العدالة ومآزقها. أمارتيا صن ومفارقات العدالة..نبيل فازيو 23 مارس 2013 في ملفـــــات أضف تعليقالا يستقيم الحديث عن مسألة العدالة في خطاب الفيلسوف الهندي أمارتيا صن دونما انتباه إلى المشارب والروافد الغزيرة التي نهل منها رؤيته لهذا المفهوم؛ فالرجل، وعلاوة على كونه واحدا من جهابذة الفكر الاقتصادي المعاصر1، قد انخرط في استشكال سؤال العدالة في جو فكري هيمن عليه نقد جون راولز لتصور كل من النزعتين الحدسية والبراغماتية لمفهوم العدالة، وذلك في إطار بلورته لنظريته الخاصة في الموضوع، والتي أرسى قواعدها على مفهوم الإنصاف كما هو معلوم. عبر هذا السجال الذي اتصف بعمق في النظر إلى المفهوم، والذي اجتذب جمهرة من كبار رموز الفلسفة المعاصرة، من أمثال هابرماس وراولز ورورتي ودريدا وريكور وساندل2، عن وعي الفكر الفلسفي المعاصر بالحاجة إلى التأسيس لسؤال العدالة، من حيث كونه سؤالا محددا للكينونة الإنسانية، من خلال تحديد للإطار النظري الذي يتيح تفكيك مفهومها وبلورة نمط مناسب من الاستدلال من شأنه أن يفيدنا في التفكير في الموضوع(ص142)، كما أثبت ذلك النقاش قدرة الفكر الفلسفي على الإنصات لراهنه والتفكير في سؤاله، الذي تبدى هذه المرة في صورة اهتجاس بالعدالة بحسبانها القضية المحورية في زمن ما بعد الحداثة.
1-
فـي نقد راولـز.
اتسمت أعمال راولز حول مفهوم العدالة بطابعها التأسيسي الذي مكنه من الارتفاع بسؤالها إلى مستوى النظرية التي نهل، في سبيل بلورتها، من روافد نظرية متعددة ومختلفة3. وهو ما جعل من أطروحة هذا الفيلسوف مرتكزا لكل من أوكل إلى نفسه مهمة الانخراط في النقاش الدائر، في الولايات المتحدة على الأقل، حول العدالة4. ليس مرد هذه المكانة الفريدة التي تبوأها راولز إلى الفقر النظري الذي هيمن على مفهوم العدالة إبان عقد هذا المفكر لمصنفه حولها كما ذهب بعض الباحثين5، بقدر ما إن الغاية من إعادة التأسيس للعدالة أينع في ضوء قناعة بالمنزلقات والمفارقات الكثيرة التي يقود إليها التصور الذرائعي الذي استتب له أمر احتكار القول في العدالة قبيل ظهور تصور راولز. يعترف صن بالقيمة الفكرية لنظرية راولز، ولا ينفك ينبه قارئه إلى المنعطف الكبير الذي أحدثته هذه النظرية في تاريخ الفكر السياسي والأخلاقي، لذلك فإنه لا يجد حرجا في الاعتراف بأن أطروحة هذا الفيلسوف ستشكل المنطلق والقاعدة النظرية التي عليها ستتأسس نظريته(ص81)، أو لنقل فكرته عن العدالة. لذلك فإن نقد كتابنظرية العدالة في خطاب صن لا يعني أبدا هدم وجه نظره أو تقويضها، بقدر ما يشي بمحاولة جدية لاستثمار مكتسباتها والتنبيه على المغالطات التي ما فتئت تعتريها، في أفق شق دروب جديدة أمامها. وإذا كان اللقاء براولز بالنسبة إلى صن، قد تم في مناسبات عدة؛ من قبيل نقد التصور الذرائعي والنزعة الجماعاتية، وعلى مستوى أكثر من مفهوم ، فإن المنطلق في هذا اللقاء تجلى في مفهوم الإنصاف الذي يبقى العمدة في رؤية راولز للعدالة كما هو معلوم. لذلك نقرأ لصن في هذا المقام؛ “إن إسهامات راولز الكبرى في فكرتي الإنصاف والعدالة تستحق التنويه؛ غير أنني بينت أن في نظريته عن العدالة أفكارا تستلزم فحصا نقديا، بل وتغييرا. لقد وضح لنا جيدا تحليله للإنصاف وللعدالة، للمؤسسات والسلوك، فهمنا للعدالة. كما أن تحليله ذلك لعب وما يزال دورا تأسيسيا في تقدم نظرية العدالة. بيد أننا لا نقدر على جعل عالم تفكير راولز نقطة نهاية فكرية. يجب علينا أن نستثمر غنى أفكاره ومواصلة عمله، عوض الاكتفاء بمكاسبها”(ص106).
وفي هذا المضمار يمكن للقارئ في أعمال راولز أن يفطن إلى صعوبة إحداث ميز واضح المعالم بين الإنصاف والعدالة في خطابه. إذ أطنب في التأكيد على التماهي الجوهري الحاصل بين المفهومين، هذا إن لم يكن الإنصاف شرطا قبليا لكل تفكير مشروع في موضوع العدالة، حيث يغدو تصور هذه الأخيرة نتيجة لما رسخ في أذهان الأفراد حول مفهوم الانصاف. يؤكد صن بدوره على هذا المعطى، معتبرا أن أي نظر في مشكلة العدالة لابد له أن يتم في اتصال بسؤال الإنصاف(ص83). لا يعني هذا الموقف، وخلافا لما يبدو عليه منذ الوهلة الأولى، استسهالا من صاحبه للطابع الإشكالي الذي يتسم به مفهوم الإنصاف في متن صاحب نظرية العدالة، إذ سرعان ما ينبه قارئه إلى الصعوبات التي تستوقف كل من ينتدب نفسه لفض شفرات هذا المفهوم ذي الصبغة السياسية. لذلك وجدنا صن ينتهج أسلوب التعريف بالسلب في تحديده لمعنى الإنصاف قائلا: “[إننا نقصد بالإنصاف] ألا نكون أنانيين في تقديراتنا، وأن نأخذ بعين الاعتبار مصالح الآخرين واهتماماتهم، وسيكون علينا تحديدا أن نتجنب هيمنة مصالحنا وأولوياتنا علينا”(ص83).
يمكن للباحث أن يلحظ كيف أن شرط النزاهة، أو عدم الانحياز في تقييم الأوضاع، هو ما يمثل ماهية فكرة العدالة كإنصاف في تصور كل من راولز وصن. لذلك فإن هذا الموقف يبقى في حاجة إلى الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن لمثل هذه الوضعية المحكومة بالإنصاف أن تينع في كنف الصراعات التي يرشح أمرها في الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي تغلب عليها وضعية اللاعدالة (الظلم) وغياب الإنصاف؟ أو بصيغة تساؤلية أكثر اتساعا نقول: هل من المشروع الحديث عن وضعية تأسيسية لحالة العدالة المنصفة رغم كل المؤشرات، الغزيرة والقوية، على غياب العدالة والإنصاف؟.
للخروج من هذا المأزق النظري وظف راولز مفهوم “الوضعية الأصلية” الذي مكنه من افتراض حالة ابتدائية يغلب فيها على كل الفاعلين الوعي بموقعهم ضمن المجتمع ككل ناظم لمختلف المصالح. يقول صن معرفا لهذه الوضعية: “إنها وضعية أولية ومتصورة تهيمن عليها المساواة، يكون الفاعلون فيها جاهلين بهويتهم الخاصة وكذا بالمصالح المشتركة الواجب احترامها في كنف المجتمع”(ص84). يتعلق الأمر إذن، ودرءا لكل سوء فهم، بوضعية افتراضية6 يستوي أمرها على مقتضى المساواة في الفرص بين جميع الأطراف، أي أن ثمة مساواة على صعيد حرية كل فرد في الاختيار الذي يستجيب لمصالحه في ضوء جهل (مفترض على الأقل) بقواعد اللعبة التي تدير مختلف العلاقات المتصورة بين الأفراد. يشدد راولس في كتابه نظرية العدالة على شرط الجهل المؤسِس (أو الغفلة) في تحديد التقاسيم العامة لمبادئ العدالة التي تنبثق من وضعية الجهل تلك، والتي يكون عليها أن تسهم بشكل جوهري في تحديد شكل المؤسسات القادرة على الإدارة الجيدة للمجتمع الذي وجدت فيه. هكذا تتحدد طبيعة الوضعية الافتراضية انطلاقا من التضارب العفوي والطبيعي بين مصالح الأفراد، وسيكون على نظرية العدالة أن تضفي نوعا من المعقولية على تلك الوضعية بأن تكشف عن الكيفية التي تتناسل بها تصورات الأفراد عن العدالة انطلاقا من وضعيتهم الأصيلة.
نتبين في أعقاب ما تقدم كيف أن فكرة الإنصاف سرعان ما تنفلت من شرنقتها التأملية لتهوي في مجال السياسة وتدبير المجتمع، لذلك لم يتردد راولز في وصف نظريته، ومنذ سنة 1993، بأنها تصور سياسي للعدالة(ص85)؛ إذ إن الأفق الذي يستشكل في ضوئه سؤال العدالة عامة هو أفق السياسة والاجتماع الذي ينأى برؤيته عن جل المقاربات التأملية، الأمر الذي يفسر لنا امتعاض الرجل من التأويلات التأملية والنظرية التي نسبت إلى نظريته. وضدا على هذه الاعتبارات التي لم يتردد في التصريح بأن نظريته في غنية عنها، ذهب الفيلسوف الأمريكي إلى القول إن ما يهمه من نظره في العدالة هو تحديد الوظيفة العاجلة التي يجب على الفكر السياسي النهوض بها7. هذا رغم صلته الوثيقة بأبرز النظريات الفلسفية وعلى رأسها تلك التي نحث فلاسفة العقد الاجتماعي ملامحها.
هاهنا يمكن أن نلاحظ أن راولز، وفي مضمار بلورته لمفهوم “البنية القاعدية” إنما حافظ على بعض تقاسيم نظرية العقد الاجتماعي، وذلك بأن أبقى على إمكانية التوصل إلى اتفاق مبدئي حول الخلافات السياسية الكبرى شريطة أن يتوفر الأفراد، المنتمون إلى مجتمع بعينه، على تصور معقول عن العدالة(ص85). إن أهمية توفر الفاعلين على مثل هذا التصور إنما مرده إلى ما يتيح لهم ذلك من فرص لفتح نقاش عمومي للنظر في شأن القضايا السياسية البارزة، ويخص فيلسوفنا بالذكر ما تعلق منها بالأسئلة المؤسساتية ذات الصلة بالعدالة8. لا يعني هذا أبدا أن الاختلاف، من حيث هو مبدأ مؤسس، لا محل له ضمن هذا التصور التعاقدي؛ إذ يبقى من المنتظر أن تطفح على سطح الحياة الاجتماعية اختلافات حول قضايا ذات صلة بالاجتماع من قبيل الدين والعرق والعقيدة والأخلاقيات العامة…الخ، بيد أن النقاش العمومي يبقى قادرا في نظر راولس، على صهر العوائق التي تحول دون تقديم تنازلات من طرف كل الأفراد حول هذه القضية أو تلك. من هنا تنبع أهمية الفضاء العمومي؛ إذ بفضله يحقق الأفراد شرط وجودهم السياسي بأن ينخرطوا في المناقشة الحرة لكل القضايا المتعلقة بمجتمعهم، مما يأذن لهم بتحقيق القدر الضروري من العدالة والإنصاف بين مواقفهم المختلفة.
وإذا كان الأفراد، من منظور راولز، كائنات سياسية بمقدار ما إنهم قادرون على الاختيار الحر، فإن قوة نظريته إنما تنبع حسب صن من كونها تعتبر المبادئ الأولى للعدالة نتيجة لتلك الاختيارات العفوية التي يقوم بها الأفراد وهم في وضعهم التأسيسي. يعني هذا القول أن مثل هذه الاختيارات المبدئية من شأنها أن تترجم تمثلات الأفراد عن العدالة ورؤيتهم الضمنية لها. وفي ما يتعلق بهذا المنظور، فإن ما يهم راولز هو ما يكشف عنه ذلك من تصورهم للإنصاف بما هو أس العدالة وجوهرها. ومهما يكن من أمر، فإن الثابت في نهاية المطاف هو أن مقاربة الفيلسوف الأمريكي لمسألة العدالة إنما رامت بيان الكيفية التي تنبثق وفقها المبادئ المؤسسة لها، والتي صاغها، ومن بعده أمارتيا صن، كما يلي:
- لكل فرد الحق في الحصول على الحريات الأساسية على نحو متساوي مع غيره.
- هناك شرطان أساسيان يجب على التباينات الاجتماعية أن تستجيب لهما إن هي أرادت أن تحظى بقدر معقول من المشروعية؛ أولهما الحاجة إلى تعميم الاستفادة من كافة الفرص على جميع الأفراد، وثانيهما تمكين الفئات الأكثر تهميشا من الاستفادة بدورها من عائدات وخيرات تلك الفوارق9.
يحسن بنا بداية، أن ننتبه إلى المكانة الشرفية التي تتبوؤها الحرية ضمن هذا التصور حسب صن؛ إذ إن صاحبه أبى إلا أن ينأى بها عن اعتبارها مجرد وسيلة، من بين وسائل أخرى، يمكن الاعتداد بها لتحقيق غايات معينة(ص90). كما يجب أن نفطن إلى جملة الصعوبات المؤسساتية التي تمكنت نظرية راولز من التخفيف من حدتها؛ وبيانه أن تشديد المبدإ الثاني على حاجة العدالة إلى الانفتاح على فكرة تكافئ الفرص إنما عبر عن حاجة مؤسساتية لا يمكن تجاهلها في أي مجتمع، إذ من شأن ذلك أن يوقع في إخراج شرط المواطنة من سياقه السياسي ليغدو محكوما بأولويات لا سياسية كالعرق أو الدين أو الثقافة…الخ.
تتيح هذه النظرية إذن تعميم الاستفادة من الخيرات الأولية على الجميع، وهو ما يعني أن الإنصاف يتضمن تكافؤ الفرص بالضرورة. بيد أن المأزق الذي يستوقف تصور راولز في هذا المضمار هو أن الحرية تعتبر بدورها، وبجهة من الجهات، من جملة تلك الخيرات الأساسية التي يجب على الجميع الاستفادة منها، الأمر الذي يهبط بها إلى منزلة الوسيلة التي أطنب الفيلسوف الأمريكي في القول إنها مجافية لأهمية الحرية(ص90) ومقامها. وهو ما فطن إليه صن في تعليقه على مبادئ راولز، إذ يلحظ أن هذا الأخير يحشر الحرية ضمن الخيرات الأولية، كما أنه ينبه على جملة الاعتبارات الحقوقية التي لا يحتفل بها دون سبب يذكر، رغم علاقتها البينة بمسألة العدالة، والتي يبقى من بينها تصور الرجل لموقع الأفراد في الاتفاق التأسيسي الذي يحدد مستقبل العدالة بينهم.
هذه باختصار هي التقاسيم العامة لنظرية راولز كما حددها صن، ويبقى من النافل القول إن رؤيته هذه قد أسعفت البحث في مجال الفكر السياسي والفلسفة الأخلاقية بحل لكثير من القضايا التي ظلت عالقة، وذلك بأن ضخت جملة من المفاهيم الإجرائية يبقى على رأسها مفهوم الإنصاف الذي أعاد ترتيب أوضاع العدالة بأن فتح أمام تصورها آفاق التوزيع العادل وكشف عن شرط النزاهة كمحدد قبلي لفهم الأفراد لها. أضف إلى ذلك، ووفق رصد صن لمظاهر إسهام راولز، أهمية اعتداد هذه النظرية بمفهوم الموضوعية بحسبانه “العنصر الأول” الذي يعري على الحاجة إلى نقاش عمومي حر وواعي حول العدالة. ويمكن أن ننتبه في هذا السياق إلى أن تحصيل وعي بالموضوعية من شأنه أن يقود الأفراد إلى التفكير حتما في سؤال العقلانية؛ أي هل يمكن للاختيارات الفردية أن تخضع لمبدإ العقلانية في الحياة الاجتماعية اليومية أم لا؟ من المؤكد أن السؤال ينأى بنفسه، ظاهريا على الأقل، عن كل المقاربات المثالية، وقد يكون من علامات ذلك تمييز راولز الواضح بين العقلاني والمعقول، وهو تمييز سرعان ما يلقي بظلاله على فهم الرجل للحرية التي تحتل في كتاباته مقام الصدارة. ورغم الغموض النسبي الذي يكتنف موقفه بشأن ما إذا كانت الحرية من جملة الخيرات الأولية (الضرورية) التي يمكن تحويلها إلى وسائل، أم إنها تتنطع من شرنقة النظرة الآداتية لها، فإن الثابت في نهاية المطاف هو أن فيلسوفنا يكل إليها مهام أخرى على علاقة بما هو شخصي وفردي، حينها تغدو الحرية علامة على طبيعة العلاقة بين المجال العمومي والمجال الخاص، وهي بذلك تكشف لنا عن مقدار إنصاف الكل في ما يتعلق بحرياتهم الشخصية وانفتاحهم على الفضاء العمومي حسب صن(ص95). هذا ولا يمكن أن نذهل في نظر هذا الأخير عن أهمية سهم راولز في تنبيه العلوم الاجتماعية إلى مسألة اللاتكافئ، وذلك بأن نبه مبدأ الاختلاف كما رأينا على خطورة أن تهوي العدالة إلى دركها.
بيد أن أهمية هذه النظرية ليست تنحصر في ما أفادت به الفلسفة السياسية فقط، بل إنها تشمل الآفاق النظرية التي أتاحتها مساجلتها من طرف العديد من الفلاسفة، والتي ركزت على إظهار الثغرات التي تعتور تصور راولز. يميز صن في هذه الأخيرة بين ضربين؛ ثغرات يمكن تشذيبها لتجد مكانتها المنطقية ضمن عناصر النظرية، وأخرى سيكون من الضروري اعتبارها مظاهر أزمة تشي بإمكانيات مجاوزة نظرية راولز. كيف ذلك؟
نبادر أولا إلى التنبيه إلى بعض الأمور التي يمكن إعادة موقعتها ضمن نسق راولز في نظر صن، من قبيل مغالاته غير المبررة في الإعلاء من شأن الحرية قياسا بغيرها من الأولويات الضرورية10، وكذا تشديده على أسبقية التوزيع العادل للثروات الذي أفضى إلى عدم إعطاء القدرات الشخصية للفرد قيمتها الحقيقية. ويمكن أن نلاحظ أن السير بهتين القضيتين صوب تصور صن لا يقود بالضرورة إلى خلخلة نظرية راولس، بقدر ما يعطيها قوة إجرائية أوسع وأشمل.
في مقابل ذلك، يرصد الفيلسوف الهندي عددا من النقاط التي تعبر عن مأزق فعلي من شأنه أن يحمل الفكر السياسي على مجاوزة نظرية راولز، يذكر لنا من بينها مغالاة صاحبها في الإعلاء من شأن دور المؤسسات في تجسيد العدالة وتحديد معناها(ص100)، الأمر الذي يحجب عنا الدور الفعال الذي يؤديه سلوك الأفراد في نحت معنى هذا المفهوم. وبيانه أن اللهث وراء وضع مبادئ للعدالة لا يعني أبدا وضع اليد على وجودها الواقعي من جهة، ولا على تمثل الأفراد لها من جهة ثانية. لذلك فإن السؤال المطروح ليس ينحصر في اختيار المبادئ العقلانية للعدالة وتمثل الأفراد لها وكذا المؤسسات المتمخضة عنها، بل يستشكل بالدرجة الأولى كيفية “اشتغال المؤسسات التي تم اختيارها في عالم في عالم قد لا يتطابق فيه دائما السلوك الواقعي لكل فرد مع السلوك العقلاني المأمول في تحقيقه”(ص100). إن هذه الرؤية العقلانية المفارقة تجد جذورها في نظر صن في كون راولز ظل يبحث عن ذلك التعاقد الاجتماعي الذي يمكن للجميع أن يتقبله، على الأقل في ما يتعلق بالوضعية التأسيسية أو الأصلية. وذلك في مقابل التصور الذرائعي الذي عمل صاحب نظرية العدالة على إظهار تعارضه مع التصور التعاقدي.
يلاحظ صن أن التركيز على المقارنة بين هذين الموقفين قاد راولز إلى ارتكاب خطإ منهجي تمثل في إغفاله استثمار بعض المقاربات التي لا تقل أهمية عن التصور التعاقدي والذرائعي. ويمكن أن نشير في نظره إلى التصور الذي بلوره آدم سميث في أعقاب لجوئه لآلية “الملاحظ النزيه” من أجل تعميق النظر في مسألة الإنصاف. إن هذا النموذج لا يصدر عن مسلمات أية واحدة من المقاربتين، وهو ما يفسر لنا قدرته على فتح آفاق أمام التنظير للعدالة والإنصاف معا. الأمر الذي يؤهله إلى تحقيق أمور تقع خارج آفاق مقاربة العقد الاجتماعي. ويذكر صن من بين ذلك قدرته على إعمال مقاربات مقارنة عوض الاكتفاء بتقديم حلول متعالية(ص102). وكذا اعتماده على الموقف والمعطيات الاجتماعية بدل الاكتفاء بالاكراهات المؤسساتية والقانونية، الأمر الذي يتيح لنا إمكانية التفكير في العدالة انطلاقا من السعي إلى تبديد اللاعدالة. هذا بالإضافة إلى إمكانية الانفتاح على مواقف الأشخاص البرانيين عن الجماعة التعاقدية من أجل استشراف معالم عدالة موسعة أو عالمية خلافا لما ذهب إليه راولز. وبيانه أن مسلمات الوضعية الأصيلة لم يكن لها إلا أن تقود إلى حصر امتداد العدالة في الأفراد المشمولين بالتعاقد. يرفض صن هذه الرؤية الضيقة للعدالة بالقول إن النظر إلى العدالة داخل بلد ما لابد أن يجرنا إلى الخروج عن حدوده واستشراف معالم العالم الخارجي الذي ما ينفك يتدخل في مسار العدالة داخل هذا الوطن أو ذاك. أما مرد ذلك فإلى سببين في نظر الفيلسوف الهندي؛ أولهما أن كل بلد يمكنه أن يؤثر في غيره من حيث كيفية اشتغال مؤسساته السياسية، وهو ما يتبدى جليا من حدث كغزو العراق أو محاربة الإرهاب(ص103). وثانيهما يتعلق بقدرة الآخر على التأثير في المعايير والقيم الأخلاقية بالنسبة إلى كل كيان سياسي. لذلك قد يكون النقاش العمومي المنفتح على آفاق كونية أفيد من الاكتفاء بنقاش ذي بعد محلي، وهو العيب الذي ظل يسكن مقاربة راولز للعدالة، إذ سرعان ما هوت في رؤية ضيقة جعلت من العدالة مسألة جهوية. ولئن كان من الصعب اتهام راولز بجهوية مقاربته، وهو الذي ظل مهووسا بنظرية للعدالة شاملة، فإن الحديث عن كونية العدالة لا يخلو هو الآخر من مفارقات لم يعرها صن اهتمامها الذي تستحق في تقدري، إذ العدالة ليست مجرد فكرة يمكن أن نأقلمها دون أن تتلون بخصائص الفضاء الذي ولجت إليه11.
الإثنين فبراير 08, 2016 10:02 am من طرف نابغة