مقدمة:
لا يمكن إدراك حقيقته اسم العدل أو العدالة إلا بالإضافة إلى نقيضه الظلم وبالصراع الذي يبذله الإنسان للتخفيف من وطأته والتقليص من أسبابه. وهذه الإضافة إلى ضده هي التي جعلت العدالة اسما ملتبسا يجمع بين التعالي عن الثقافة والزمان، واستمداد معناه من التاريخ ومن ثقافات الشعوب، وبالتالي لا يمكن أن نتكلم عن “العدالة بما هي عدالة”، أي بما هي ماهية واحدة في ذاتها، وإنما عن عدالات متباينة حسب الثقافات. ولا يقتصر معنى هذا التعدد على الاختلاف المجالي بين عدالة اجتماعية، وعدالة قانونية (عدل المحاكم)، وعدالة اقتصادية (العدالة التوزيعية)، وعدالة سياسية (الديمقراطية)، وعدالة ثقافية (الإنصاف بين الهويات)، وعدالة شرعية وعدالة عقلية الخ.، بل يتجاوز ذلك إلى الاختلاف الدلالي؛ فالقضاء بالحق عدالة، والعقاب عدالة، وفعل ما يجب عدالة، واجتناب ما هو محظور عدالة، والتوسط والاعتدال عدالة، وغلبة الحق عدالة، والعدل مساواة وإحسان الذي هو تجاوز المساواة في المكافأة. كما أن العدالة لا تقال بمعنى واحد في الأزمنة والثقافات والمذاهب المختلفة. فقد كانت الثقافات القديمة والوسطوية وحتى الحديثة تعتبر الاستعباد تجارة مشروعة وضرورية لبقاء الحضارة، في حين أصبحت هي عين الظلم عندما اكتُشفت وسائل وقوى الإنتاج الآلية الحديثة، وحينما انتشرت وتوطدت أفكار حقوق الإنسان بين الجمهور. والميز العنصري لم يتم القضاء عليه فعليا في الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب إفريقيا إلا مؤخرا بسبب اعتقاد البيض أنه من العدل استرقاق السود.
العدالة بطبيعتها، إذن، تاريخية. فهي وإن كانت تحوز على الإجماع بين كل البشر بوصفها أعز القيم لدى الإنسان، فإنها ستبقى دائما مثالا أعلى ينتظر التحقيق، مما يعني أن الصراع حول طرق ومعايير تحديدها وإنجازها لن يتوقف بين الأفراد والجماعات والثقافات والأديان والإيديولوجيات والدول. فما يُعد عدالة في حق المرأة في الهند أو في الإسلام هو عين الظلم في نظر الثقافة الغربية، وما يعد عدلا في حقها في الثقافات الغربية المعاصرة يُعتبر انحلالا وخروجا عن القيم الأخلاقية والتعاليم الدينية السامية لدى بعض الاتجاهات الإسلامية والهندوسية المتشددة. من هذه الجهة، لا يوجد إجماع حول معنى العدالة بين الثقافات والأزمنة، لكن الجميع يتغنى باسمها ويتوق إلى تحقيقها كأفق أعلى.
إن تغني الجميع باسمها يخفف من نسبيتها التاريخية وتعددها الدلالي ويسمح بالتوافق على معايير عامة ومشتركة حولها مهما اختلفت الأزمنة والحضارات والمذاهب. فالإجماع يكاد ينعقد على أنه لكي تكون العدالة عدالات، ينبغي على الأقل أن تقوم على: أولا على الحرية وعلىالعقل وعلى الحق وعلى الإنصاف وعلى المساواة، وهي أن تُنزل الآخر منزلة نفسك، وعلىالحق في الاختلاف.
والعدالة إذ ترتكز على هذه المعايير الستة فلغاية ضمان شروط العيش المشترك، وتوفير الظروف الملائمة للتفكير تفكيرا عقلانيا حرا، وتأمين البيئة المناسبة للشعور بالتعاطف مع المظلوم، وفتح أفق شفاف يمكّن الناس من رؤية الظلم ظلما، والتنديد به والعمل على استئصاله قدر الإمكان. ذلك أن البيئة المحرومة من ظروف مواتية للإحساس بضرورة العدل وللتفكير فيه تفكيرا عقلانيا قد تجعل الناس غير قادرين على الشعور بالظلم حتى بالنسبة لأنفسهم، عِلماً بأن هذا الوضع ليس معناه أنهم لا يملكون أصلا القدرة على هذا التفكير أو الاستطاعة على الإحساس بالظلم. فالجماعات الثقافية (الطالبان) التي تحْرِم الفتاة الأفغانية من حقها في التعلم والمعرفة باسم “العدل الإلهي”، أو ترغمها على الزواج وهي لم تتجاوز عتبة الطفولة، تبدو وكأنها غير قادرة على الشعور بفداحة الظلم الذي ترتكبه ولا مؤهلة على التفكير تفكيرا عقلانيا وحرّا. بل إن هذا العجز عن الانفعال بالظلم وتشخيصه تشخيصا عقليا ينتقل إلى الفتاة نفسها، دون أن يعني ذلك أنها غير قادرة أصلا على التفكير العقلاني أو على الشعور بالظلم والحرمان الذي تعانيه منه، وإنما معناه أنها حُرِمت من الشروط الضرورية التي تسمح لها بتفعيل قدراتها الفطرية. ولذلك، فإن إمكانية الانفصال عن تأثير الجماعة والهوية الموروثة والانتفاض ضد وصايتها أمر وارد دائما بالنسبة لها، لأن القدرات العقلية والأخلاقية ما زالت كامنة فيها.
من جهة أخرى، تميز تاريخ العدالة المعاصر بتفجير الفيلسوف الأمريكي جون راولز (John Rawls) النقاش حولها منذ سنة 1958 بمقاله المشهور “العدالة من حيث هي إنصاف”، حيث صارت العدالة بؤرة النقاش في الفلسفات السياسية بمختلف اتجاهاتها. وكان أحد أهم الكتب الأخيرة التي ناقشت كتاب راولز نظرية العدالة كتاب فكرة العدالة للمفكر الهندي أمارتيا صن (Amartya Sen). كانت مناقشة هذا الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل لكتاب راولز مناسبة لمناقشة عدد كبير من المبادئ والأفكار والمدارس المتصلة بالعدالة. وبسبب هذا التعدد الغنيّ، ارتأينا أن نخصص هذا المقال لجانب واحد من جوانب الكتاب هو علاقة العدل بالعقل، أو صلة العدالة بالعقلانية وما يتصل بها أو يتعارض معها.
ولكي نستوعب جيدا مدى التجديد الذي قام به صاحب كتاب فكرة العدالة في التعاطي مع علاقة العقل بالعدالة سيكون من المفيد أن نلقي نظرة سريعة على طبيعة هذه العلاقة في الفلسفات السياسية اليونانية والعربية والتي شيدت حلمها للعدالة المحضة على أساس العقل النظري؛ والتخلي عن هذا الحلم بواسطة العقل العملي كان هو إنجاز الحداثة في مجال العدالة؛ بعد ذلك سيكون علينا أن نقف على دور العقل في الانتقال من الشعور بالظلم إلى تشخيصه النظري؛ بعد هذا الاعتراف بدور العقل في تشخيص الظلم سننتقل إلى نقد العقل التنويري لفتح الباب أمام إثبات تعدد العقول والأنوار؛ وهذا التعدد سيُسلِمنا للكلام عن تعدد الموضوعية والنزاهة؛ ولإثبات الطابع المرن والمنفتح للعقلانية التي سيؤسس عليها أمارتيا صن مفهومه للعدالة، سيكون علينا أن نبرز دور العاطفة واللاعقل في العدالة ؛ وأخيرا نتكلم عن العدالة بين المؤسسات والسلوكات الحياتية.
1. العقل النظري البرهاني وحلم العدل المحض في الفلسفتين اليونانية والعربية
اخترت أن أتحدث عن جانب واحد من الجوانب المتعددة التي يستعرضها كتاب فكرة العدالة، هو علاقة العدالة بالعقل ومشتقاته (كالعقلية والمعقولية والعقلانية والتعقل والتفكير) وتوابعه (كالحق والموضوعية والنزاهة والنقاش العمومي)، لما له من أهمية أساسية في النقاش الذي يدور اليوم في العالم العربي، ولما يقوم به من دور في بلورة فكرة العدالة بعامة، ولدى أمارتياصن بخاصة. ومن المعلوم أن مشكل العلاقة بين العقل والعدالة مشكل قديم، وهو ما عبّر عنه أ. صن بقوله إننا »نواجه مشكل جدوى العقل وحدوده منذ قرون، ومع ذلك عقدنا العزم على معالجته هنا، لأنه بالاستدلال العقلي سنتناول، في هذا الكتاب، فكرة العدل« (ص63).
وقبل أن أعرض للعلاقة المتشابكة بين العقل والعدل كما يعرضها أ. صن، فإني رأيت من المفيد أن أعرّج، ولو بسرعة شديدة، على التراث الفلسفي في صيغتيه اليونانية والعربية، أولا جريا على عادة أ. صن في الانفتاح على مختلف تجارب العقل الإنساني المنتمية لثقافات متباينة تلافيا للتقوقع في تفكير محلي ضيق كما حصل للفكر الغربي، وثانيا حرصا منّي على تأطير الموضوع في تاريخ الفلسفة كيما نستطيع قياس المسافة الكبيرة التي تفصل بين طرح القدماء وطرح المحدثين فيما يتصل بعلاقة العدل بالعقل.
اتخذت علاقة “العدالة بالعقل” دائما طابعا إشكاليا منذ أن وضع أفلاطون الأسس الأولى لنظرية العدالة في محاورة الجمهورية. في حين لم تَطرح العلاقة بين “العدالة والحق” مشكلة كبيرة في تاريخ الفلسفة اليوناني والعربية الإسلامية، بحكم ارتباطهما الذاتي، سواء بالمعنى الشرعي الذي يجري تداوله في أقبية المحاكم، أو بالمعنى الاجتماعي والسياسي الذي تجري ممارسته والصراع حوله في الفضاءات العمومية. فلا يمكن الحديث عن العدالة بهذين المعنيين القضائي والسياسي بدون الإحالة على الحق، والعكس صحيح.
في هذه المحاورة التي نذرها أفلاطون للنظر في مفهوم “العدالة”، أبَى إلا أن يربط مصيرها بمفهوم العقل، وبخاصة بمفهوم معين هو العقل البرهاني، عقل الرياضيات والطبيعيات، لا بعقل الجدل والسفسطة والخطابة. فبعد أن أعطى العقل الأسبقية على القوى الانفعالية الثلاث، الغضبية والشهوية والنزوعية، بحكم اتصافه بالنزاهة والموضوعية وقدرته على الوقوف على الحقيقة المجردة، وبعد أن وضع تناظرا بين القوى النفسية والقوى الاجتماعية، استخلص بأن العدالة السياسية هي التي تقوم على مبدإ التفاضل والتفاوت بين القوى الاجتماعية الثلاث، الحكام والجيش والفئات المنتجة، وعلى خدمة الأدنى للأعلى، وخدمة الجميع للحاكم الأول الذي يمثل العقل. ولعل هذا الربط هو الذي أفضى به إلى مناهضة المساواة والحرية المطلقتين بين المواطنين في هذه المحاورة. هكذا تحكمت هذه الرؤية العقلية للعدالة في مصير سؤال العدالة في الفلسفة اليونانية وفي الفلسفات اللاحقة عليها زهاء 20 قرنا من الزمان.
في العصور الوسطى العربية الإسلامية، التي عرفت تضخم نظرية العقل بموازاة نظرية البرهان، ودخول العقل الشرعي الديني بقوة حلبة التفكير في كيفية تنظيم وجود الإنسان الاجتماعي والسياسي، تَعزَّز وضع العقل باعتباره ميزانَ العدالة في بعض الاتجاهات الكلامية (المعتزلة) والفلسفية، وذلك على حساب الانفعالات والعواطف وكل ما يتصل أو ينتمي إلى الجسم. وبسبب تعاظم أهمية نظرية البرهان بمعية نظرية العقل، جرى التفكير في العدالة من لدن جماعة من المتكلمين والفلاسفة العرب من خلال العقل النظري خاصة، أي من خلال وظيفته القوية: القياس البرهاني، لا عبر وظائفه المرنة (كالقياس الجدلي والسفسطائي والخطابي والشعري). في هذا الجو المشحون بهذا النوع من العقل، الذي يوجد في أصل الوجود، جرى ربط المدينة الفاضلة بالحقيقة باعتبارها تطابقا ذاتيا بين المبادئ والنتائج، أو تطابقا بين ما في الذهن وما في الواقع. وكانت الحقيقة هي المدخل لاحتلال عقل ميتافيزيقي، هو “العقل الفعال” أو “العقل المستفاد”، مرتبة الصدارة في تصور الفلاسفة للعدالة، عوض العقل العملي، عقل المعاملات الخطابية والاجتماعية والسياسية التي تجري في المدينة. بهذا النحو صارت غاية المدينة في نظر الحكماء هي تحقيق سعادة “الاتصال” بعالم ما بعد الطبيعة المتميز بالخلود والثبات، لا تغيير الوضع المفعم بشتى أنواع الإكراه والاستبداد والتحكم والظلم والآلام. كل هذه العناصر شكلت البيئة المناسبة لهجاء الحرية واعتبار المساواة المطلقة بين الناس (الديمقراطية) أصل فساد الدولة الفاضلة لأنها تؤدي إلى بطلان الناموس.
عندما نتأمل المدينة الفاضلة للفارابي، وتلخيص سياسة أفلاطون لابن رشد، نجد العدالة تتجاوز كونها قيمة اجتماعية أو مبدأ أخلاقيا أو غاية سياسية، لتتخذ وضعَ المبدأ الميتافيزيقي الذي يربط الفئات والوظائف الاجتماعية ويدفعها للتضامن والخلق لخدمة مبدإ أسمَى يمثله الفيلسوف الرئيس. في هذا الأفق لم يكن غرض النظر في العدالة البحث في “كيف” يعيش الإنسان، وإنما عن كيف “ينبغي” أن يعيش على أساس العقل، وذلك من خلال تَمثّلٍ للعدالة قائم على خضوع الكل لنظام العقل، باعتباره أداة للتوحيد والترتيب والتفاضل. بهذا النحو يحق لنا أن نقول بأن العقل تحوّل عند هؤلاء الفلاسفة إلى مبدإ مضاد للعدالة، إذا اعتبرناها مساوية للحق في الحرية والمساواة. بينما سنجد علماء الكلام يجعلون الشرع ميزانا للعدل الحق، وهذا ما عبّر ابن خلدون بعبارة كلامية حينما قال بأن »العدل المحض هو في الخلافة الشرعية، وهي قليلة اللبث«، أي نادرة الوجود.
2. العقل العملي والتخلي عن حلم العدالة الكاملة:
أما المحدثون من فلاسفة ومفكري الغرب، فقد استهلوا حداثتهم في النظر إلى مسألة العدالة بالتخلي عن نظرية العقل بجهازها النظري المتشعب، والابتعاد قدر الإمكان عن آليات العقل النظري، وبخاصة الاستدلال البرهاني، في مقابل التركيز على العقل العملي، مع الحرص على فصل السياسي عن الأخلاقي. وقد أفضى هذا الانتقال من الاعتماد شبه الكلي على العقل النظري إلى استعمال وسائل العقل العملي في النظر إلى سؤال العدالة، إلى تبني تصور جديد للعقل يسمح للجدل والحوار بأن يلعبا دورا أساسيا في التفكير في أمور العدالة التي تتصل بتأسيس الدولة الحديثة. وبذلك تكون العدالة قد استبدلت الجزم واليقين بالإقناع والتوافق. وكان من ثمرات هذه الانقلابات في طرائق التفكير وجِهاته إعادة الاعتبار للذات على حساب الموضوع، وإعطاء الأولوية للإرادة والحرية والمساواة على حساب الولاء المطلق للدولة أو للشريعة. ولا شك أن ربط العدالة بالحرية وبالعقل العملي سيؤثر على مفهوم الحق والحقيقة. فلم يعد الحق ثمرة برهان فقط، أي ثمرة مقدمات ذاتية وضرورية وكلية لا تقبل النقاش والعناد والإبطال، وإنما صار نتيجة انفتاح على كل مكونات الواقع، ووليد توافق عليه عبر الحوار والنقاش العقلاني والحر بين مختلف المرجعيات العقلية، مما أدخل الحق، وبمعيته العدالة، في منظور النسبية والتاريخية والتعدد.
ومع ذلك، يمكن القول بأن التفكير في العدالة منذ تدشينه الرسمي على يد أفلاطون ظل يدور في فلك النموذج (الباراديغم) الأفلاطوني-الأرسطي بهذه القوة أو تلك، إما على شكل شرح وتأويل أو على شكل نقد وتعديل وتنويع، إلى أن جاء جون راولز (John Rawls 1912-2002). فقد أحدث هذا الفيلسوف الأمريكي انقلابا في التفكير في العدالة في أواسط القرن العشرين أفضى به إلى تأسيس نموذج جديد قائم على شعار “العدالة كإنصاف”. بعد هذا الانقلاب وجد الفلاسفة المعاصرون أنفسهم، على حد قول روبرت نوزيك (Robert Nozick)، مضطرين أن يختاروا إما التفكير في العدالة داخل نموذج “العدالة كإنصاف”، أو أن يفسروا لماذا لا يفضلون التفكير داخله. ومما يبرر جدة رؤية “العدالة كإنصاف” أن راولز بناها على شبكة جديدة من المفاهيم والفرضيات، دون أن يمنع نفسه من الاستئناس بالعدة الفلسفية القديمة للتفكير في العدالة بعد أن يكيف معانيها حتى تتلاءم مع مقتضيات نظريته الجديدة. وكما سبق أن قلنا، أثارت نظرية “العدالة كإنصاف” موجات من الشرح والتأويل والنقد، إما موالية أو منتقدة لها. ومن بين ردود الفعل الهامة على نظرية راولز كتاب أمارتيا صن الأخير فكرة العدالة.
يعترف أمارتيا صن صراحة بأن تفكيره في العدالة يندرج في أفق تفكير جون راولز، وخير دليل على هذا الاعتراف إهداؤه كتابه فكرة العدالة إليه. وكان حريصا على أن لا يترك فرصة إلا ويعرب فيها عن إعجابه الشديد وتقديره العميق لنظرية “العدالة كإنصاف” معتبرا إياها النظرية » الأكثر تأثيرا في الفلسفة الأخلاقية الحديثة « (ص89). أما اعترافاته بدَيْنه لهذه النظرية فعديدة من بينها قوله» بعض المفاهيم التي حددها [راولز] بوصفها مفاهيم أساسية توجد في بنية تأويلي الخاص للعدالة، وإن كان توجيه وخلاصات عملي مختلفة « (ص82). ومع ذلك، فقد كتب كتابه الذي نحن فيه من أجل انتقاده أو على الأقل اتخاذ مسافة منه، وبخاصة من منهجية “العَقد الاجتماعي” التي ينتمي إليها جون راولز. فقد عرّف طريقته لمناولة العدالة بأنها أقرب إلى طريقة “المقارنة الثقافية”، التي تسمح بالانفتاح على تجارب ثقافية متعددة ومختلفة لتطبيق العدالة، وتساعد بشكل أفضل على تطويرها ومقاومة الظلم أينما كان في العالم (ص21). ويبرر جمعه بين الإعجاب براولز ونقده إياه قائلا: »من الممكن أن تكون في نفس الوقت معجبا وناقدا نقدا حقيقيا حيال نظرية ما؛ ولا شيء يحرمني من أن أكون أكثر سعادة أن أقوم بمرافقة راولز، إذا كان ذلك ممكنا، بهذا التقييم المزدوج لنظرية العدالة كإنصاف« (ص89).
ولم تكن غاية أمارتيا صن من التفكير في مسألة العدالة الوقوف على ماهيتها، وإنما الوصول إلى تشخيص أعراضها وتجلياتها في نفس الأمكنة والآفاق الثقافية المختلفة التي تظهر فيها. بل إن الأهم، بالنسبة لهذا المفكر الهندي، التركيز بشكل خاص على المظاهر المضادة للعدالة التي تعاني منها البشرية من ظلم وحيف وغصب وبغي وإثم وتجاوز وإقصاء وهدر للحق واعتداء عليه. » فما يحركنا إذن، على نحو شامل، ليس هو ملاحظة أن العالَم لم يصل إلى أن يكون عادلا تماما (مَن منّا ينتظر هذا؟)، ولكن وجود ألوان من الظلم حولنا يمكن تجنبها، والعمل على اتقائها« (ص11) من كل بقاع العالم، وليس فقط في حضارة معينة كالحضارة الغربية. فكما أن العدالة، كما كان يقول ابن رشد، لم تعد تمتد إلى كل أجزاء المدينة، بل إلى كل أجزاء المعمور، فكذلك الظلم. وأ. صن لم يكن يعتبر » تحديد طبيعة المظالم (injustices) القابلة للعلاج حافزا لنا فقط على التفكير بألفاظ العدل والظلم، بل وأيضا مركز نظرية العدل – وهذه هي أطروحة هذا الكتاب على الأقل. ففي هذا البحث الذي أقدمه هنا، تُستعمَل تشخيصات الظلم عادة كنقطة انطلاق لتحليل نقدي « (ص12). لكن لم تكن الغاية القصوى لأمارتيا صن تحقيق ما سمّاه ابن خلدون “بالعدل المحض”، أو “العدالة الكاملة”، وهو الحلم الذي ظل مسيطرا حتى على تيارات من الفلسفة الأخلاقية والسياسية المعاصرة، وإنما كان قصده البحث عن وسائل وكيفيات تطوير العدل وتقليص الجَوْر ما أمكن. وفي إطار استحالة تحقيق العدل الكامل ينقل لنا أمارتيا صن ما قاله أحد قادة الرومان: “لو تم تحقيق العدالة لانهار العالم” (ص47)، وهو قول يتوافق مع ما قاله الغزالي فيما بعد: »الحكمة [في مجال العدل] تقتضي شمول الغفلة. بل لو أكل الناس الحلال أربعين يوما لَخَرِبت الدنيا لزهدهم فيها، وبطلت الأسواق والمعايش، بل لو أكل العلماء الحلال لاشتغلوا بأنفسهم، ولوقفت الألسنة والأقلام عن كثير مما انتشر من العلوم، ولكن لله تعالى فيما هو شرٌّ في الظاهر أسرار وحِكم، كما أن له في الخير أسراراً وحكما، ولا منتهى لحكمته، كما لا غاية لقدرته».
من جهة أخرى، يتمحور تفكير أ. صن في العدل والظلم على القضايا التي تتصل بالعقل العملي، أي بإجراءات عملية لا نظرية، على أحوال السلوك الملموسة، وعلى كيفيات ممارسة الناس لحياتهم الخاصة حتى تكون العقلانية التي ينادي بها أكثر مرونة. في مقابل ذلك، اتهم عقلانية “العدالة من حيث هي إنصاف” (راولز) بأنها كانت عقلانية نظرية لأنها فضّلت التركيز على المبادئ والمؤسسات المجردة والمتعالية لا على الوقائع والسلوكات. ومع ذلك، استمر أمارتيا صن في جعل ما هو عقلي أمراً أساسيا في مشروعه للعدالة. فهو لا يهرب من التنظيرلفكرة العدالة، وإنما يحاول تفادي الانغلاق في نسق حديدي مغلق.
ومما يدل على ما قلناه أن العدالة لا تظهر في كتاباته على هيئة مفهوم منسجم ومتماسك، وإنما على شكل فكرة إشكالية جامعة بين جملة من المتضادات، كالمساواة والاختلاف، النفعية والغيرية، الحرية والحتمية. ولعل هذا الطابع الإشكالي لفكرة العدالة كان بسبب اقتران العدالة بالإنصاف، ذلك أن الإنصاف وإن كان لا يوزِّع الحقوق، أي المصالح والمنافع بين الأفراد والفئات والجماعات بحسب مرتبتهم الاجتماعية أو الدينية أو السياسية أو الثقافية، وإنما بحسبمجهودهم وبذلهم وعطائهم، فإنه (الإنصاف) مع ذلك ينطوي على قدر كبير من اللامساواة التي تعارض مبدأ المساواة في العدالة. فالإنصاف ينشد تحقيق التكافؤ في معاملة الناس دون الإحالة على حيثياتهم العرقية والثقافية واللغوية والطبقية، إلا أنه يمارس قدرا من اللامساواة والميز فيما يخص مكافأة الناس حسب مجهودهم وعطائهم ومقدرتهم ومهارتهم التي تختلف من فرد لآخر ومن جماعة لأخرى.
ونفس الإشكال الذي وقفنا عليه بالنسبة للجمع بين المساواة والاختلاف (اللامساواة)، يمكن الوقوف عليه بالنسبة لجمع العدالة بين النفعية والغيرية. فالعدالة تدفع الناس إلى البحث عن مصالحهم دون المساس بمصالح غيرهم سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو دولة. ومع ذلك، فإن البحث عن المنفعة الشخصية لا ينبغي أن يتحول إلى أنانية، بل يتعين أن يتحول البحث عن المنفعة الشخصية إلى غيرية. والمفارقة ستكون أوضح بالنسبة لجمع العدالة بين الحرية والحتمية الاجتماعية والتاريخية والنفسية، فالفرد أو الجماعة حرة بقدر مراعاتها لإكراهات المجتمع وآليات تنزيله للمبادئ على أرض الواقع.
الجمعة يوليو 17, 2015 6:19 pm من طرف حمادي