2014-04-03 هل العالم بحاجة لثورة اكاديمية؟
|
| |
يعاني عالمنا اليوم من فلسفة بائسة. الجامعات في كل دول العالم أقامت هيكلها الفكري والمؤسسي وعلى نحو خطير على فلسفة معيبة هي فلسفة-التحقيق philosophy of inquiry التي ورثناها من الماضي. اساس هذه الفلسفة هو اننا لكي نعزز الرفاهية الانسانية، يجب على الاكاديمية ان توجّه ذاتها للسعي وراء المعرفة. بمعنى، يجب اولاً اكتساب المعرفة، ومن ثم وبعد ان تُكتسب المعرفة،يمكن تطبيقها لحل المشاكل الاجتماعية. هذا النوع من فلسفة التحقيق المعرفي يخون كل من العقل والانسانية.
ان النجاح الاستثنائي في تعقّب المعرفة والمهارات التكنلوجية كانت له فوائد عظيمة، حيث انه جعل العالم الحديث ممكنا. وهو ايضا مهّد لبروز جميع مشاكل العالم الحالية. العلوم والتكنلوجيا الحديثة أوجدت لنا الصناعة الحديثة والزراعة والطب وعلم الصحة، والتي بدورها خلقت لنا الاحتباس الحراري العالمي، الحرب الحديثة المدمرة، النمو الانفجاري السكاني، تدمير البيئة الطبيعية والانقراض المتسارع للكائنات الحية،تلوث الارض والبحر والهواء والتفاوت الصارخ بالثروة والسلطة في جميع انحاء العالم.
لكي نواجه مشاكل العالم سنحتاج لإحداث ثورة هيكلية كلية في الاهداف والطرق الفكرية والمؤسسية للتحقيق الاكاديمي. هذا التحقيق يحتاج للتغيير لكي يصبح الهدف الاساسي هو البحث وتعزيز الحكمة. وبدلاً من ان يكرس نفسه لحل مشاكل المعرفة، يحتاج التحقيق الاكاديمي لإعطاء الاولوية الفكرية لمهمة اكتشاف حلول ناجحة لمشاكل الحياة. العلوم الاجتماعية بحاجة لتصبح فلسفة اجتماعية،او ميثدولوجيا اجتماعية تسعى لإيجاد حلول عقلانية للصراعات ومشاكل العالم. وبهذه الطريقة سيصبح التحقيق الاجتماعي اكثر جوهرية من العلوم الاجتماعية. الفلسفة تحتاج ايضا لتصبح استكشافاً عقلانياً دائماً لمعظم مشاكلنا الاساسية في الفهم، انها تحتاج لتتولى مهمة اكتشاف كيفية تحسين اهدافنا الذاتية والمؤسسية والعالمية وطرق الحياة،لكي يمكن بلوغ كل ما هو ذو قيمة في هذه الحياة. التعليم من جهته يجب ان يتغير لكي تصبح مشاكل الحياة أهم من مشاكل المعرفة. الهدف الاساسي للتعليم هو تعلم كيفية اكتساب الحكمة.
من المعرفة الى الحكمة
ان المشكلة هي في هذا التحقيق المعرفي اللاعقلاني والشديد الضرر. ما نحتاجه هو نوع من التحقيق الاكاديمي الذي يضع مشاكل الحياة في جوهر العملية، ويكون مصمماً بشكل رشيد ويهتم بمساعدة الانسانية في تعلّم كيفية التقدم نحو عالم الخير والحكمة . الهدف الفكري الاساسي يجب ان يكون البحث عن الحكمة وتعزيزها، التي تُفهم باعتبارها المقدرة على ادراك قيمة الحياة، للفرد وللآخرين، وبهذا تنطوي الحكمة على المعرفة والخبرة التكنلوجية، ولكن الى جانب اشياء اخرى كثيرة ."تحقيق-الحكمة" Wisdom-inquiry سوف يختلف جذريا عما لدينا حالياً من اكاديمية منظمة طبقا للإملاءات الزائفة لفلسفة التحقيق المعرفي.
ان الاكاديمية القائمة اليوم هي نتاج ثورتين فكريتين عظيمتين. الاولى هي الثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر التي ارتبطت بغاليلو وكبلر وديكارت و بويل و نيوتن والعديد من العلماء الاخرين الذين كانوا السبب في خلق العلم الحديث. الطريقة الشهيرة التي جرى اكتشافها في اكتساب المعرفة كانت الطريقة التجريبية للعلوم.
اما الثورة الثانية كانت التنوير، خاصة التنوير الفرنسي في القرن الثامن عشر. فولتير و ديدروت وكوندرسيه وفلاسفة اخرون امتلكوا وبعمق فكرة هامة بانه بالإمكان التعلم من التقدم العلمي حول كيفية انجاز التقدم الاجتماعي نحو عالم تنويري. هم لم يمتلكوا فقط الفكرة وانما قاموا بكل شيء من اجل وضع الفكرة في مجال التطبيق. هم كافحوا السلطات الدكتاتورية والخرافات واللاعدالة باسلحة لا تتعدى النقاش وقوة العقل. هم أعلنوا دعمهم لأخلاق التسامح والانفتاح على الشك، والاستعداد للتعلم من النقد والتجربة. وبشجاعة وحيوية مفعمة هم عملوا لتكريس العقل والتنوير في الحياة الفردية والاجتماعية.
اخطاء التنوير الفادحة
لسوء الحظ، ان الفلاسفة ارتكبوا اخطاءاً في تطويرهم الفكري لفكرة التنوير. هم لم يتقنوا المهمة. حيث اعتقدوا ان الطريقة الصحيحة لتطبيق البرنامج التنويري للتعلم من التقدم العلمي وانجاز التقدم الاجتماعي نحو العالم التنويري هي بتطوير العلوم الاجتماعية جنبا الى جنب مع العلوم الطبيعية. فاذا كان من المهم اكتساب المعرفة بالظاهرة الطبيعية لتحسين حظ البشرية، كما يصر فرنسيس باكون، اذاً (وكما اعتقدوا هم) يجب ان يكون من المهم جداً اكتساب المعرفة بالظاهرة الاجتماعية. المعرفة يجب ان تكتسب اولاً، ومن ثم تطبق هذه المعرفة المكتسبة لحل المشاكل الاجتماعية. وبهذا هم بدأوا بخلق وتطوير العلوم الاجتماعية مثل الاقتصاد والسايكولوجي والانثربولوجي والتاريخ والسوسيولوجي وعلوم السياسة.
هذه الصيغة التقليدية لبرامج التنوير، رغم انها معيبة كثيراً، لكنها كانت هامة و مؤثرة بشكل كبير. انها طُورت طوال القرن التاسع عشر من قبل رجال امثال سانت سيمون و كومت وماركس ومل واخرين،وبُنيت في صلب البناء الفكري للتحقيق الاكاديمي والمؤسسي خلال الشطر الاول من القرن العشرين و تكللت بخلق اقسام العلوم الاجتماعية في كل جامعات العالم. وهكذا فان التحقيق الاكاديمي المكرس اليوم لمتابعة المعرفة والخبرة التكنلوجية ،هو حصيلة لثورتين: الثورة العلمية وثورة التنوير المعيبة بشكل خطير. هذا الموقف هو الذي يستدعي وبشكل عاجل احداث ثورة ثالثة لتصحيح الخلل الهيكلي الذي ورثناه من التنوير.
ولكن ما هو الخطأ في برنامج التنوير التقليدي؟ تقريبا الخطأ في كل شيء. لكي نطبق وبشكل صحيح الفكرة الاساسية للتنوير في التعلم من التقدم العلمي وكيفية انجاز تقدم اجتماعي نحو العالم المتحضر، من الضروري ان تكون الاشياء الثلاثة التالية صحيحة.
1- تحديد وبشكل صحيح طرق العلوم في انجاز التقدم.
2- هذه الطرق بحاجة للتعميم الصحيح لكي تصبح مثمرة وقابلة للتطبيق على اي محاولة انسانية ذات قيمة،مهما كانت الاهداف،وليست قابلة للتطبيق فقط على محاولة اكتساب المعرفة.
3- الطرق التعميمية الصحيحة لانجاز التقدم بحاجة للاستغلال بشكل صحيح في محاولة الانسان العظيمة لخلق التقدم الاجتماعي نحو عالم تنويري حكيم.
لسوء الحظ ان فلاسفة التنوير اخطأوا في جميع النقاط الثلاث اعلاه. وبالنتيجة فان هذه الاخطاء الفادحة غير المكتشفة وغير المصححة، بُنيت في صميم الهيكل الفكري والمؤسسي للاكاديمية التي نراها اليوم.
ان تحقيق- الحكمة يعطي اولوية فكرية للمشاكل التي هي بحاجة عاجلة للحلول اذا اردنا خلق عالم افضل، نعني بذلك مشاكل الحياة – فردية، اجتماعية، عالمية. المهام الفكرية المركزية لتحقيق الحكمة هي:
(1) الاهتمام الصريح والواضح بمشاكل حياتنا وتحسين سبل معالجتها، و (2) اقتراح وتقييم نقدي للحلول الممكنة – افعال ممكنة، سياسات، برامج سياسية،فلسفة للحياة. ان ملاحقة المعرفة والخبرة التكنلوجية تنشأ من هذه النشاطات الفكرية الجوهرية وتعود اليها. العلوم الاجتماعية المتحولة، المكرسة لمساعدة الانسانية في معالجة مشاكل الحياة بطرق رشيدة وبتعاونية عالية، هي فكرياً اكثر جوهريةً من العلوم الطبيعية. تحقيق- الحكمة يسعى لمساعدة الانسانية لتتعلم ما هي مشاكلنا العالمية، وماذا نحتاج للعمل تجاهها. المهمة الاساسية للجامعة هي ان تساعد الناس في اكتشاف القيمة الحقيقية للحياة وكيف يمكن بلوغها.
لا شيء من هذا يمكن عمله طالما جامعاتنا يسيطر عليها تحقيق- المعرفة. ان إعطاء الاولوية لمعالجة مشاكل المعرفة يستبعد معالجة مشاكل الحياة من العالم الفكري للتحقيق – و يدفع المهمة الى الحدود الهامشية فيُضعف من اهميتها. ان ما تحتاجه الجامعات لمساعدة الانسانية في الرقي نحو عالم اكثر حكمة هو شيء لا يمكن انجازه ابداً – او يمكن عمله فقط دون اي نتائج واضحة. المحاولة الجوهرية لمساعدة الناس في تعلم كيفية حل الصراعات او مشاكل الحياة بطرق حكيمة وبروح تعاونية عالية ورشيدة لا يمكن انجازها من قبل الجامعة لأن الجامعة لكي تتبنّى مثل هذا البرنامج السياسي، و طبقا لما يفرضهُ تحقيق- المعرفة، سوف تخرّب موضوعية التحقيق الاكاديمي وتفسد السعي نحو المعرفة.
المسؤولية خطيرة جداً. الفلسفة البائسة تكمن في جوهر مشاكل عالمنا الحالي. هي في اصل عجزنا الحالي لمعالجة تلك المشاكل بفاعلية وحكمة. ربما يتصور احد ان الفلاسفة سيكونون متلهفين اما لكي يبيّنوا الخلل في هذا الجدال، ان كان هناك خلل، او- اذا كان الجدال صائبا- ان يعلنوا للاكاديميين والسياسيين والرأي العام بان مستقبلنا مهدد بالفلسفة السيئة التي بُنيت عليها الجامعات في كل العالم، واننا نحتاج بشكل عاجل لإحداث ثورة اكاديمية.
غير ان هذا لم يحصل ابداً. الحاجة الملحة لثورة اكاديمية، بدءاً من المعرفة وصولاً الى الحكمة، لم يؤخذ بها ولم تُعلن او تُنتقد او تُهاجم . انها جرى تجاهلها كلياً في صمت مطبق.
هل نمتلك ذلك النوع من التحقيق الاكاديمي الذي نحتاجه فعلا؟ هل تحقيق- المعرفة هو حقا ضار وغير رشيد ، وهو اصل العديد من كوارثنا الحالية، ام على العكس، هو احسن ما يمكن ان يكون لدينا؟ ما هو الاساس للإدعاء ان تحقيق- الحكمة يخدم اهتمامات العقل والانسانية بشكل يتفوق كثيراً على ما ينجزه تحقيق- المعرفة؟ ما نوع التحقيق الاكاديمي الذي نحتاجه حقا والذي يحقق لنا افضل تقدم نحو العالم؟
هذه الاسئلة يجب ان تكمن في قلب الفلسفة. حاليا جميعها جوبهت بالتجاهل . الفلاسفة يجب ان يبدأوا بدراسة جدية لإمكانية ان الفلسفة الرديئة للتحقيق، الموروثة من الماضي، والتي بنيت في صلب الهيكل الفكري والمؤسسي للجامعات في العالم، هي اس العديد من المشاكل في عالمنا الحالي. يجب على الفلاسفة ان يأخذوا هذه الإمكانية بنظر الاعتبار- ان لم تكن الفلسفة المعادل الفكري لتفاهة نيرو وهو يرى روما تحترق