي لم يتوقف العديد من علماء السياسة في الدفاع عنه هو أن علم السياسة يضمن فعلا سياسيا أفضل، سواء كان الأمر يتعلق بسياسات الدول أو خيارات المعارضة. عندما كان علماء السياسة الأمريكيون الأوائل يسعون للحصول على موارد من الكونغريس بعيد الحرب العالمية الثانية لتمويل شعب العلوم السياسية كتخصص مستقل عن باقي الفروع الأكاديمية، كانوا يؤكدون الحاجة إلى هذا التخصص لكي يمد صانع القرار في دولة تحولت بعد الحرب العالمية الثانية إلى دولة عظمى، بمعرفة قوانين السلوك السياسي والتي تسمح بمعرفة ليس الحاضر فقط، بل وبتنبئ المستقبل، وتهييء صانع القرار بالمعرفة التي تسمح له باتخذات القرارت المناسبة للأوضاع التي يعرفها بشكل أفضل عن طريق علم السياسة. وفي سياق مختلف، فقد كانت الأطروحة الليينية تعتبر “أن اعتناق الشيوعية يعني ليس فقط القبول بنظرية تعطي دورا في غاية الأهمية لصراع الطبقات، ولكنها تعني أيضا تطبيق تلك النظرية في الحياة اليومية.”1
لا يشكل هذا التصور حول العلاقة بين علم وفعل السياسة، والحاجة إلى إخضاع البعد الثاني للأول، إلا مقتربا واحدا لمعالجة العلاقة الملتبسة بين الفكر والفعل في حقل السياسة، وحول الأدوار الأخرى التي تلعبها المعرفة بالسياسة بشكل أعم، بشكل مستقل ومتميز عن السياسة كممارسة. تقدم هذه الورقة في البداية التمييز بين السياسة كعلم والسياسة كفعل، ثم تطرح الأدوار التي لعبتها المعرفة بالسياسية على مستوى الممارسة السياسية، ثم تعالج في نقطة ثالثة جوانب المعرفة السياسية المستقلة عن السياسة كممارسة.
السياسة كفعل والسياسة كعلم
هناك مدخلان لتعريف السياسة. المدخل الأول يركز على ربط السياسة بالسلطة، وهي القدرة على التأثير في الناس، ودفعهم للقيام بفعل أو الامتناع عنه، سواء بشكل مباشر يواسطة تدابير تتراوح بين درجات متنوعة من القهر والإقناع، أو عن طريق التأثير في الشروط والبنيات التي تساهم في تحديد قدرات الناس على التفكير والفعل.2
المدخل الثاني ينطلق من كون موضوع السياسة ليس الصراع بل هو السلطة الشرعية3. يقول لويس دومون: “ليست ماهية الحياة البشرية في صراع الجميع ضد الجميع، ولا يمكن أن تكون النظرية السياسية نظرية النفوذ، وإنما نظرية السلطة الشرعية.”4
ويجعل هذان المدخلان من السياسة حقل السلطة والشرعية، أي الحقل الذي تُمارَس فيه السلطة، وتُوزع، وتُحتكر، وتتراكم وتضعف وتستمر أو تتبدل؛ والحقل الذي يتم فيه الاعتراف بأحقية السلطة لمالكيها وقبولها أو يتم الاختلاف حولها والصراع بشأنها.
يعنى هذا التعريف الموسع للسياسة جوانب كبيرة من السلوكات الإنسانية، ومن المؤسسات والبنيات المجتمعية، ومن الظواهر والأحداث التاريخية التي عُرفت في الماضي، ولا تزال تغتني بشكل متواصل في الحاضر.
وبالمقابل، فإن المعرفة بالسياسة أو ما أصبح يعرف منذ مطلع القرن العشرين كعلم متخصص في السياسة، تحيل إلى ما راكمه الفكر الإنساني منذ أفلاطون (423-347 قبل الميلاد) من صياغات وأطروحات ونظريات ومقتربات ومناهج لفهم السياسة كموضوع، وشرحها وتفسيرها والطموح إلى التأثير فيها. والسياسة همت الفكر الإنساني منذ بدايته، كما أنها همت مجالات معرفية مختلفة على رأسها الفلسفة، والتاريخ، والنصوص االدينية المقدسة والكتابات المرتبطة بها، والآداب والفنون من بداياتها وإلى اليوم، ثم كانت موضوعا مركزيا لدى مفكري الأنوار، وظهرت كموضوع مهم في كل فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية التي بدأت تتأسس منذ القرن التاسع عشر (الاقتصاد، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، علم النفس، اللسانيات، والسميولوجيا، والنقد الأدبي)، بل إنها أصبحت موضوعا للدراسة في حقل العلوم البحتة كعلم الدماغ Neuro-science5. تشكل فيه السياسة الموضوع المركزي الذي تخصص فيه علم السياسة كمجال أكاديمي منذ تأسيسه كعلم مستقل بداية في الولايات المتحدة منذ بداية القرن العشرين، انتقلت بعد ذلك تدريجيا لتصبح تخصصا تعرفه جل جامعات العالم. وأصبح هذا التخصص يشمل اليوم الآلاف من شعب علم السياسة، ومراكز البحث، والإنتاجات التي تتصدر عن دور النشر، والمجلات والجمعيات المتخصصة. وغدت شعب العلوم السياسية، موجودة في جل الجامعات الكبرى، تمنح شهادات جامعية في العلوم السياسية، وفي تخصصات فرعية متعددة لم تتوقف عن الظهور مثل علم السياسة المقارن، النظرية السياسية، الفلسفة السياسة، السلوكية، التخصصات الإقليمة، الاقتصاد السياسي، علم الاجتماع السياسي، الأنثروبولوجيا السياسية، والسياسة العمومية. وتُلاحظ الهيمنة الأمريكية الواضحة في هذا العلم، حيث إن الولايات المتحدة تحظى بنسبة جد مرتفعة من مجموع الحاصلين عن شواهد جامعية في هذا التخصص6.
لا بد أيضا من الإشارة إلى الدور البارز الذي لعبه الفكر الألماني في ظهور علم السياسة، حيث إن جل مؤسسي هذا التخصص في الولايات المتحدة في مطلع القرن العشرين تابعوا فيما قبل دراستهم في ألمانيا، وساهم عدد كبير من الجامعيين الألمان الذي هاجروا إلى الولايات المتحدة في فترة الحرب العالمية الثانية في التدريس في التخصصات حديثة التأسيس.
وبالنسبة للمغرب، فإن السياسة اعتُبرت موضوعا رئيسا للتراث الفكري الإسلامي الموثق منذ ظهور الإسلام سواء في علاقته بالدين أو بالفلسفة والتاريخ والآداب. ومع بداية الاحتكاك مع الغرب، والذي كانت فرنسا منذ الحماية نافذته ومرجعيته الأولى، مثَّل فكر الأنوار وإنتاجات العلوم الاجتماعية، روافد أثرت في التفكير في السياسي لدى المغاربة. وشكل القانون، والتاريخ، والفلسفة والاقتصاد التخصصات الحديثة الرئيسية لتحليل السياسة، والتي تعرف عليها مغاربة درسوا في جامعات فرنسية، قبل أن تتأسس الجامعة المغربية الحديثة في مطلع الستينات على يد أساتذة مغاربة وفرنسيين، ثم أساتذة مشارقة في وقت لاحق. وإذا كان موضوع السياسة مشتركا بين شعب العلوم الاجتماعية والإنسانية والآداب، فإن دراسة السياسة كتخصص أصبحت ترتبط أكثر بشعب القانون العام في كليات الحقوق وبمواد العلوم السياسية التي تُدرَّس في هذه الشعب7. وفي السنوات الخمس الأخيرة، توسع الاهتمام بتدريس العلوم السياسية وتوفير تخصصات في هذا المجال ليهم عددا من المدارس الخاصة في المغرب8.
التأثير الملتبس للفكر على الفعل السياسي:
تحيل الفكرة التي طرحها أرسطو في كتاب السياسة حول أن الإنسان حيوان سياسي، إلى أن الفعل السياسي ليس نتاج معرفة بقدر ما هو مرتبط بغرائز التملك و البقاء والسيطرة والعدوانية9.
كما أن مراجع متعددة حللت الفعل السياسي انطلاقا من الطبائع الثابثة التي تتسم بها الحيوانات، ويعد أهمها في التراث الإسلامي كتاب كليلة ودمنة الذي ترجم إلى العربية في القرن الثامن ووظف هذه الطبائع لاستخلاص الحكم ولتوجيه النصائح للحاكم في كيفية تدبير الشأن السياسي.
كما أن الفعل السياسي يرتبط بالحدس، الذي لا ينبني على دراسة ممنهجة، بقدر ما هو معرفة تلقائية بالأشياء. وتعد السياسة حقل العواطف والمشاعر بامتياز، يلتقي فيها الإعجاب والانبهار والتعلق والولاء والغضب والكراهية والانتقام والأنانية ونكران الذات والتضحية والإخلاص والخيانة والخديعة. وقد شملت الإحالات على هذه الأبعاد العاطفية في السياسية تحاليل همت الحاكم والمحكوم. فالاستبداد كثيرا ما رُبط بنزوات الحاكم المستبد وانفعالاته وتقلب أهوائه. كما أن صفات المشاعر اللاعقلانية رُبطت أيضا بالسلوك السياسي للجماهير في حالات تعلقها بالحكام أو بغضبها وثوراتها عليهم. وارتكزت مقاربات سياسية ذات تأثير كبير على الحياة السياسية إلى الآن نظّر لها فلاسفة الحق الطبيعي على الأصل الطبيعي للإنسان المستقل عن المعرفة الملقنة والذي يرتبط بالحرية والمساواة والرحمة.
يضاف إلى ذلك أن ممارسة السياسة كحرفة، تعتمد على الخبرة المكتسبة عن طريق الفعل، وتتحول بالتالي إلى عامل مؤثر في الفعل.
إذا ما نظرنا إلى السياسية من منطلق الغرائز والطبائع والحدس والتجربة، يمكننا أن نتصور ممارسة سياسية لا تحتاج للفكر، أي أن نفترض فعلا سياسيا لا يعتمد علم السياسة.
وفي الاتجاه المعاكس نجد حالات كثيرة للأدوار التي لعبها مفكرون سياسيون بارزون في قلب السلطة السياسية كمستشارين ومقربين من بلاطات الحكام، أو كمنظرين وملهمين للثورات وحركات الاحتجاج والمعارضة.
لقد كان أرسطو، مؤسس الفكر السياسي بعد أستاذه أفلاطون، معلما للإسكندر الأكبر (356-323 قبل الميلاد)، إمبراطور مقدونيا. وبالرغم من أن كتاب الأمير لمكيافيلي لم يحظ باهتمام خاص خلال حياته، إلا أن كلا من هتلر وموسيوليني كانا معجبين به. وكان مفكرو الأنوار ملهمي الثورتين الأمريكية والفرنسية. بل إن كلا من ألكسندر ماديسون، أحد الآباء المؤسسين للدستور الأمريكي، وألكسندر هالمتون، الرئيس الرابع للولايات المتحدة، اعتبرا نفسيهما عالمي سياسة كما اعتبرا أنهما جربا نظريات كل من مونتسكيو، ولوك على المستعمرات الثلاث عشرة التي أصبحت تشكل الولايات المتحدة بعد الثورة الأمريكية10. وأصبح كتاب ثروة الأمم لآدم سميت مرجع السياسيين الليبراليين، وبالمقابل فإن كتابات كارل ماركس عُدّت المرجع الرئيسي للثورة السوفياتية وللأنظمة الشيوعية والحركات والأحزاب اليسارية عبر العالم. بل إن زعماء سياسيين مثل لينين وماو تسي تونع كانوا أيضا منظرين للسياسة.
ولدينا أيضا عدد من النماذج الموثقة حول دور المعرفة السياسية في صنع القرار في بعض الحالات التي تهم السياسة الخارجية الأمريكية، حيث تحوَّل منظرون مرموقون في العلاقات الدولة إلى مهندسي السياسة الخارجية الأمريكية على رأسهم هنري كيسنغر، وزبيغنيو برجرنسكي.
وفي الأنظمة الشيوعية كانت السياسات المتبعة على المستويات الوطنية والدولية، خاصة خلال مراحل التأسيس، موضوع جدالات مستفيضة مرتكزة على مراجع وتأويلات الكتابات النظرية لكارل ماركس. وكانت تلك الأجواء ملهمة لجدالات الماركسيين عبر العالم، بما فيها المغرب.
وعلى مستوى التراث العربي الإسلامي الذي يعد المرجعية الأساسية للمعرفة في المغرب قبل الاحتكاك الفكري بالغرب، ارتبطت لائحة طويلة من العلماء بأنواعهم الثلاثة: الفلاسفة، والفقهاء والكتاب، ببلاط السلاطين والأمراء، بالرغم من أن هذا الارتباط لم يخل من تقلبات وتوترات يحيل إليها “أدب المحن”، الذي يتحدث عن “الاضطهاد والإرهاب” الذي عاناه العلماء من ذوي النفوذ والسلطان…سواء كان هذا الاضطهاد مجرد إهانة بالكلام أو كان تعذيبا وحبسا، أو قتلا وتمثيلا.”11 وفي فترة التقارب بين صانع القرار وصانع الأفكار، كان العالم يضع معارفه رهن إشارة السلطان.
يعتبر أبو بكر بن الحسن الحضرمي المرادي (توفي سنة 489 هجرية) أحد الرواد الذين دشنوا الكتابة في المجال السياسي على صعيد المغرب، وكان المؤلف وضع كتابه السياسة أوالإشارة في تدبير الإمارة بطلب من الأمير المرابطي أبي بكر بن عمر “ليكون دستورا له، ودستورا للمرابطين من بعده.”12 وكان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، مؤسس الدولة الموحدية الذي كان شغوفا بالفلسفة، كلف ابن رشد بتخليص كتب أرسطو، واحتفظ بمكانته في بلاط الخليفة المنصور بعد وفاة أبي يعقوب إلى أن تعرض لمحنة دامت حوالي ثلاث سنوات، نفي فيها وأحرقت فيها كتبه قبل أن يعفى عليه سنة قبل وفاته سنة 1198م13.
ووُصف محمد بن تومرت، صاحب العقيدة التي تأسست عليها دولة الموحدين، بأنه “عالم سلطان” لكونه جمع بين السلطتين العلمية والسياسية14.
كما أن السلطان أبا حمو موسى الزياني (723-791 هجرية)  أحد ملوك دولة بني عبد الواد ترك كتاب واسطة السلوك في سياسة الملوك يقدم فيه “…مجموعة من النصائح العملية والقواعد السياسية والأخلاقية المفيدة في كيفية تسيير شؤون السلطنة… من أجل هدف أساسي يكمن في دوام الحكم والحيلولة دونه والانهيار.”15
وبالنسبة للفكر السياسي الحديث في المغرب، فإن رواده علال الفاسي، ومحمد حسن الوزاني، وعبد الله ابراهيم والمهدي بنبركة وعبد السلام ياسين، استمدوا تنظيراتهم من الممارسة الفعلية للسياسة16.
وتهم هذه الملاحظة في حالة المغرب الراهن الظاهرة المثيرة التي عاشها خلال حكومة التناوب والتي شهدت انتقالا واسعا للجيل الثاني من رواد الفكر السياسي الحديث من موقع المعارضة لاحتلال مراكز صنع القرار في حكومة اليوسفي شملت كلا من فتح الله ولعلو، والحبيب المالكي، وخالد عليوة، وعبد الله ساعف. كما أن مساهمين في النقاشات النظرية المرتبطة بعلم السياسية في المغرب احتلوا مواقع القرار على الصعيد الجهوي مثل عبد العالي الدمو وعبد القادر البنا. وبالإضافة إلى الحكومات والهيئات المنتخبة على الصعيد الوطني والجهوي، فإن لائحة المفكرين السياسيين المرتبطين بمراكز الفعل السياسي تزداد اتساعا عندما نضم مستشاري الملك، و أعضاء الهيئات الاستشارية مثل “المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان”، و”اللجنة الملكية لمدونة الأسرة”، و”هيئة الإنصاف والمصالحة”، ثم “اللجنة الاستشارية لصياغة الدستور”.
أمامنا إذن مجموعة من الحالات حول مسألة العلاقة بين الفكر والفعل تتنوع ما بين كون الإنسان حيوانا سياسيا عمليا لا يحتاج إلى معرفة علمية مسبقة حول قضايا السلطة، وكون السياسة مرتبطة بالمعرفة.
لكن هذه النماذج غير المكتملة والمنتقاة بشكل عشوائي بالرغم من أن أنها تبرز التداخل الحاصل بين السياسين الممارسيين والمفكرين، إلا أنها لا تؤكد أن الفعل السياسي هو نتاج المعرفة السياسية. إن ضبط هذه العلاقة يتطلب معرفة دقيقة بالدور المحدد الذي لعبته الأفكار السياسية التي كان المفكرون يحملونها في صياغة القرارات والخيارات والاستراتيجيات السياسية.
بالإضافة إلى هذا التحفظ المنهجي بشأن النقص في التوثيق، كثيرا ما يُعتبر أن انتقال الفكر إلى العمل لا يعني هيمنة الفكر بقدر ما يعني فقدانه لاستقلاليته وخضوعه لمنطق السلطة السياسية. من هذا المنظور فإن العلم عندما ينتقل إلى حقل الممارسة السياسية يفقد الشروط العلمية التي تنبني على البحث عن الحقيقة، وعلى الموضوعية والاستقلالية ويتحول إلى إيديولوجيا تسعى بالأساس إلى “تعزيز وشرعنة مصالح جماعات في وضعية تعارض المصالح.”17. إن التقاء العلم والفعل يصبح علاقة لا يمكن أن يكون أقوى طرفيها إلا الفعل، ويصبح العلم فيها مسخرا لخدمة أغراض هذا الفعل، سواء كان الأمر متعلقا بالفعل من مركز الحاكم أو من وضع المحكوم، من موقع الدولة أو موقع المعارضة.
إن غلبة الفكر على الفعل السياسي، وهي الوضعية المستحيلة من منظور الإيديولوجيا، تؤدي إلى حالتين. هناك حالة احتواء العالم وإخضاعه لحسابات السياسي الحاكم ومنطقه، وهي التي ينظر إليها المعارضون كخيانة من طرف العالم لموقعه كمناضل معارض أو كمحايد تتناقض وظيفيته العلمية كلما اقترب من الحاكم، كما يدل على ذلك التعبير “القلم في خدمة السيف” الذي استعملته مجلة مغربية لانتقاد غاضب على انتقال مفكرين مغاربة شاركوا في تقرير أعد بإشراف مستشار الملك18. وتكون النتيجة هي توقف العالم عن ممارسة العلم وتفرغه لممارسة السياسة، أو سحب المشروعية العلمية عن العالِم.
وهناك حالة الثانية، وهي إحساس المفكر بخيبة الأمل من عدم قدرة فكره في التأثير على الفعل. وإذا ما اقتصرنا على نماذج الفكر السياسي المغربي الحديث، فإن هذه الهوة تَظهر بشكل واضح، حيث لم يتمكن أي من المفكرين الزعماء المذكورين أن يمارس الخيارات التي كان يدعو لها من موقع قرار لم يتحقق قط. وينعكس نفس الإحساس بخيبة الأمل عند مفكر بارز مثل عبد الله العروي منذ بداياته، حيث اعتبر أن الثوريين العرب، فشلوا في السياسات التي تبنوها، ابتداء من بن بركة، وعبد الناصر وبومدين، لأنهم لم يعتمدوا على فكر ينبني على المعرفة التاريخية، ولم يطوروا الإيديولوجيا العلمية التي كان العروي يدعو لها ويساهم في بلورتها. “كانت الظاهرة الأساسية في التجارب الثلاث السابقة العجز الإيديولوجي أو بكفية أدق تخلف الذهنيات عن الأوضاع الاقتصادية-الاجتماعية العامة…وفعلا أخفقت التجارب الثلاث المذكورة لأسباب أوسع وأعمق، طبعا، من التخلف الإيديولوجي، لكن عدم التسلح بالإيديولوجيا الملائمة كان أيضا من الأسباب التي أضعفت الحركة من جذورها.”  ويعترف العروي بأنه سعى إلى أن ينبه بن بركة إلى هذا الخطر، لكنه لم ينجح، ولم تفهم أفكاره بالشكل السليم. ويظهر من مذكرات العروي التي نشرها في سلسة خواطر الصباح19 أن خيبة الأمل هذه لا زالت لم تفارقه.
وكانت النتيجة المتوقعة من خيبات الأمل من السياسة التي عانى منها المفكرون هي نبذ السياسة، أي نبذ الفعل، وتحصين الفكر من مطبات الممارسة عن طريق الانعزال عن السياسة.
الحاجة إلى علم السياسة
إذا كان إسهامات علم السياسة في الفعل السياسي غير معروفة أو غير موثقة بالشكل الكافي، وإذا كان انتقال العلم إلى حقل الفعل يؤدي إلى ضياع العلم أو  نبذ الفعل، فما هي إذن الحاجة إلى علم السياسة؟
إن مصطلح علم السياسة كما هو متداول في الحقل الأكاديمي اليوم يتعلق بتخصص يتميز عن بقية المعارف حول السياسية، والتي تشمل الفلسفة، والتاريخ والقانون. وسعى مؤسسو هذا العلم الذي ظهر بصيغته الحالية في الولايات المتحدة في مطلع القرن العشرين، إلى اعتباره علما جديدا مستقلا عن التراث المتراكم حول السياسة، وأنه وبشكل متميز ومستقل عن هذا التراث، يعطي الأولوية للامبريقية، والاستقراء، والجمع الممنهج للمعطيات، وتجريب الفرضيات على المعطيات. إنه في صيغته العلمية يعِد بتجاوز عجز بقية المعارف في تحويل المعرفة بالسياسة إلى علم يهدف إلى فهم السلوك والبحث الممنهج في أسبابه، عوض الاقتصار كما كان الأمر في السابق على الدراسات الوصفية للمؤسسات والنصوص، أو في تقديم افتراضات حول الشأن السياسي لا تتأسس على تجميع ممنهج للمعطيات المادية، وهو في هذه الصيغة غير المسبوقة يقترب من شروط العلوم البحتة في قدرته على التوصل إلى قوانين حول السلوك السياسي تسمح ليس فقط بمعرفة حقيقة السلوك في الحاضر، بل وقادرة أيضا على التنبؤ بمستقبل هذا السلوك.
كان هذا المقترب هو حصيلة الأطروحات التي تبناها مؤسسو علم السياسة كتخصص جامعي مستقل عن بقية التخصصات الأكاديمية، والتي عرفت مسارا بدأ مع جون بورجوس بدأ بتأسيس المدرسة العليا للعلوم السياسة في جامعة كولومبيا بمدينة نيويروك سنة 1880، وصدور مجلة دورية العلوم السياسية سنة 1886، The Political Science Quarterly) وتأسيس الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية سنة 1903. وفي سنة 1914 وصل عدد الجامعات الأمريكية التي أسست شعب مستقلة للعلوم السياسية 38 جامعة20. وبالنسبة لبقية الجامعات، فإن العلوم السياسية كانت تدرس في شعب التاريخ، والاقتصاد والسوسيولوجيا. وبدأت تبرز أولى أسماء علماء السياسة من خلال كتابتهم ابتداءا من أرتور بانتلي Arthur Bently و شارلس ماريامCharles Merriam
لكن الانطلاقة القوية للعلوم السياسية الأمريكية لم تحدث إلا مع سياق الحرب العالمية الثانية والتي ستصبح بعدها الولايات المتحدة قوة كبرى على الصعيد العالمي تبحث عن الخبرة المناسبة التي تؤهلها للقيام بدورها الجديد.  ووجد علماء السياسة في تلك الظروف المناسَبة الملائمة لمأسسة تخصصهم، وللحصول على الدعم المالي من الكونغريس وصناديق الدعم الخاصة لتمويل برامج ومراكز بحثهم ولتوسيع شعبهم.  وفي نفس الوقت، فإن المؤسسة العسكرية خلال الحرب وظفت عددا من خريجي شعب العلوم السياسية في صفوفها سواء لمدها بالمعلومات الميدانية عن ساحات معاركها عبر العالم أو لتدبير انعكاسات ظروف الحرب على الحياة الاقتصادية والاجتماعية داخل الولايات المتحدة. وبعد الحرب، التحق عدد من هؤلاء الجنود بشعب العلوم السياسية.
وفَّرت ظروف الحرب أيضا مناسبة تصفية حسابات علم السياسة الجديد مع التخصصات الأخرى المنافسة له، ومبررا للدفاع عن مقتربات منهجية ونظرية جديدة متميزة عن بقية العلوم الاجتماعية والإنسانية. وهكذا استغل علماء السياسة ظهور النازية غير المتوقع مناسبة لإبراز فشل المقتربات المؤسساتية والتاريخية والقانونية التي كانت سائدة في تحليل السياسة، وأدى ذلك إلى نشأة ما عُرف بالثورة السلوكية كمقترب يتبني مناهج البحث الكمي التجريبي المتبع في العلوم البحتة والذي هيمن على حقل علم السياسة في أمريكا خلال ما ينهاز العقدين. وأفرزت حاجة القوة العظمى الجديدة إلى إطار فكري يسهل التعامل مع التعدد الهائل في الأنظمة السياسية عبر العالم إلى التوظيف المكثف للبنيوية الوظيفية التي تبنّت مفهومي النظام (system) والثقافة المقتبستين من تالكوت بارسونس، عالم الاجتماع البارز في الدراسات التي أسست ما أصبح يعرف بعلم السياسة المقارن. ودعت ضرورة التدافع مع الاتحاد السوفياتي، القوة الدولية الكبرى المنافسة، إلى أن تبحث الولايات المتحدة عن أطروحات نظرية لمواجهة الماركسية التي كانت توفر إطارا نظريا وبرامج سياسية جد مغرية لسياسيي ومثقفي عالم الحرب الباردة. وأدى الاستثمار الهائل في حقل علم السياسة إلى صدور دراسات أكاديمية تسعى إلى سد النقص الحاصل لدى الأمريكيين في مجال التنمية السياسية والاقتصادية المتميزة عن الماركسية، كان من أكثرها شهرة كتاب والتر روستو حول مراحل التنمية الاقتصادية، والذي سمي بالبيان غير الشيوعي ردا على غريمه الشيوعي21.
شكلت هذه المقتربات، السلوكية والثقافية والعقلانية الاقتصادية، المدارس الرئيسة الثلاث التي ارتكز عليها علم السياسة في الولايات المتحدة، ووظفها في دراسة السياسة سواء في أمريكا أو عبر العالم، بشكل جعله يتميز عن بقية التخصصات الجامعية.
لقد وصلتنا في المغرب نتائج هذا العلم الجديد من خلال الدراسات التي أُنتجت في حقل علم السياسة المقارن على منطقتنا بصفة عامة، وعلى المغرب بصفة خاصة. أذكر من بين روادها جون واتربوري، الذي يعد نجم علم السياسة في المغرب بامتياز، وويليام زارتمان، وكليمان هانري مور، وقبلهم دوغلاس أشفورد. ولم يتمكن علم السياسة من احتكار هذا الحقل، حيث ظلت تنافسه بالنسبة للدراسات حول المغرب الأنثروبولوجيا، وهو الحقل الذي أغرى عددا كبيرا من كبار علمائه على غرار إيرنست غلنير الإنجليزي ذي الأصل التشيكي وكليفورد غيرتز وتلامذته.
بعد مرحلة الانبهار الأولى بالعلم الجديد ومقارباته ومناهجه وأطروحاته ونجومه، جاءت مرحلة مقارنة المنجزات بالوعود التي قدمها الآباء المؤسسون. ولم تصمد هذه الحصيلة أمام عدم قدرة العلم الجديد على توقع الأحداث الكبرى التي عرفتها أمريكا أو العالم، على غرار الفشل الذريع في حرب الفتنام، وظهور الحركة القوية لمعارضة هذه الحرب والمطالِبة بحقوق الأقليات، والثورة الإيرانية. لكن الضربة الموجعة لعلمية علم السياسة كانت هي السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي، والذي كان يشكل تخصصا باهظ التكاليف استفاد منه عدد كبير من علماء السياسة، والذين لم يتمكنوا مع ذلك من توقع ذلك السقوط، ولا من تفسير أسبابه من منطلقات المقاربات السائدة في تخصصهم. يضاف إلى ذلك أن مسارات الأنظمة السياسية عبر العالم لم تكن منسجمة مع أطروحات العلم الجديد التي سعت بطموح يتأكد الآن أنه كان مبالغا فيه لتفسير تلك الأنظمة وللتأثير في توجهاتها. خلقت هذه الحصيلة لعلم السياسة التي اعتبرها البعض فشلا22، السياقات المناسبة لظهور بارديغمات جديدة، والتي لا يتوقف المشتغلون في هذا الحقل على تطوريها على غرار الخيار العقلاني، والمؤسساتية الجديدة، ونظريات الحركات الاجتماعية. واستمرت الاجتهادات في تطوير توظيف المقتربات الكمية الإحصائية في فهم السياسة، الأمريكية منها على وجه الخصوص، كما ظهرت اتجاهات تتراجع عن الدفاع عن استقلالية علم السياسة وتسعى بدل ذلك للتقارب من علوم اجتماعية وإنسانية أخرى كالأنثروبولوجيا، والسيميولوجيا والفلسفة. وعلى عكس الإحساس بالثقة في إمكانية التأسيس لفهم علمي دقيق للسياسة يتجاوز نوعيا تراث المعرفة السياسية الذي تراكمت خلال خمسة قرون، تتقوى اليوم عبر العالم، قناعة أكثر تواضعا ذات نبرة ما بعد حداثية تعترف بحدود علمية السياسة، وبضرورة تفكيك العلاقة بين علم السياسة والسلطة، وباستمرار الحاجة إلى ما تحقق من تراكم المعرفة حول السياسة.
لكن وفي ظل هذه الانشغالات النظرية والمنهجية، تستمر شعب العلوم السياسية في جلب الآلاف من الطلبة، والذين توفر لهم ظروف الحروب فرص العمل، كما هو الأمر بالنسبة للحروب الكلاسيكية في الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب التي تدوم منذ أكثر من عقدين. وتخلق العولمة المتسارعة حاجة الدول والشركات والجمعيات غير الحكومية والصحافة إلى خريجي العلوم السياسة في مجالات مختلفة كالسياسة المقارنة، والاقتصاد السياسي، والتنمية، والدمقرطة، والحركات الاجتماعية والإعلام. ومن هذه الزاوية، فإن الحاجة إلى علم السياسة لا تعني توظيف الأطروحات النظرية في صنع القرار، بقدر ما هو استعمال الخبرات المنهجية والمعرفة السياسة في تنفيذ الخيارات والاستراتيجيات التي ينهجها المقررون.
تبدو ظروف تطور علم السياسة في المغرب لأول وهلة مختلفة كل الاختلاف عما حدث في الولايات المتحدة أو على الصعيد العالمي. في المغرب لم يظهر علم السياسة بشكل مستقل عن باقي التخصصات، إذ أنه بقي لحد الآن يدرس في كليات وشعب القانون، و جل رواده يحملون شهادات في القانون العام. لم يبرز في المغرب تيار قوي يدعو لاستقلاله، وأرجع ذلك من جهة إلى تأثير المقتربات الفرنسية في دراسة السياسة، وفي استمرار هيمنة الدولة كفاعل مركزي في الحقل السياسي. لكن تراجع هيمنة الدولة على السياسة في المغرب، والتنامي الواضح للمجتمع المدني، وتنوع أشكال ممارسة السياسة من طرف الفاعلين المجتمعين بما فيها الاحتجاجات والتحالفات، وتوسع الأدوار التي تلعبها المؤسسات والهيئات الدولية على الساحة السياسة المغربية بتعاون مع فاعلين دوليين أو مجتمعيين محليين، وتنوع وسائل الإعلام وخروجها عن سيطرة ومراقبة الدولة، كل ذلك يهيئ الظروف الملائمة لتطوير مقاربات للفعل السياسي تتميز عن المقاربات التي ظلت سائدة لحد الآن والتي تشكل الدولة والأحزاب مركزها. بل إن هناك حاجة إلى إعادة النظر في مقاربة الدولة التي ظل ينظر إليها بشكل متميز عن الأحزاب السياسية، في الوقت التي تراكم هذه الأخيرة تجربة تصل إلى عقد ونصف منذ حكومة اليوسفي، في تداخلها مع مؤسسات الدولة.
إذا كان علم السياسة قد تأسس في أمريكا بعد جدل كبير حول الحاجة إلى استقلاليته المنهجية والنظرية، بالإضافة إلى استقلالية المؤسساتية، ففي المغرب لم تثر نقاشات معمقة حول علاقة علم السياسية بباقي العلوم الاجتماعية والانسانية. تأسست بداية المعالجة الأكاديمية الحديثة للسياسة من طرف المغاربة على يد محمد الحبابي23، ثم فيما بعد بأقلام الجيل الأول من المؤرخين الحداثيين المغاربة، والتي كان موضوعها دحض تطبيقات العلوم الاجتماعية الغربية على حالة الدولة المغربية. وارتكز هذا الدحض على تقديم معطيات مستمدة من نصوص وأرشيفات محلية تبرز أخطاء الاستنتاجات وبالتالي ضعف الأطروحات المقدمة من طرف باحثين فرنسيين على وجه الخصوص.
كانت هذه الكتابات تسعى أيضا للتأثير على الفعل السياسي. ولم يكن الأمر بالنسبة لها، كما كان الأمر بالنسبة للكتابات السياسية لزعامات الحركة الوطنية مثل علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني، يقتصر على مواجهة المشروع السياسي الاستعماري الذي كان يوظف أبحاثا أكاديمية تنطلق من غياب دولة مغربية موحدة ومشروعة قبل الاستعمار لشرعنة وجوده. ففي 1958، تاريخ صدور كتاب الحبابي كان مشروع الدولة الاستعمارية في المغرب قد انتهى إلى الفشل. كانت أطروحة الحبابي تسعى إلى التأصيل لمؤسسات وثقافة مغربية سابقة للاستعمار ومترسخة في بنيات الدولة الدولة التقليدية، وذلك لتأهيل الانتقال الديمقراطي في المغرب، وللرد على منتقدي هذا التوجه بحجة أن الديمقراطية مفهوم مستورد، غريب على المغرب، كما وضحت ذلك مقدمة الكتاب التي حررها بنبركة ووقعها بصفته رئيس “المجلس الوطني الاستشاري”.
وبعد مرور أربع سنوات، وبعد عجز الحركة الوطنية عن تقليص سلطة الملك والحصول على موقع فعلي في مركز الدولة تخلى بنبركة عن أطروحة الجذور الحداثية لبنية الدولة المغربية وتبنى بدلها اختيارا سياسيا يستلهم مرجعياته من الفكر الماركسي في تحليل الدولة على أساس البنيات الاقتصادية وفهم السياسة من منطلق الصراع الطبقي تنفي كلها احتمال تغيير سياسي بديل عن الثورة24. وظلت الأطروحات الماركسية قوية النفوذ في كتابات الاقتصاديين المغاربة الذين شكلوا التوجه الأكثر بروزا في الكتابات عن السياسة المغربية، بالرغم من تنوع مواقفهم من محتوى مفهوم الثورة وطبيعة الدولة وشكل الصراع الطبقي.
نتجت عن فشل الاختيار الثوري في المغرب نقاشات مطولة من داخل الفكر الماركسي كانت تسعى إلى فهم عوامل الاستمرارية غير المتوقعة نظريا للنظام السياسي. وفي سياق عجز تلك النقاشات عن تقديم إجابات مقنعة، برزت الأطروحات الثقافية كمقترب بديل عن البنيات السوسيو-اقتصادية من مصدرين، علم السياسة الأمريكي الذي اشتهر في المغرب عبر جون واتربوري، وأطروحات الباتريمونيالية التي تبناها علماء السياسة الفرنسيون بتأثير واضح من الفيبرية التي كانت تلقى نجاحا كبيرا في حقل علم السياسة المقارن الأمريكي، والتي أثرت على الدراسات السياسية عبر العالم. وأصبحت الثقافة مقتربا مفضلا لدى عدد من الكتابات الأكاديمية حول السياسة داخل المغرب أيضا. اعترف بدورها الاقتصاديون الماركسيون في شخص عميدهم عزيز بلال25. وتتابعت مقالات الاقتصاديين عن الدولة وعن الطبقات السائدة في المغرب واعتبار أن تطورها لا يخضع بشكل حتمي للبنيات السيوسيو- اقتصادية.
خلقت هذه الظروف الفرصة السانحة لظهور حقل جديد مؤهل لخبرة علم السياسة، يتميز عن هيمنة المقترب الماركسي، ويتطلب التركيز على الدولة كبنية وكثقافة مركزية في فهم السياسة. شكل المخزن مصطلحا جذابا لهذا الغرض، سواء في تجلياته الحاضرة أو في امتدادته التاريخية، وكان موضوع اهتمام الجيل المؤسس لعلم السياسة كتخصص أكاديمي مستقل عن الاقتصاد والتاريخ، بالرغم من استمرار ارتباطه بالقانون أو بالسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. أُدخلُ في إطار هذا الجيل عبد الله ساعف، ومحمد الطوزي، وحسن رشيق، ورحمة بورقية. لدى هؤلاء لم تكن البنيات السوسيو-اقتصادية عاملا محددا في فهم السياسة، وتم التخلي عن المقتربات التي ظلت تركز على وجود تعارض مطلق بين البنيات والثقافة السياسية التقليدية من جهة وبين الحداثة من جهة أخرى. على المستوى العملي، سمحت هذه المقاربات بالاقتناع بقدرات المخزن على التأقلم مع تحديات التحديث، وعلى تبني سياسات إصلاحات حداثية في مجالات متنوعة مثل قانون المرأة، والأمازيغية، وحقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية والبشرية. ومهدت هذه القناعات الفكرية للدور الذي لعبه هذا الجيل في المساهمة في ببلورة هذه الإصلاحات أو تبنيها والدفاع عنها داخل هيئات استشارية رسمية.
وبشكل متوازي مع هذه التطورات، برزت ظاهرة الإسلام السياسي على مستوى المغرب على غرار بقية العالم، وشكلت موضوع عشرات الأطروحات الجامعية في المغرب ساهم في تأطير عدد كبير منها كل من محمد الطوزي ومحمد ظريف، رائدي البحث الأكاديمي حول هذه الظاهرة في شعب علم السياسية المغربية. وبالرغم من غياب طموح نظري معلن في جل هذه الكتابات، والاهتمام الكبير والمفيد الذي بدلته في توثيق الظاهرة وتجميع المعطيات الميدانية حولها، إلا أنها ساهمت من جهة في إبراز المخزن كنظام (system) يقوم بوظائفه السياسية بشكل فعال، ومن جهة أخرى أظهرت البعد العقلاني لحسابات فاعلين ليسوا سجناء البنيات الثقافية أو السوسيو-اقتصادية. على المستوى العملي، أعتبر أن هذه المقاربات ساهمت في تجاوز التشنج الذي عرفته المقاربات الفكرية لظاهرة الإسلام السياسي في دول أخرى، وأنها هيئت على المستوى النظري للمشاركة السلمية لهذه الحركة في ما يعرف منذ يناير 2012 بحكومة بنكيران يتعايش فيها حزب إسلامي مع النظام الملكي وتتحالف في إطارها أحزاب من مشارب إيديولوجية متنوعة.
وتنبغي الإشارة إلى أن الكتابات حول هذا الموضوع من حقل الفلسفة ساهمت هي الأخرى في التفكير في هذا التقارب السياسي. وتعد حفريات محمد عابد الجابري في التراث السياسي العربي الإسلامي، واعترافه بقيمة هذا التراث، وتفكيكه على المستوى الفلسفي، تمهيدا لما كان يدعو له لتشكيل كتلة تاريخية كتحالف سياسي منشود بين العلمانيين والإسلاميين.
بالرغم من هذه التقابلات الافتراضية التي نقوم بها بين الفكر والفعل، فنحن لا نعرف بعد، ولربما لن نعرف قط، مدى التأثير الفعلي الموثق لهذه الأطروحات الفكرية في حقل المعرفة السياسية على الفعل السياسي في المغرب وعلى صانعي القرار سواء على مستوى الدولة أو المجتمع. ومن المحتمل أن تكون مجريات السياسة سارت بتأثيرات لا رابط بينها وبين ما أنتج من أطروحات. لكن، وكما هو الأمر بالنسبة للولايات المتحدة، فإن أفواج الطلبة تستمر في التخرج من شعب العلوم القانونية والسياسية، وإذا كانت القلة القليلة منهم تجد منافذ لها في الجامعات كأساتذة، والأغلبية تشتغل في حقول بعيدة عن عالم السياسة، فالملاحظ هو أن عددا لا يستهان به منهم يلتحقون بمناصب مؤثرة في مؤسسات الدولة، أو بصفوف الحركات السياسية أو الجمعيات المدنية، أو يوظفون معارفهم في مجال الإعلام المكتوب والإلكتروني.
تسمح حصيلة علم السياسة هاته على الصعيدين المغربي والعالمي بأن يكون الجواب على سؤال الحاجة إلى علم السياسة إيجابيا. لكن إيجابية الجواب ليست مرتبطة بتأثير غير موثق للفكر على الفعل، بقدر ما هي متعلقة بكون أن هذا التخصص يساهم في تهييئ طلبته إلى الحصول على عمل وإلى توظيف بعض الخبرات التي يوفها لهم هذا التخصص، ليس بالضرورة في ممارسة السياسة أو صنع القرار والتأثير فيه بقدر ماهو في تدبير وتفعيل الخيارات المتبناة من قبل الفاعلين السياسيين المؤثرين. وبالرغم من أن الخيارات التي تتبناها القوى المعارضة كثيرا ما لا تتأسس على أطروحات نظرية، وهو الأمر الذي كان تحدث عنه العروي في ستينيات القرن العشرين، وتمت الإشارة إليه في الكثير من التعاليق حول الربيع العربي حاليا، فإن تبني أطروحات نظرية كمراجع ملهمة للتيارات المعارضة لا يشكل أي ضمان محقق للنجاح، كما أكدته تجارب المعارضة الماركسية في المغرب وعبر العالم.
وتكمن الحاجة إلى علم السياسة أخيرا، وبشكل خاص حسب رأيي، في ما توفره أطروحاته ونظرياته ومناهجه من متعة كشف سحر السلطة، وأسرارها، وأقنعتها، وحيلها، ومكرها. وهي عملية لا تقف فقط عند المتعة التي تحققها، بل هي تخلق الإحساس لدى متلقي المعرفة السياسة ومنتجها، بالحرية إزاء سيطرة السلطة السياسة، والإحتمال الممكن للتحرر من أدواتها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

هل هناك حاجة لعلم السياسة؟ .عبد الحي مودن :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

هل هناك حاجة لعلم السياسة؟ .عبد الحي مودن

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: