يتردد المشتغلون بعلم الاجتماع في الإجابة عن سؤال مدى استجابة علمهم للتحولات الكبرى التي يعرفها المجتمع المغربي لا لشئ إلا لأن هذا الأخير يعيش تغيرات وتطورات عديدة، بينما تميز علم الاجتماع بجموده وعجزه عن مسايرة الواقع وفهمه وتفسيره والتأثير فيه.
إن الممارسة السوسيولوجية في المغرب على غرار العالم العربي، تبنت إرثاً سوسيولوجياً عاجزاً عن تحليل المجتمعات الراهنة المعقدة والمركبة. لأن كل التطورات التي ميّزت المعرفة السوسيولوجية تطورت مع تطور الواقع الاجتماعي للمجتمعات الغربية من خلال مختلف التيارات النظرية، ابتداءً من الوضعية إلى المادية الجدلية إلى البنائية الوظيفية والفرادنية وغيرها. وبهذا المعنى يصبح البحث في السوسيولوجيا، إنتاجاً مستمراً للمعرفة السوسيولوجية بمواكبته لبعض التحديات، والإشكالات الخاصة بمجتمع معين.الشئ الذي يفرض على المشتغل في علم الاجتماع وضع تساؤلات إبستمولوجية، ونظرية، ومنهجية للاقتراب من تلك الإشكالات والتحديات المنبثقة عن المجتمع الذي لا يعرفون عنه سوى بعض العناصر التي لا تظهر نطاقاته المتناقضة.
إن الممارسة السوسيولوجية، تندرج في تاريخ المجتمع الذي يسبق تشكيل الأبحاث السوسيولوجية خاصة وأن المجتمع تغير، وفي تغيره أصبح يطرح إشكالات جديدة لها أثر كبير على الوجود العرضي للأفراد، إن ربط الممارسة السوسيولوجية بالخصائص التاريخية والمعاصرة العامة والنوعية لمجتمعنا، في ظل استخدام مفاهيم ارتبطت تاريخياً بإشكالات مجتمعات رأسمالية وصناعية متقدمة. أثر في فعالية هذا الربط. وإن كان الإرث السوسيولوجي الغربي بدوره يعانق الأزمة بنظرياته ومناهجه.
لاشك، أن المجتمع تغير بصفة عميقة سواء من طرف سوسيولوجيا الشغل أو سوسيولوجيا الثورة أو سوسيولوجيا الدين وغيرها، وفي مقابل ذلك نلاحظ تباعداً كبيراً بين متطلبات الممارسة السوسيولوجية وواقع المجتمع المغربي. لهذا أصبح الاتجاه المنهجي يطرح نفسه بإلحاح، ويستدعي تغييراً في الاتجاه الأبستمولوجي للسوسيولوجيا.
إن تحول أدوار العديد من المشتغلين بعلم الاجتماع إلى الخبرة أو إلى أدوار إعلامية، أبرزت المقاربة الأكثر أهمية في علم الاجتماع المعاصر وهي الصناعة الثقافية على حد تعبير سبورك
(1)، وأفضت بهم إلى النظر للواقع، نظرة لامبالاة وعدم اهتمام، أو اعتبار علم الاجتماع مجرد معارف يتم نقلها للطلبة أو بعض المهتمين. فالمقاربة الأكاديمية الحالية مستندة إلى مجموعة من النصوص والمناهج والتقنيات متمأسسة بشكل وضعي خارج عن المجتمع، وعن الوجود الحقيقي للأفراد كذوات واعية. وهنا تطرح مسألة الاتجاه الامبريقي الذي يتعامل مع الواقع من خلال الفصل بين العام والنوعي الخاص، والارتباط به بشكل براغماتي للحصول على معطيات تعبر عن أجزاء من الواقع دون توجيه نظري. ولعل ما أشار إليه رايت ميلز C. WRIGHT MILLS في كتابه الخيال السوسيولوجي THE SOCIOLOGICAL IMAGINATION يثبت أهمية هذا الإشكال المنهجي الذي تعرفه السوسيولوجيا، عندما يؤكد على ضرورة التفاعل الجدلي بين خطوات المنهج السوسيولوجي. فمن يفكرون ينظرون بلا ملاحظة ـ بحث ومنهج ـ ومن يلاحظون بلا فكر، كل منهما لا يصل إلى حقائق دقيقة ذات معنى، لذلك يتحول البحث في الكثير من الأحيان إلى تجريدات غير مبرهنة أو إلى مجموعة من البيانات فاقدة للروح والمعنى.
إن إشكالية الممارسة السوسيولوجية وتأثيرها في المجتمع متعددة الأوجه، كونها ترتبط من ناحية بإشكاليات نظرية ومنهجية، وبإشكالية النقد التي تفرض تجديد التساؤلات حول المجتمع، وتحليله كما هو، وكما يمكن أن يكون عليه. إن النقد يجعل العلاقة المباشرة لعالم الاجتماع بالواقع محط تساؤل كممارس للفعل السوسيولوجي، لأنه يجب أن يحصل على جواب لأي شيء يستخدم علم الاجتماع ومنها أجوبة حول طبيعة وجود الأفراد ومعنى هذا الوجود، وكذا دورهم ومشاركتهم في بناء المجتمع.
إرث الفعل السوسيولوجيقد يكون الوضع الراهن لعلم الاجتماع في المجتمع المغربي، له علاقة بظروف نشأته في المجتمعات الغربية، وما تبع ذلك من نقل آلي لأطر ثقافية وأيديولوجية ساهمت في تفسير واقع مغاير تماماً، وكانت سبباً في عدم الوعي وفهم الذات. إن التقليد السوسيولوجي للنظريات الغربية ترك لنا إرثاً من التحليل، نقبله أو نرفضه بوعي وعقلانية فـ «بالرغم من الانبهار الذي يحدث لنا إزاء الكثير من النظريات، فنحن لن نجد فيها نظرية لمجتمع اليوم. لأن هذه النظريات تنتمي إلى زمانها، فمهما كانت تبقى شمولية»
(2).
إن سوسيولوجية علم الإجتماع أو علم الاجتماع من وجهة النظر السوسيولوجية، كما عبر عنها روبرت فردريش R.Friedrich، تقتضي بأنه «لفهم أي نسق علمي يجب التمييز بين مراحل نموه وتطوره، ووضع الفرضيات التي تكمن وراء كل مرحلة، ولهذا يعد البعد التاريخي لتتبع تطور علم الاجتماع وتغيره هاماً في معرفة مشكلات علم الاجتماع في كل حقبة، وأساليب تجاوز هذه المشكلات. وهذا يفرض إلى جانب الأفق التاريخي وضع إطار سياسي شامل للتفسير»
(3).
إن المجتمع المغربي مر بظروف مغايرة عن المجتمعات الغربية ساهمت في إعادة تشكيله ثقافياً واجتماعياً. وإن تشابهت المجتمعات في بعض الأمور، فإن الاختلافات تبقى جد بينة، لأننا بصدد تطور تاريخي وظروف اقتصادية واجتماعية متباينة. إذ ما موقع المجتمع المغربي من المشاركة في الثورة الصناعية والثورة الفرنسية وما واكبها من تطورات؟ في المقابل عرفت مجتمعاتنا ظاهرة الاستعمار التي أثرت فيه بشكل واضح، أضف إلى ذلك تأثير السياسات الاقتصادية على وجود الأفراد وإمكاناتهم في بلداننا ـ طبعاً ـ مع اختلاف الظروف السياسية، وشكل الدولة ديمقراطية أم ديكتاتورية، ملكية أم جمهورية. بمعنى أن الوعي المنهجي أثناء الممارسة السوسيولوجية يتعلق بشكل حتمي بالتحولات المجتمعية.
إن البناءات النظرية وما تتضمنه من مفاهيم، تقوم سلفاً على إشكالات واقع غير متجانس ومعقد، تعتمد عليها ممارسة المشتغل بعلم الاجتماع، ويعود إليها باستمرار لتطبيقها في الحقل الاجتماعي، فهل «يفوتنا بتعبير إميل دوركايم أن ندرك أن “الحقائق الاجتماعية تركيب ناتج عن المجتمع” وليس حتمية»
(4). لذلك نؤكد على “معضلة المفاهيم” والنظريات في الفعل السوسيولوجي المغربي التي تأسست في سياق إشكالي لمجتمع معين.
إن ما يحدد علاقة السوسيولوجيا بالواقع، هو تلك العلاقات المفاهيمية المتشابكة، التي غالباً ما تكون مرتبطة بمشاكل جديدة تقتضي وجهات نظر وتأويلات متجددة. ونذهب مع فيبر للتساؤل بالضرورة حول ماهية الأسئلة التي تقدمها المصادر
(5). خاصة وأنه لم يتم تجديد التساؤلات أمام التحولات والتغير الاجتماعي الذي نلمسه في واقعنا، والذي يفرض إجرائية المفاهيم وبناء نماذج تحليلية جديدة، ومراجعة الأسس التي تنبني عليها السوسيولوجيا.
ولعل، هذا ما يجعلنا نعلن عن إخفاق السوسيولوجيا في المغرب في الالتزام بحرفة عالم الاجتماع. كما أن ترجمة الأبحاث إلى العربية بلغات أجنبية، كان لها انعكاس على الممارسة العملية وعلى الإبداع الفكري
(6)، دون الحذر والتحري في التعامل مع المفاهيم وارتباطاتها النظرية.
من هنا، فأي محاولة لتحديد مفهوم السوسيولوجيا لا تخرج عن تعريفها بكونها فكرة ذات مضمون إمبريقي. فإذا كان هذا المضمون أكبر من الفكرة سقط علم الاجتماع في التيار الإمبريقي التجزيئي، الذي يغفل دور النظرية في توجيه البحث، وتوضيح رؤياه، وعدم الاهتمام ببلورة موضوع البحث وصياغة الإشكالية صياغة علمية واضحة. الأمر الذي يجعل المشتغلين بعلم الاجتماع يجمعون بيانات ومؤشرات تستخدم لتبرير الواقع والنظام القائم
(7).
لقد ارتكزت الممارسة السوسيولوجية بشكل أساسي على عدم استيعاب المعرفة النظرية الاجتماعية، التي تحمل في طياتها صورها المنهجية المرتبطة بإطار زماني ومكاني منتج لها، في شكل مساءلة جدلية بين الباحث والواقع الاجتماعي في لحظة الفعل السوسيولوجي «لأن نظريات علم الاجتماع ليست نماذج للاشتغال أو مجرد وصفات للمطبخ»
(8).
إن فهم الواقع الاجتماعي لا يقوم على تجديد أدوات وحقول إبستمولوجية، تعمل على تبني واقعه وخصوصياته، بل خصوصيات الفئات المختلفة فيه، لأنها تجمدت في نماذج ابستمولوجية غير مواكبة. فإذا انطلقنا من واقع الأبحاث السوسيولوجية المنجزة، نلاحظ إهمالاً لسوسيولوجيا الدين (إشكالات الدولة والسلطة والأمن…)، وسوسيولوجيا الثورة (مفهوم الدولة، الفرد…)، وسوسيولوجيا التنظيمات (إشكالات علاقات الشغل الأجور وغيرها). وحتى إن وجدت دراسات، فإنها لا تمكن من إدراك المجتمع إلا جزئياً، الأمر الذي ينعكس على طبيعة الممارسة السوسيولوجية التي تكون متباينة في علاقتها مع الواقع، بسبب غياب اتجاه تحليلي لسوسيولوجيا معينة في المغرب.
إن عدم وضوح الرؤيا للإشكالات الجوهرية المطروحة اليوم، والتي تفتقد لتساؤلات حول كيفية تأثر الظواهر بالنظام السائد. جعلت المشتغلين بعلم الاجتماع يقدمون سوسيولوجيا ذات وظيفة إيديولوجيا لا تعمل على فهم وتأويل وتغيير المجتمع، بل لا ترتبط بهمومه. ويعكس ذلك جمود الفعل السوسيولوجي في نماذج تحليلية ابستمولوجية غير مواكبة للتغيرات المجتمعية.
وإذا انتقلنا إلى الأدوات المستعملة في جمع المعطيات، الملاحظ لجوء العديد من المشتغلين بعلم الاجتماع إلى الوصف من خلال إدراج فصول كمية ضخمة تعتمد على تقنية الاستمارة، والمجازفة تكون عند استعمالها لوحدها، دون الاعتماد على أدوات قد تلائم البحث أكثر. وأكيد، أن تلك الأدوات «تخضع للنسبية الحضارية أي ترتبط قيمتها وجدواها بالسياق الحضاري الذي تعد وتستعمل أصلا فيه. ومن هنا يكون
استيرادها […] واستعمالها بدون تعديلات جوهرية أمر غير مقبول»
(9)، الأمر الذي يفسر غياب الإدراك للفعل السوسيولوجي، وعدم الارتكاز على معارف لها علاقة بالسوسيولوجيا النقدية.
ويمكن اعتبار أدوات البحث السوسيولوجي غير محايدة على الإطلاق، وإنما ينطوي إعدادها واستعمالها على أبعاد إيديولوجية مهمة مؤثرة
(10)، فوجود أطراف مختلفة في البحث أثناء جمع المعطيات سواء الباحث الذي يضع منهج البحث ويختار الأدوات والباحث الميداني الذي يجمع المعطيات فعلاً، والمبحوث الذي يقدم المعلومات يجعل الأمور أكثر تعقيداً نتيجة الوعي والوعي الزائف بأغراض البحث وجدواه ودور الكل فيه، ورأي كل طرف من الأطراف الأخرى وما إلى ذلك.
وبالنتيجة، كان لابد أن يثير التعميم في مجال البحث والأدوات والمناهج عدة صعوبات، ما يدعو إلى التأمل حتى لا تسقط حقائق الواقع الاجتماعي في التعميم. إن الأدوات في علم الاجتماع على غرار العلوم الطبيعية قد جعلت للقياس الذي يستلزم وحدة الموضوع.