عد به حزب الله بأن يكون نصرا في القلمون بات حربا دامية
نصر الله الامين العام لحزب الله
ما زالت أسئلة كثيرة تحوم حول الاشتباكات التي دارت بداية الشهر الماضي بين الجيش اللبناني وفصائل مسلحة سورية، من ضمنها «جبهة النصرة»، في بلدة عرسال اللبنانية. لكن مما لا شك فيه أن قتال حزب الله في سوريا وعلاقته المثيرة للجدل مع الجيش في لبنان يشكلان خطرا داهما على موقع المؤسسة العسكرية الوطنية ويهددان بتوريطها في حرب لا يستطيع الجيش تحمل كلفتها وأعبائها.
دورة العنف الأخيرة في عرسال أتت عقب توقيف حاجز للجيش، على أطراف البلدة، المدعو عماد أحمد جمعة، قائد «لواء فجر الإسلام» السوري الذي تردد أنه بايع زعيم تنظيم «داعش»، أثناء نقله لأحد الجرحى من جراء القتال في تلال القلمون في سوريا وجرود عرسال. إثر اعتقال جمعة، قام أتباعه بمحاصرة موقع الجيش وبدأت المعركة في عرسال. استمر القتال لأسبوع، سقط أثناءه عدد مرتفع نسبيا من عناصر الجيش بين قتلى وجرحى، ووقع عشرون آخرون أسرى. انتهى القتال إلى مفاوضات أفضت إلى خروج المسلحين السوريين من البلدة إلى الجرود المتاخمة. عند وقت كتابة هذا المقال، ما زالت المفاوضات مستمرة للإفراج عن جميع أسرى الجيش وقوى الأمن الداخلي.
مع أن الاشتباك جاء بغتة، فإن حزب الله، بالشراكة مع الجيش، خصوصا مديرية المخابرات، كان قد وضع عرسال نصب عينيه منذ سنتين على الأقل. حاول الحزب إنهاء وضعية عرسال كسند للثورة السورية، خصوصا في فترة تحضيره لحصار واقتحام بلدة القصير السورية صيف 2013. وقد وضع الحزب الجيش في الواجهة في محاولة لتوريط البلدة في صراع مع الجيش، وكانت ماكينة الحزب الإعلامية آنذاك تعمل لتظهير عرسال والطائفة السنية عموما كبيئة حاضنة للإرهاب.
المفارقة كانت في أن عملية القصير، وبعدها عمليات التطهير التي قادها الحزب في بلدات ومدن القلمون من قارة إلى رنكوس، لم تنه الوجود العسكري للمعارضة السورية في المنطقة، لا بل دفعتها أكثر في اتجاه لبنان في الجرود والتلال المتاخمة للحدود والمتداخلة مع قرى لبنان البقاعية، خصوصا في عرسال وبلدة الطفيل المعزولة. أضف إلى ذلك أن الكتائب السورية استطاعت أن تكبد حزب الله خسائر جسيمة عبر عمليات الكر والفر ونصب الكمائن في المنطقة. وتزامن هذا مع انسحاب الكثير من الميليشيات العراقية التي كانت تساند الحزب وقوى النظام، والتي عادت إلى العراق للدفاع عن بغداد ولقتال تنظيم «داعش» والمجموعات الأخرى التي انتفضت على حكم نوري المالكي، مما اضطر الحزب لتعويض النقص في العديد. ولعل التقارير الأخيرة حول سعي حزب الله إلى هدنة مع «جبهة النصرة» في القلمون خير دليل على المأزق الذي يجد الحزب نفسه فيه.
تشكل هذه الصورة الخلفية العملياتية لما حصل في عرسال. فما وعد به حزب الله بأن يكون نصرا في القلمون بات حرب استنزاف دامية. وهنا أصبح استجلاب الجيش كسند حاجة ماسة للحزب. ما يسعى إليه الحزب إذن هو انخراط الجيش في المنظومة القتالية إلى جانب النظام السوري ضد الكتائب المعارضة، ليصبح هناك تقاسم وظائف في العمليات العسكرية الدائرة، بحيث يعتمد الحزب على قصف النظام بالطيران الحربي والمدفعية من ناحية، ويعتمد على الجيش لحماية ظهره ولقطع إمدادات الكتائب السورية من الداخل اللبناني من ناحية أخرى. بالفعل، أشارت تقارير صحافية لبنانية في يوليو (تموز)، مستندة إلى مصادر في المعارضة السورية، أن حزب الله يحاول قطع إمدادات التموين الغذائي التي باتت الفصائل المقاتلة تعتمد عليها من الداخل اللبناني. وأن الجيش اللبناني بات يعترض الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية داخل لبنان. وبهذا يتحول دور الجيش من مانع انتقال نار الحرب السورية إلى لبنان إلى شريك في هذه الحرب إلى جانب النظام وحزب الله.
طبعا لا يخفى على أحد أن الجيش يضبط الحدود بانتقائية واضحة، إذ لا يتحرك ضد تدخل حزب الله في سوريا أو ضد قصف النظام السوري وتوغله في الأراضي اللبنانية. ولعل أفضل مثال هو صمت وغياب الجيش تجاه ما يفعله حزب الله ونظام الأسد في بلدة الطفيل. فبعد أن هجّرا أهلها، يسعى الحزب والنظام لتحويلها إلى منطقة أمنية تحت سيطرتهما. من ناحية أخرى، ذكرت تقارير صحافية أنه جرى قصف عرسال من اللبوة، البلدة المجاورة والمؤيدة لحزب الله. كما أن مجموعة من اللبوة اعترضت قافلة من المساعدات الإنسانية في طريقها إلى عرسال.
وهنا يتبين خطر التماهي القائم بين الجيش والحزب. وتجوز قراءة عودة رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري إلى لبنان إثر حادثة عرسال في هذا السياق. يواجه الحريري، بصفته زعيم تيار المستقبل الأكثر تمثيلا في الطائفة السنية، وكحامل لراية الاعتدال، مجموعة تحديات صعبة. فمن ناحية، أوجد الاصطفاف القائم بين حزب الله والجيش هوة كبيرة في الثقة بين المؤسسة العسكرية والطائفة السنية. وزادت ممارسات الجيش، والتي لا تقف أبدا في وجه حالة حزب الله، من خطر ابتعاد السنة عن مشروع الدولة الذي يحمله الحريري لصالح أصوات أكثر تطرفا. كما أن المناطق السنية المغبونة مثل عرسال وغيرها، والتي حملت على كاهلها ثقل اللاجئين السوريين، بالإضافة إلى المضايقات والحملات العدائية التي تتعرض لها، بحاجة إلى دعم وقيادة تقف وراءها. عاد الحريري إذن على هذه الخلفية، حاملا مساعدات مالية، ضمنها الهبة السعودية الكبيرة للجيش، في محاولة لتهدئة الغليان.
لم تكن كلمة قائد الجيش العماد جان قهوجي حول العملية في عرسال مفيدة، فهو زعم أن التنظيمات التي دخلت عرسال كانت تخطط لتصدير «السيناريو الذي حصل على الحدود العراقية والسورية» إلى لبنان. المشكلة الأخرى هي أن قهوجي يُعتبر المرشح الأول لحزب الله لرئاسة الجمهورية. ويخشى كثيرون أن يستثمر الحالة الأمنية، والدعم الدولي للجيش في مواجهة الإرهاب، ليقوي حظوظه للوصول للقصر الرئاسي. أضف إلى ذلك مناورات بعض الأطراف السياسية الأخرى المتحالفة مع حزب الله لضمان تسلم قائد فوج المغاوير، العميد شامل روكز، صهر الزعيم الماروني ميشال عون، قيادة الجيش خلفا لقهوجي.
تفاقم كل هذه المناورات السياسية المخاطر على توجه الجيش وتضيف تساؤلات حول وضعية تحالفه مع الحزب والميليشيات التي يسيّرها، والقوى السياسية الأخرى التي تخاصم تيار المستقبل وتؤيد نظام الأسد. لكن يبدو أن رهان الحريري يبقى على الجيش، المؤسسة الوطنية الباقية، خصوصا في وقت يتلقى حزب الله ضربات في سوريا. لكن هذا الرهان طويل الأمد ونتيجته غير مضمونة في ضوء التحديات غير المسبوقة التي تواجه لبنان دولة ومجتمعا، والتغيرات الحاصلة في جواره.
ولكي تكون هناك فرصة لنجاح هذا الرهان، فإن فك الارتباط القائم بين الحزب والجيش، والذي يمثل خطرا على المؤسسة وعلى لحمة المجتمع ككل، شرط ضروري. لكنه، مع الأسف، ليس طرحا واقعيا في المدى المنظور. الواقع المؤسف هو أن العقيدة التي رسخها الحزب، والتي تقول بتكامل الجيش و«المقاومة» و«الشعب»، حولت الجيش ولبنان ككل هدفا لإسرائيل في أي حرب مقبلة. ومن ناحية أخرى، ها هو الحزب اليوم قد ورط الجيش والدولة والمجتمع في حربه في سوريا.