فـوزيـة ضيف الله
1) الحدس بوصفه منهج التأليفإنّ الحدس يؤلّف؛ لأنّه ضرب من ضروب الإدراك الذي يلتحم بالأشياء التحاماً (coïncidence)، فلا ينقاد من ظاهرها إلى باطنها بل ينفذ إلى باطنها مباشرة باحثاً عمّا يمكن أن يكون فيها من وحدة فعلية ومتصلة، فيؤلف بين الأشياء على تنافرها داخل الديمومة المتجددة. غير أنّ الحدس حين يؤلّف لا ينطلق من الوحدة بل ينتهي إليها، لذلك فإنّ هذه الوحدة ليست افتراضية بل فعلية ومتصّلة لأنّها تنتج عن تعاطف باطني يضطّر في كلّ مرّة بل دوماً إلى مغادرة الزمان الحاضر بجعله حضوراً ينسجم مع الزمان الماضي وينفتح على الزمان المقبل. بَيْد أنّ الحدس إذا تعهّد بهذا الأمر، يصير عملاً مضنياً لكنّه طريف، مربك في مباشريته، مدهش في بساطته، بليغ في صمته، مذهل في قدرته الفائقة على الاكتشاف الخلاّق، إنّه يعيد
بعث الماضي، متنبّئاً بما سيحدث، جامعاً بين البداهة والغموض، بين الوعي واللاوعي، بين المادّة والرّوح.
لكنّ الحدس إذا انتظم كمنهج للتأليف فإنّه يتأسّس على أنقاض القواعد التى سنّها علم النفس كعلم يجعل من الحدس منهجا تحليلياً لا يرى في الشخصية النفسية إلاّ أحوالاً متنافرة، فيفقدها هويّتها ووحدتها الباطنية
(1). لذلك فإنّ الحدس كمنهج تأليفي، ينبغي عليه القطع مع مسلّمات علم النفس التحليلي ليصوغ لنفسه قواعد تخصّه وتميّزه.
2) الحدس وقواعد توجيه التفكيرإنّ المنهج البرڠسوني يضاهي في
دقّته المنهج الديكارتي في
وضوحه وتميّزه. فإنّ كان ديكارت قد سنّ قواعد المنهج لتوجيه الفكر في البحث عن الحقيقة، فإنّ برڠسون بدوره يجعل من الحدس تجربة البحث عن الحقيقة الحية La vérité vivante. لذلك اعتبرت مادلين بارتلمي مادول M. Barthélemy-Madaule المقدّمة الأولى من كتاب (التفكيروالمتحرّك) لـ برڠسون بمثابة حديث في المنهج
(2)، ويمكن صياغة هذا المنهج حسب جيل دولوز في القواعد الثلاث التالية
(3):
القاعدة الأولى:الحدس هو الذي يبتدع المشكل الحق. يتحدّد إمكان هذه القاعدة الأولى
(4) مبدئياً ضمن أفق مميّز لصياغة المشاكل الفلسفية. إذ تتعيّن هذه القاعدة ضمن تدبير أوليّ لمعنى السؤال كمؤسّس لإمكانية التوصّل إلى الحقّ أي كمحدّد لإحداثية طرح المشاكل من جهة ماهو طرح يحيل إلى الحلول دون أن يعيّنها، ويتحدّد شرط إمكان هذه القاعدة في النقاط التالية:
– إنّ اختبار المشاكل من جهة صحّتها أو خطئها ينبغي أن يحمل داخل المشاكل نفسها.
– إنّ ابتداع (invention) المشاكل لا يكون إلاّ بعد اضمحلال وتبدّد المشاكل الخاطئة، بيد أنّ ابتداع المشاكل يقتضي قدراً من الحرية، أي تجاوزاً للقصد التعليمي الذي يقصد تعيين المطلوب الأقصى للسؤال تحصيل اليقين البرهاني. فالمشكل لا يكمن في السؤال بل في وضع السؤال الذي لن يكون سؤال
المتعلّم للمعلم(5)، إذ لا يبدو أنّ ابتداع المشاكل واكتشافها من أمور القوانين المسائلة، التي يتحدّث عنها الفارابي كما تلقّاها عن أرسطو وكما حاول أن يجد لها تشريعا فلسفيا داخل اللسان العربي.
– إنّ ابتداع المشاكل لا يعني اكتشافها (découverte). «إنّ الاكتشاف يحمل على ما يوجد على نحو مسبق فهو آت لا محالة. أمّا الابتداع فإنّه لا يحمل على المشاكل الموجودة بقدر ما هو خلق (création) لها أي إعطاء الوجود لها بعد أن كانت معدومة»
(6). إنّنا نكتشف الحلّ لكنّنا نبتدع المشكل، بَيْد أنّنا لا نكتشف الحلّ إلاّ إذا تعهّدنا بابتداع المشكل. فهل اكتشاف الحلول مساوق لابتداع المشاكل؟ ألن يصير ابتداع المشاكل واكتشافها أمراً واحداً؟
تتمثل أصالة التفكير البرڠسوني في هذا المستوى الطريف لفكرة المشاكل الخاطئة faux problèmes، الأمر الذي «يؤدّي إلى انبثاق قاعدة تكميلية règle complémentaire تكمّل القاعدة العامّة الأولى»
(7).
تتحدّد صياغة هذه القاعدة كالتالي: «تنقسم المشاكل الخاطئة إلى صنفين اثنين: “المشاكل غير الموجودة problèmes inexistants” والتي تنتج إمّا عن زيادة وإمّا عن نقصان في الألفاظ التي تكونّها. أمّا “المشاكل السيئة الطرح problèmes mal posés” فتمثل خليطاً من الألفاظ سيّئة التحليل»
(8).
إنّ المشاكل غير الموجودة أصلاً هي مشاكل مفتعلة فهي حصيلة تراكمات لفظية. إنّنا نصطنع المشكل كلّما أضفنا لفظاً أو حذفنا آخر، ويشير برڠسون إلى مشاكل المعرفة والوجود فيذكر أمثلة عن هذا النّوع من المشاكل، مشكل اللاوجود، مشكل اللانظام ومشكل الإمكان. كأن نسأل مثلاً ” لماذا يوجد شيء ما بدل لاشيء؟”، أو “لماذا يوجد نظام عوض أن يوجد اللانظام؟”، كما لو أنّنا نفترض أن اللاوجود يسبق الوجود أو أنّ اللانظام يسبق النظام.
أمّا المشاكل السيئة الطّرح فهي تلك التي تجمع بين أشياء ينبغي التفريق بينها. فإذا كانت الألفاظ لا تحيل إلى
تمفصلات طبيعية، فإنّ المشكل خاطئ ولا يتلاءم مع طبيعة الأشياء كأن نسأل مثلاً «هل تردّ السّعادة إلى المتعة أم لا»
(9). والحال أن لفظ
المتعة يتضمّن حالات مختلفة لا يمكن ردّها إلى السّعادة.
فكلّما أضفنا لفظاً أو حذفنا آخر وتجاهلنا الفروق في الطبيعة، نشأت المشاكل الخاطئة. إنّ المشاكل غير الموجودة أصلاً لا تتأسّس إلاّ على المشاكل السيّئة الطّرح. فالمشاكل الخاطئة تكوّن ما يسميه برڠسون الحركة المتقهقرة للحق
(10) mouvement rétrograde du vrai، لأنّنا لا نرى إلاّ فرقاً في الدّرجة حيث يكون ثمّة فرق في الطّبيعة وهو ما يحتّم صياغة القاعدة الثانية.
القاعدة الثانية:الحدس هو مبدأ التفريق بين الأشياءتتحدّد مهمّة الحدس من خلال هذه القاعدة
(11) في ردّ الألفاظ والأشياء إلى تمفصلاتها الطبيعية أي بالتفريق بينها تفريقاً يتجاوز الفرق في الدّرجة إلى الفرق في الطّبيعة. إنّ الفرق في الطبيعة هو الذي يضمن قدرا أقصى من الفرق، أي قدرا أقصى من الفصل بين المتماهيات. إنّ التفريق الأقصى لا يتأسّس إلاّ على ضرب من التقابل
(12) opposition.
غير أنّ التفريق بين الأشياء ليس أمراً مصطنعاً أو مفتعلاً، فالفرق بين الأشياء أمر حاصل بالطبع ولا تتمثّل مهمّة الحدس في ابتداعه بل في التّفطّن إليه والكشف عنه، ذلك أنّ التّفريق بين الأشياء هو من الأمور الحاصلة، غير أنّ التفطّن إليه مهمّة يعزوها برڠسون إلى الحدس. لذلك يضطلع الحدس على نحو أوّلي
بمقاومة الأوهام التي تماهي بين الأشياء قبل مباشرة البحث عن التمفصلات الطبيعية للواقعيّ.
يقصد بمقاومة الأوهام إجراء الفرق في الطبيعة بين الإدراك والانفعال من جهة وبين الإدراك والتذكر من جهة أخرى، فنسيان هذه الفروق هو الذي تردّ إليه مسألة ظهور المشاكل الخاطئة
(13). لذلك يتعيّن على الحدس التفريق بين الذاكرة والإدراك، بين الذكرى والمادّة، بين المتصّل والمنفصل، بين الكيفيّة والكميّة أي بين الدّيمومة والمكان وخاصّة بين الزّمان والمكان، إذ هو الفرق الأساسيّ الذي ينبغي التفطّن إليه.
التتمة في العدد