2014-03-21 فشل سياسات التقشف الاقتصادي
|
| |
يشهد العالم اليوم نقاشات سياسية ساخنة حول موضوع التقشف. المدافعون عن التقشف يعتبرونه الدواء الشافي الذي يوفر الأرضية للاستقرار والنمو في المستقبل. اما النقاد يصرّون على ان التقشف سيعجّل من الدورة المخيفة للانحدارالاقتصادي، والذي ربما يقود الى انهيار سياسي. لكن الفكرة بان الامتناع عن الاستهلاك يجلب المنافع للدول والمجتمعات او للافراد هي ليست جديدة. هذا الكتاب يضع النقاش الدائر حالياً ضمن اطار يستطلع فيه الكاتب التاريخ الطويل للتقشف.
يبيّن الكاتب ان الحجج المؤيدة للتقشف كانت – كما هي اليوم- ترتكز اساسا على اعتبارات سياسية واخلاقية، بدلاً من الارتكاز على تحليلات اقتصادية. يؤكد الكاتب ان جميع محاولات التقشف قد فشلت فكريا وفي لغة الاقتصاد ايضا في جميع الاوقات التي مورست فيها . توقّف المؤلف مع المفكرين الذين اثّروا في افكارنا حول التقشف بدءاً من ارسطو ومروراً بالمفكرين الاقتصادين المحدثين مثل سمث وماركس وفيبلين وويبر وحتى هايك وكنز بالاضافة الى دراسة الدوافع الكامنة وراء جهود التقشف الخاصة بالقرن العشرين. يستنتج الكاتب ان استمرارية المفهوم لا يمكن توضيحها من منظور اقتصادي، وانما فقط عبر الاحتكام المقنع للافكار السياسية والاخلاقية التي ارتبطت به.
كتاب (التقشف: الفشل الكبير) صدر عن مطبوعات جامعة يال للدكتور Florian Schui في الرابع من شهر الماضي 2014.
حينما يناقش الاقتصاديون التقشف، هم يستخدمون مصطلحات مثل "المضاعف المالي" او "الميل الحدي للاستهلاك". لكن القضية حول ما اذا كان يتوجب على الناس الانفاق ببذخ او بحكمة، لم تكن ابداً قضية اقتصادية. انها تعود تاريخيا الى النقاش القديم حول الكيفية التي يجب ان يعيش بها الناس حياتهم.
الكاتب والاستاذ فلورين، المتخصص في التاريخ الاقتصادي بجامعة St Gallen بسويسرا، يشير في كتابه الانيق الى ان كلمة تقشف مشتقة من المصطلح اليوناني القديم "جفاف اللسان" dryness of tongue. في ذلك الحين كان ارسطو اول من حذّر من خطورة الاسراف والانغماس المفرط في الملذات، وكانت الموضة الفكرية السائدة هي ان الحياة الاخلاقية هي حياة الزهد. التركيز على استهلاك الحاجات المادية – الطعام ، الخمر، الجنس سيقود الافراد الى إضعاف جانبهم الروحي. المسيحية لا تزال تحترم القس St Francis of Assisi لبساطته في اسلوب الحياة.
حتى الآن، هناك صدى لهذه الفلسفة في نقاشات جماعة الخضر الذين يعتقدون ان الناس يجب ان يمتنعوا عن الاستهلاك لإنقاذ الكوكب. التقرير الشهير "حدود النمو"الذي اشرف على إعداده نادي روما ونُشر عام 1972، تنبأ بالكارثة ان لم تتم السيطرة على النمو السكاني، وكان كل فصل من التقرير يتصدره اقتباس من الانجيل ومن الفلاسفة القدماء.
الكثير من الرياء والنفاق يحيط بهذه القضية. السخرية السائدة في القرون الوسطى ان الرهبان، بينما هم يصدرون المواعظ للناس باعتماد الزهد في الحياة لكنهم كانوا يمتّعون انفسهم خلف جدران الكنائس والاديرة. ارسطو بدا هادئاً تجاه الطريقة التي ينفق بها الارستقراطيون نقودهم، اهتمامه كان منصباً على ان كل شخص في المجتمع يجب ان يعرف مكانه. حتى اليوم، هناك الكثير من القيم الطبقية حول الطريقة التي يمتّع بها الفقراء انفسهم، سواء كانوا يدخنون، ام يشربون ، او يشترون احذية راقية او يذهبون في رحلات سياحية ممتعة.
السيد Schui يعتقد ان الحجة الاخلاقية من هذا النوع أثّرت سلباً على النقاش الحديث حول التقشف، مردداً في ذلك صدىً لجون مايرند كنز ، في ان العديد من السياسيين كانوا عبيداً لبعض الفلاسفة الذين لم يعد لهم وجود الآن. حين تقوم الحكومات بخفض الانفاق ، فان الفقراء هم الذين سيعانون. وبالتالي ستقع الكارثة على السياسيين: سياسات التقشف التي اتبعتها الحكومة الالمانية في بداية الثلاثينات قادت الى صعود هتلر. المؤلف ايضا يأخذ بالخط الكنزي الذي يرى التقشف مهزوم ذاتيا، إنفاق شخص ما هو عبارة عن دخل شخص اخر."لا توجد هناك حجة مقنعة للتقشف بشكله الحالي"كما يذكر.
هنا يصبح جدال الكاتب مفتقداً اكثر للتفاصيل. الكتاب لم يذكر شيئاً عن ازمة ديون الاتحاد الاوربي، ولا عن محاولة التمييز بين الدول التي اختارت طوعا وضع برامج للتقشف (مثل بريطانيا) وتلك الدول التي اُجبرت على التقشف لأنها لا تستطيع الوصول الى الاسواق (مثل اليونان). احد اسباب عدم القدرة على الانفاق وراء امكاناتك المالية ، سواء كنت فرد او دولة ، هو انك بالنهاية تتخلى عن السلطة لدائنيك.
الكاتب يشتبك فكرياً مع فردريك هايك حول فكرة ان الانفاق بعجز يقود الى حكومات كبيرة وبالتالي خسارة الحرية،مجادلاً بان معظم الناس الآن هم اكثر حرية مما كانوا قبل 100 سنة، رغم توسع الدولة. لكن المؤلف لم يعالج ابداً السؤال حول ما اذا كانت الدولة المتضخمة تسحق في النهاية النمو الاقتصادي، كما حصل تحت حكم السوفيت الشيوعية. هو يورد الكثير من النقاشات عن بريطانيا تحت حكم السيدة تاتشر ولكن لا شيء عن نجاح السويد في تقليص دور الدولة في العقدين الاخيرين، وما تبعه من انتعاش في النمو الاقتصادي للبلد. كذلك لا ذكر لدول مثل الارجنتين واليونان، وحيث قاد الانفاق الحكومي غير المقيد فيها الى مشاكل.
كتاب السيد Schui جاء تذكيراً في الوقت المناسب للالتباس الاخلاقي الذي يحوم حول مسألة التقشف؟ لكنه في الواقع لم يجب على السؤال الاكثر الحاحاً حول المستقبل: هل ان اوربا بما لديها من 7% من سكان العالم، و 25% من الناتج المحلي الاجمالي للعالم و 50% من التكاليف الاجتماعية، تمتلك التوازن الصحيح بين الدولة والقطاع الخاص؟