آراء في الملّة والسياسة
30 أغسطس 2014 بقلم
يوسف بن عدي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:في التمهيد
لا جدل أنّ فلسفة الفارابي قد حظيت بعناية فكريةٍ وفلسفيةٍ ومنهجية في التأليف الفلسفي المغربي المعاصر، بلْ والأكثر من ذلك، يمكننا اعتبار أنّ نصوصَ الفارابي وتحقيقاتها وإخراجها إلى حيز الوجود قد أسهمت، بلا منازع، في بيان أثرها عند فلاسفة الغرب الإسلامي (المغرب والأندلس). فانظر كيف تحضر شروحات و تلاخيص المعلم الثاني في نصوص كل من أبي الصلت و ابن باجه وابن رشد...وغيرهم.
وعلى ذلك، سعى بعض الباحثين العرب المعاصرين إلى البحث عن مبررات القطيعة الإبستمولوجية أو شواهد راسخة على الاستمرارية وبين أثر "الفارابي" في الفكر الفلسفي في الغرب الإسلامي.
وبعد كلِّ هذه الاعتبارات المتقدمة، صار واقع الدراسات الفارابية المغربية، واقع صراع التأويلات الإيديولوجية والمذهبية، متى تعقلنا و أدركنا إدراكاً تاماً أنّ كلَّ فهم هو تأويل. والتأويل مراتب ومنازل منها القريب ومنها البعيد، بل ومنها المنفعل والفاعل بلغة "أرسطو". وكل هذه الأنواع من التأويلات يتكئ جلُّها أو بعضها على فرضية الجدل الرهيب بين الفكر والتاريخ في سياق علاقات تكاد تكون صعبة الفكاك لالتباسها وغموضها.
ألم يتزعم نفر من الناس دعوى قراءة مسارات الفكر وتحولاته من جراء التاريخ؟ بل منهم من نشر وأذاع بين الناس بأنّه لا مناص من قراءة التاريخ من حيث هو أبنية فكرية وتجسيدات لعقل كلي أو جزئي.
إننا لسنا ملزمين بالنظر في مدى مشروعية هذه الدعوى أو تلك، بقدرما نتطلع إلى رصد إيقاع التفكير في متون المعلم الثاني في بعض النماذج الفكرية المغربية الراهنة. وهكذا، قطعنا على أنفسنا أن ننظر في القول الفلسفي المغربي في فكر الفارابي عن طريق انتخابنا فئة معينة تتأرجح خلفيتها بين ماهو فلسفي وماهو إيديولوجي، مرجئين النظر في صورة الفارابي المنطقي والجدل العميق الذي كان مداره الرابطة الوجودية (εστι) وأدوارها الذاتية والعرضية في بناء العبارةπερι ερμηνεας لفرصة أخرى.
لئن توخينا النظر في الدراسات الفارابية المغربية الراهنة بُغية قياس إيقاع تطور الإشكالي والنظري والمنهجي لقولنا إنّ المكتوبات الصادرة في السنوات الأخيرة عن قضايا الفلسفة السياسة وعلوم الملة، عند أبي نصر الفارابي إنما تتسم بطابعها الاستدلالي على قضايا فكرية وسياسية ومدنية برؤية مختلفة، بل قلْ تغيير جهة النظر، لا موضوع النظر.
أولاً : ضد فكر الفارابي ومعه
من التأسيس الحجاجي للسياسة إلى بناء نظرية في الإنسان
من هنا، لسنا نتزيد حين نقرُّ بأنّ من أهمِ المكتوبات المغربية الصادرة في سنة 2011 بشأن فلسفة الفارابي في الفكر المغربي كتابين: الأول بعنوان "الدين والسياسة في فلسفة الفارابي، من التأسيس البرهاني للسياسة إلى التأسيس الحجاجي" (2011) للمؤلف محمد ايت حمو. والكتاب الثاني :"نظرية الإنسان في فلسفة الفارابي" (2011) للمؤلف محمد قشيقش.
لئن تأملنا مليّاً كتاب "الدين والسياسة في فلسفة الفارابي" للباحث المغربي ايت حمو لوجدناه يرنو إلى الانخراط في قراءة نصوص الفارابي ملّياً وسياسياً وأخلاقياً في معرض رصد كبير وواسع للآراء العربية والغربية ومناهج البحث. كلُّ ذلك تحت دعوى هو "أول فيلسوف قدّم تصوراً فلسفياً عميقاً للملّة في الإسلام(...) فالدين هو الموضوع المركزي لكتاب الملّة الذي نظر فيه إلى الدين بوصفه موضوعاً فلسفياً بإمتياز"
[1]. ذلك الموضوع الذي لم يكن من اليسر والسهولة رصد مفهوم الملّة بصورة واضحة عند المعلم الثاني. لتكون السياسة أيضاً محل جدل رهيب بين رؤيتها الطوباوية المثالية كتعويض أنطولوجي عن الواقع المفكك والمتشظي. وبهذا، ينجم عنه أنّ السياسة عند الفارابي هي رهينة الطموح البرهاني. هذا الطموح الذي لا يفسده إلا ماهية السياسة ذاتها من حيث هي حجاج واحتجاج وصراع ومناورة ومفاوضة وسلم وحرب..وهكذا. إذاً، تكون الحصيلة المحصلة من المؤلف أنه سعى سعياً مبيناً لبناء رؤية مناهضة لفكر الفارابي، أعني أنّ الرجل فكر بواسطة الفارابي ضد الفارابي.
فانظر كيف أنّ المعلم الثاني جال نظره وطاف به في مجال الدين والملّةِ والسعادة..إلخ. غير أنه لم يكن من أاجل الإنسان من حيث هو إنسان، وإنما من أجل الغير الذي هو العقل الفعّال والميتافيزيقا على جهة العموم، متى علمنا أنها بنية هرمية تنعكس على بنية المدينة الفاضلة ذاتها. وبالتالي، نعلم أنّ الإنسان لم يكن سؤالاً مركزياً، أي ذاتياً بقدر ما كان سؤالاً عرضياً لذوبانه في بنية العقل المطلق بيولوجياً ولاهوتياً. يقول ايت حمو في هذا السياق: "الغاية من الاجتماع البشري هي الصعود إلى المبدأ الأول والعلة على تحقيق مجتمع الإنسان، وسعادته التي لا تكون إلا بالتأمل في هذا المبدأ، ممّا يعني أنّ السياسي عند الفارابي جوهره ميتافيزيقي، طالما أنّ السياسي مرتبط بالسعادة وقوى النفس..".
[2]وفيما يتعلق بكتاب "نظرية الإنسان في فلسفة الفارابي" (2011) للمؤلف محمد قشيقش فلا مانع يمنعنا من التصريح والتلميح أنّ هذا النص هو مغامرة فكرية بعلة اختلاف تضاريس فكر الفارابي من علوم ملّية وحكمية وعلوم المنطق والميتافزيقا والاجتماع البشري من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية هو حماس الرجل وإرادته القوية في إنشاء نظرية الإنسان عند المعلم الثاني وحفظها على حد قول القدامى. يقول الباحث المغربي: "..عدم إفصاح الفارابي بشكل مباشر عن نظرية الإنسان باعتبارها نظرية مستقلة، بل الموجود منها في الظاهر هو عبارة عن أقوال في السيكولوجيا وفي البيولوجيا وفي الاجتماع المدني وفي السياسة.."
[3]. وغيرها من الشواهد والبيّنات التي توسل بها الباحث للاستدلال، بشكل مباشر أو غير مباشر، على مفهوم الفرد والإنسان في فلسفة الفارابي.
وعلى هذا نقول إنّ الكتابين قد أضافا، بالفعل، للفكر الفلسفي المغربي المعاصر دعوة إعادة النظر في نصوص أبي نصر الفارابي قصد إنكار أمرين لطالما شكلا معا موانع التفكير النقدي السليم، وهو على ضربين أساسيين، هما:
- الضرب الأول هو النظر للسياسة مع الفارابي من حيث هي مؤسس على البرهان، نحو أخذها بعلتها، وعلتها أي السياسة أنها محاججة ومصارعة وسفسطة بين هلالين.
- والضرب الثاني هو تجاوز(dépassement) مسلمة راسخة أيما رسوخ في العقل العربي، مفادها أنّ الإنسان لا وجود له، كذات، إلا من جهة الإلماع والإلماح.
ثانيا: "الفارابي" المتعدد بين الاشتراك والتشكيك
لا أخال "الفارابي" إلا جوهرًا يحمل حملاً على الموضوعات، وهي المقولات العرضية وفق درجة ومتطلبات وكيفية تحصيل علاقة الجوهر بالمقولة العرضية سواء كانت كماً أو كيفاً، فعلاً أو انفعالاً.
بهذا يكون فكر الفارابي في هذا المعرض هو فكر تشكيكي، أي لها صور متفاوتة ومتباينة لا رابط لها إلا ذاتها، أي الجوهر. إذ متى كان فكر "الفارابي" ينظر إليه نظرة التواطؤ أو الاشتراك كان فكراً مرتدًا لاحتماله مسارين : إما الوحدة المتطابقة وهي نظرة العلم لا الفكر والفلسفة، وإما اقتراح فهمين لا ثالث لهما.
يترتب عن هذا، أنّ الدراسات الفارابية المغربية ملأى بصور مختلفة ومتنوعة، كلُّ واحدة منها تطمح كي تعبر عن أحلام وتصورات المعلم الثاني كما كان يراها هو ذاته من جهة نظر المؤول. وهذا أمر مشروع لكل قراءة تُقدم على الفحص والمطالعة النقدية.
إنّ الدراسات المغربية في فلسفة الفارابي كانت بادئة مع كل من الحبابي والجابري اللذين أسهما مساهمة قوية ودالة في تحليل قضايا الملّة والدين والسياسة من جهة نظر إيديولوجية ومعرفية مؤسسة على طموحين فكريين تنويريين هما: طموح الانفصال والاتصال مع التراث.
من المفيد القول إنّ الحبابي قد ألّف دراسة عنونها: "
أبو نصر الفارابي المنظّر للمجتمع المدني المثالي"، يروم من ورائها إبراز فلسفة الفارابي كنزعة فارابية مؤولاً إياها من زاويتين؛ الأولى: محاورتها بالمعنى التاريخي المنهجي، والزاوية الثانية رصد المعنى التاريخي الوجودي
[4]، إضافة الى ذلك، تحصيل الفارابية بقراءتها على ضوء جدل الانفصال والاتصال. أعني ما "تمثله بالنسبة لعصرها، وما توحي به بالنسبة لعصرنا، عسانا نتفهّمهما أكثر وأحسن، وندخل في حوار معها ملتصق بالقضايا الحالية للعالم العربي-الإسلامي".
[5]وبهذا الاعتبار، كان من تجليات الفارابية أنها كانت نتيجة أزمة سياسية ومجتمعية، أعني أزمة ضمير كان كافياً للبحث عن المثل والمدينة الفاضلة، بل قلْ السعادة القصوى. وهو الأمر الذي علا فيه كعب الجابري وسطع نجمه، حينما ربط الفكر بإشكالياته وسياقه المعرفي والإيديولوجي ربطاً فيه الكثير من النباهة والتقاط الحدوس. لذلك كان إيقاع تفكير الجابري مهووساً بقراءة الفارابي وفلسفته قراءة إيديولوجية مادام الأمر كما يقول لا توجد قراءة بريئة.
[6] فلما كانت رؤية الحبابي لفكر الفارابي تؤمن بأنّ القراءة تغيّر المقروء حسب وضع القارئ من حيث إنّ القراءة يجب أن نستحضر فيها جميع "أفعال الإنسان الوجدانية والعقلانية والحسية".
[7]بالضد من ذلك، يراهن الجابري على الإيديولوجي باعتباره تأويلاً لا يفارق العقلانية بمعنى من المعاني. وينتج عن هذا، أنّ ثمرة الحبابي من جراء قراءته فكر الفارابي هو سؤاله عن الإنسية والإنسان، وأما ثمرة الجابري فهي سؤاله عن العقلانية. إنهما مداران أساسيان ـ الإنسان والعقلانية- في فلسفة الفارابي.
أمّا صورة "الفارابي" عند الأستاذ المصباحي فهي موسومة بالجدة الإشكالية وراهنيتها. وعلّةُ ذلك أنها صورة لم تتشكل على جهة النظر الإيديولوجي بل على النظر الفلسفي الخالص.
فقد تحصل من ذلك، أنّ صورة المعلم الثاني تحضر في سياقين مختلفين، هما: سياق نظرية العقل وسياق الواحد والوحدة.
إنّ صورة الفارابي في سياق نظرية العقل تكمن في تصور المعلم الثاني للإشكال العقلي أو العلاقة بين النفس والجسم والعقل، حيث اعتبر "نسبة النفس إلى الطبيعة كنسبة العقل إلى النفس، أي أنّ هناك وحدة تواطؤ تام بينهما".
[8]ولعل من موانع غياب الإشكال العقلي، مثلما سوف يتجلى بوضوح مع أبي الوليد بن رشد، هو "إبعاده النفس عن الجسم واعتبارها جوهراً روحانياً لا صورة مادية للجسم، فظلت نظريته العقلية تحت طائلة الإشكال النفسي الذي يوحد مركزاً تؤثره بين النفس والجسم لا بين النفس والعقل".
[9]وهكذا كان العائق الأبرز هو محاولة، أو بالأحرى هاجس الفارابي في إيجاد أرضية مشتركة بين الموقف الأرسطي والموقف الأفلاطوني، إضافة إلى ذلك، المكانة الأساسية التي كان يحتلها العقل الفعال في فلسفته.
[10] وهو العكس الذي نجده عند ابن رشد الذي يتصور العقل الفعال كفعالية للتجريد لا للمعرفة.
[11]يتضح لنا أنّ صورة الفارابي في فكر المصباحي تأتي في سياق نقدي لفلسفته، بل قلْ منظوره وطبيعة المعرفة ذاتها، لكي يكشف بالفعل العوائق التي أدت إلى غياب الإنسان والأنا والاهتمام بما وراء الطبيعة. يقول المصباحي في هذا المعرض: "وهكذا يظهر أنّ المهم في هذه الفلسفة ليس هو السعي لإثبات الأنا والعالم، لكن إثبات ما وراء الأنا، وما وراء الطبيعة، ولذلك لا يمكن أن تتوقع ظهور الأنا أفكر أو الكوجيطو أو الأنا الترسنتدنتالي في أحضانها (...)، لكن الذي حال دون خروجه من دائرة التفكير الأرسطية المشبعة بالأفلاطونية".
[12]من بعد ومن قبل، نقول هل يجدر بنا الحديث بالفعل عن مفهوم الإنسان، ولو كان البحث عنه بما ليس هو أي من جهة عوارضه ومظاهره وتجلياته؟ وآية ذلك تلك الخلفية النظرية والفلسفية الأساسية والقاعدية التي لا تمنح لأبي نصر النظر في الإنسان من حيث هو إنسان، رغم أنّ هذا الإنسان قد يمتلك هذه المبادئ بشكل قبلي، لكنه لا يستوفيها من الطبيعة، بل من "العقل الفعّال المفارق، وهذا ما يجعلنا نستحضر أنّ المفارقة هي العائق الذي عرقل تحول فلسفة الفارابي من فلسفة موضوعية إلى فلسفة ذاتية".
[13]وأمّا فيما يتعلقُ بصورة الفارابي في سياق الواحد والوحدة إنما هو ، بادئة، غير بعيد عن أفق نظرية العقل. إذ أنّ كتاب الواحد والوحدة ليس كتاباً مذهبياً بحيث يتكلم فيه عن الوحدة وعلاقتها بالمتقابلات والمقولات وطبيعة الواحد ذاتي أم عرضي.. بل إنه كتاب دلالي، أي ينظر في دلالة الواحد ومعانيه وأنحائه. وبهذا يكون الفارابي ضمن التقليد الأرسطي - وليس كما يدعي حمو النقاري أنّ هناك تمايزاً بين "برهان الفارابي" و"برهان أرسطو"
[14] - وينجلي هذا حينما نستحضر مقالتي الدال والياء من كتاب ما بعد الطبيعة، الطريقة الاستدلالية"، وهي الطريقة التي دشنها أرسطو بحسب الفارابي نفسه".
[15]وعلى هذا تصاعد الإيقاع النظري والفلسفي والدلالي في رصد صورة الفارابي عند محمد المصباحي بصورة تكاد تكون أشد دقة ووثاقة وإيغالاً في التجريد الفلسفي الخالص. إنها صورة لا تتحدث عن الفلسفة، بل تمارسها دلالياً وإشكالياً، معرفياً وإنطولوجياً.
فانظر كيف أنّ المعلم الثاني سارع إلى عملية "تفريع دقيقة للدلالات تكاد تكون ذات منحى إسكولائي"
[16]من حيث إنه إحصاء شامل لمعاني الواحد وعلاقاتها بالكثرة، من ثمة كان أمر الفحص والإحصاء للدلالات ضمن أفق مقالة "الدال" التي أيضاً ترصد معاني الواحد والهوية والعرض والجوهر...إلخ. ولعل من مطالب الفارابي: "أن يطبع عرضه لمطلب الواحد في كتابه هذا بطابع ميتافيزيقي، بل حرص أن يظل في مستوى دلالي، من حيث إن الدلالة تعني الإيبستيمولوجيا لا الإنطولوجيا".
[17]من الواضح أنّ اختلاف الفارابي عن أرسطو في النظر إلى الواحد يختلف من حيث إنّ الأول نظر إلى الواحد الكثرة من زاوية التقابل من دون التدقيق في نوع "التقابل الذي يسود بينهما، هل هو من نوع تقابل الملكة والعدم، أم من نوع تقابل التضاد أم هو من نوع تقابل التناقض أو الإضافة (...). بل إنّ الفارابي اكتفى بإحصاء تقابل أنواع الواحد مع أنواع الكثرة دون اهتمام بنوعية التقابل".
[18] وهو الأفق الذي يراهن على أفق مقالة "الياء" الملأى بالشكوك والصعوبات. من هنا، لم يكن الفارابي ببعيد عن دلالة التشكيك في نظره للواحد. هذا الأخير الذي يقوم بدور دلالي "يتجلى في ضمانه لوحدة هذا العلم، أي توفيره لنوع من الحمل الذاتي، وهو الشرط الذي لا مناص منه لكل معرفة برهانية ويقينية".
[19]وأمّا الدور الثاني فهو دور إنطولوجي يتمثل في "تقاسمه مع "الموجود بما هو موجود" الموضوع الخاص بالفلسفة على سبيل المساوقة أو التلازم المتبادل. وذلك حينما ننظر إليه واحداً بما هو واحد، لا باعتباره واحداً مقابلا للكثرة".
[20]من هنا نتلمس أنّ صورة "الفارابي" في منأى عن أفق "الكندي" الذي اختار الاشتراك في الاسم، الأمر الذي "فوّت عليه الفرصة في أن يدرك إمكانية قيام علم للموجود العام (الإنطولوجيا)، لا يرى في الفلسفة الأولى سوى علم إلهي وحسب"
[21]، وذلك حينما سعى سعياً قوياً إلى توظيف دلالة التشكيك والمقول بالتناسب والنسبة إلى شيء واحد.
وهو الأمر البيّن من منطلقات تفكير الفارابي غير المنفصل عن أرسطو في الأفق، وإن بدا لنا أنّ نقل المعاني والأمثلة على لسان العرب هو انفصال وقطع وانقطاع، بل ليس في اعتقادي توطئة للادعاء والزعم أنّ هناك تمايزات الفارابي عن أرسطو من خلال مهمات ثلاث: "التحصيل" و"التجديد" و"التقويم". يقول حمو النقاري مدافعاً عن دعواه: تلك "مهمات تصب كلها في إرادة وتوخي جعل "المعاني المنطقية الأرسطية" فاعلة ومؤثرة في المجال التداولي الإسلامي العربي".
[22]على الجملة، نقول إنّ الناظر في النصوص المغربية الصادرة حديثاً حول "فلسفة الفارابي" التي انتخبنا منها: كتاب "الدين والسياسة في فلسفة الفارابي"(2011) للمؤلف ايت حمو، وكتاب "نظرية الإنسان في فلسفة الفارابي"(2011) للمؤلف محمد قشيقش، يرى أنهما قد أسهما في إضافة أمرين جليلين: الأمر الأول هو انتشال السياسة من التأسيس البرهاني إلى مدار التحاجج. والأمر الثاني هو محاولة التفكير في مفهوم الفرد والإنسان في الفلسفة العربية الوسيطية الذي لم يقع نظرنا عليه، بل قلْ لم ننخرط في التقاط علامات ومؤشرات على صياغة نظرية في الإنسان.
وبعد كلّ هذه الأمور وغيرها نقول إنّ الكتابين بقيا إلى حد كبير في مدار الاستدلالات والاستشكالات التي دافعت عنها مطارحات الجابري والحبابي والمصباحي، وأيضاً طه عبد الرحمن ومحمد لمرسلي وحمو النقاري. أعني أنّ وتيرة التطور المنهجي والنظري عند هؤلاء كانت أقوى بحيث وجد الكتابان، وإن أظهرا مجهوداً فكرياً مباركاً، صعوبة في معالجة قضايا الملة والسعادة والسياسة والعقل والوحدة والإنسان..إلخ، بل الأكثر من ذلك، عدم القدرة على تجاوز الأطروحات المغربية الفارابية، سوى لفت الأنظار إلى خصوبة نصوص الفارابي وسعة مجالها التأويلي. وهي إشارة قوية على العودة إلى التراث الفلسفي العربي الوسيطي بعيون معاصرة.
إنّ صور الفارابي في الفكر الفلسفي المغربي مازالت، كما كانت، ملأى بالمفارقات والتناقضات وبالغلبة بالمعنى وصراع التأويلات، وهذا هو مكمن صعوبة الانفلات من هذه المفارقات والتضاربات. وأحسب أنه ليس من العيب أن يقف الباحث على الآراء المتضاربة والمتناقضة، إذ هي كما قال أرسطو، مبتدأ السير نحو القول البرهاني.