11 مارس 2014 بقلم
محفوظ أبي يعلا قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:"وقالوا لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً(90) أو تكون لك جنّة من نّخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً(91) أو تسقط السّماء كما زعمت علينا كِسفاً أو تأتي بالله والملائكـة قبيلاً(92) أو يكون لك بيتٌ من زخرف أو ترقى في السّماء ولن نّؤمن لرقيّك حتّى تُنزل علينا كتابـاً نقرؤه قل سبحان ربّي هل كنتُ إلاّ بشراً رّسولاً(93)".
[1]
هل يمكن أن يتحقق الإيمان بواسطة المعجزة؟ إنّ طرح مثل هذا السؤال- في نظري- يُعدّ ضرورة مُلحّـة، ذلك أن الاجابة عنه، لا سيّما في هذا العصر هي بداية لفهم وتجديد الفكر الدّيني الإسلامي، فضلاً عن ذلك، فإن الإجابة عنه قد تجعلنا نعيد النّظر في جميع النّصوص التراثيّة الّتي ربطت بين رسالة النبي محمد والمعجزة. وسأحاول في هذا المقـال، الإجابة عن ذلك السؤال بإيجاز من خلال تسليط الضوء على إمكانية الحصول على المعرفة من خلال الإدراك الحسي وعن طريق الشهادة، وقبل ذلك سأعرّف المعجزة، وأتناول بالشرح والتحليل الآيات الكريمة التي استهللت بها هذا المقال نظراً لأهميتها.
إنّ المعجزة هي أمرٌ خارقٌ للعادة يظهره الله على يد نبي تأييداً لنبوّته، والمعجزة ما يعجز البشر عن أن يأتوا بمثله
[2]، وهي في اصطلاح العلماء: "الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم من المعارضة"[3]. والآيات التي استهللت بها مقالي وردت في سورة الإسراء، ومعلومٌ أن هذه السورة سميت بهذا الاسم نسبة لتلك المعجزة الباهرة معجزة الإسراء التي خصّ الله تعالى بها نبيه الكريم.
[4]بيد أننا لو لاحظنا التعريف الذي وضعه العلماء للمعجزة؛ أي أنّها الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم من المعارضة، لوجدنا أن معجزة الإسراء ليست معجزة، لأنها كما نعلم خالية من عنصر التحدي؛ بمعنى أنّ المشركين لم يقولوا للرسول فلتصعد إلى السماء حتى نؤمن بك، بل إن النبي أخبرهم بأنه أسري به دون أن يكون هناك أي شاهد؛ فهم لم يكونوا حاضرين حين أسري بالرسول الكريم، و لهذا فإن بعض الباحثين اعتبروا أن معجزة الإسراء ليست معجزة، بل حادثة.
*وإنه ليبدو لي من الغريب، أن أقرأ تلك الآيات الّتي استهللت بها مقالي في سورة تحمل اسم إحدى المعجزات في نظر مجموعة كبيرة من علماء الدّين. فكيف يمكن أن يقول الرسول: "سبحان ربّي هل كنتُ إلا بشراً رسولاً". بمعنى كيف يمكنه، إن كان بمقدوره أن يأتي بمعجزة حسيّة، أن يعلن عجزه لأنه مجرّد بشر؟
إنّ سورة الإسراء من السور المكيّة التي تهتم بشؤون العقيدة، والعنصر البارز فيها هو شخصيّة الرسول
[5]. و لهذا، فهذه السورة تجعلنا نتعرف على النبيّ الإنسان. ويرى علماء القرآن أن مناسبة آية: "وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ... "، وما يتبعها من آيات، أنّ الله تعالى ذكر نماذج من تعنت الكفار وضلالهم باقتراح خوارق ماديّة غير القرآن العظيم
[6]. ثم إنّ سبب نزولها، حسب علماء القرآن، هو طلب رؤساء قريش من النبي بعد أن عرضوا عليه الشرف والمال ... أن يسأل ربه ليجري عليهم الأنهار ويبعث موتاهم، حتى يسألوهم عن حقيقة دعوة الرسول وغيرها من المقترحات المذكورة في الآيات الكريمة
[7]. وقوله تعالى: "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً"، فسّره محمد علي الصابوني بالآتي: أي قل لهم يا محمد تعجباً من فرط كفرهم وعنادهم: سبحان الله هل أنا إله حتى تطلبوا مني أمثال هذه المقترحات؟ ما أنا إلا رسول من البشر بعثني الله إليكم، فلم هذا الجحود والعناد
[8]؟
إنّ المتأمّل لهذه الآيات الكريمة، يجد أنّ المشركين يطلبون معجزات حسيّة؛ أي خاضعة للإدراك الحسيّ، وقد امتنع الرسول عن الإتيان بها، وهو الذي قال في أحاديث كثيرة إن معجزته هي القرآن
[9]؛ أي أن معجزته عقليّة لا حسيّة. ومع ذلك، فلنفترض جدلاً أن الرسول أتى بمعجزة حسيّة، فهل يمكن أن يتحقق الإيمان بواسطتها؟
إننا نكتسب الكثير من معرفتنا عن العالم الذي من حولنا عن طريق الإدراك الحسيّ؛ أي عن طريق الاعتماد على القدرات الحسيّة، مثل حواس النّظر والسمع واللّمس ...
[10], والمعجزة الحسيّة تندرج ضمن هذه المعرفة التي تبنى على الإدراك الحسيّ. إنني أستطيع أن ألمس الكتاب الذي أقرأه وأستطيع أن أرى شخصاً يركض أمامي، فأحصل بالتالي على قدر كبير من المعرفة. و لكن هل الأمر بهذه البساطة؟ في الحقيقة إن الأشياء التي تظهر لنا لا تعبر عن حقيقتها دائماً، بل إنها قد تكون شيئاً مغايراً تماماً. ولذلك، فلنفترض أن مدعياً للنبوة أخبر قومه الذين لم يروا في حياتهم ظاهرة السراب أنه سيأتي بمعجزة حسيّة، فأخذهم إلى مكان جاف في الصحراء، وقال لهم إنه سيخلق واحة وسط قحط الصحراء. في مثل هذه الحالة، إذا لم يعدل القوم استجاباتهم على النحو المناسب تجاه إدراكهم الحسي للسراب، فإنهم سيقعون في اعتقاد زائف؛ أي أنهم سيعتقدون أن هناك واحة تلوح في الأفق. لهذا يمكن أن نقول إنّ الإدراك الحسيّ مضلل، وإنه يشهد الزور
[11]. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك، أننا حين نضع العصا المستقيمة تحت سطح الماء، فإنها تبدو منحنية بسبب ظاهرة انكسار الضوء
[12]. فهل هذه معجزة؟ بالطبع لا، لذا فالتعويل على الإدراك الحسيّ لا يكون صائباً دائماً.
ومن هنا يمكن أن ندرك أنّ المعجزة الحسيّة لن تؤدي سوى لإيمان من لا يدركون أن الحواس تخدع، وبعبارة أخرى: المعجزة الحسيّة تعتمد على الإدراك الحسيّ الذي قد يكون وعياً مزيفاً كالسراب أو حالة انكسار الضوء التي تؤدي إلى انحناء العصا داخل وعاء من الماء، وهكذا فالمعجزة الحسيّة لا يمكنها أن تثبت شيئاً.
علاوة على ذلك، فإن مشكلة المعجزة الحسيّة أنها أتتنا عن طريق الشهادة؛ أي أنها وصلتنا عن طريق الآخرين. فهناك أشخاص حضروا معجزة حسيّة منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ونقلوها لنا. فهل نستطيع أن نقتنع بمعرفة الآخرين ونحوّل معرفتهم إلى معرفتنا؟ في الواقع أنه في بعض الأحيان تكون الشهادة التي نتلقاها زائفة أو خادعة
[13]؛ فمثلاً، قد يكون لجماعة معينة هدف من جعلنا نتصور وجود شيء ما، أو قد تكون أوصلت لنا معرفة خاطئة عن حسن نيّة أو عن سوء نية، وبالتالي فإنه يجدر بنا أن نخضع مثل تلك الشهادة أو الادعاء الذي وصلنا إلى عملية تمحيص.
إننا حين ندقق في الادعاء يمكننا أن نتساءل: هل تلك الجماعة التي نقلت لنا تلك الشهادة موثوق بها؟ ألا يمكن أن تكون قد وقعت في الخطأ؟ وهنا أسوق مثلاً عن رؤية الجن ... فلا أحد منا رأى الجن، ولكن معرفتنا بهم وصلتنا عن طريق الشهادة، فهل هذه المعرفة حقيقية أم مزيفة؟ يمكننا أن نقرأ رأي المعتزلة حول هذه الشهادة، باعتباره رأياً تدقيقياً ؛ فالنظّام يرى أن سبب إيمان الناس بالجن هو نزول بعضهم في بلاد موحشة وسط الخلاء، مما أدى إلى ابتعادهم عن الناس فاستوحشوا، لا سيّما مع قلة الأشغال. فكانت أفكارهم عبارة عن وسوسة. يقول النظّام: "وإذا استوحش الإنسان تمثل له الشيء الصغير في صورة كبيرة ورأى ما لا يرى وسمع ما لا يسمع، ووهم على الشيء اليسير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك أحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً، ونشأ عليه الناشئ وربي عليه الطفل"، (آدب المعتزلة، عبد الحكيم بلبع). فهنا يرى النظام أن أصل هذه الشهادة هو الوهم، وبالتالي فهي شهادة خاطئة. لهذا ألا يمكن أن تكون المعجزة الحسيّة هي أيضاً شهادة خاطئة نقلها لنا أشخاص توهموا أموراً لم تقع في الأساس؟
إنّ العقل كما يرى ديفيد هيوم هو أسير للعواطف، فهو لا يعمل إلا على خدمة تلك العواطف وتنفيذ ما تمليه
[14]، لذا نجد البعض يؤمنون بأمور معينة، لأنها تتلاءم وعواطفهم، ولنا أن نتصور رؤية إنسان للعالم قبل ظهور العلم. فهو كان, إن صح التعبير, عبداً لعواطفه. والحقّ أن مشكلة المعرفة الّتي تستمد من الشهادة هي في غياب أدلة مستقلة عنها؛ أي عن الشهادة. لذلك يصعب علينا أن نتمكن من التأكد بأنفسنا بشأن الكثير مما يخبرنا به الآخرون عبر الشهادة، لأن التأكد يعني أننا لجأنا إلى اعتقادات أخرى تستند أيضاً إلى الشهادة. وهكذا يصبح الأمر عبارة عن حلقة مفرغة.
[15]ترتيباً على ما سبق، يبدو لنا جلياً أنّ المعجزة الحسيّة لا يمكن أن تحقق الإيمان، لأنها أولاً قد تكون عبارة عن إدراك حسي زائف، وثانياً قد تكون عبارة عن شهادة خادعة.
ختاماً، قد يتساءل البعض: إذا استحال تحقق الإيمان بواسطة المعجزة فكيف يمكن أن يتحقق؟
وإني هنا أميل للمدرسة العقلية التي رأت أنّ المعرفة تأتي من داخل العقل؛ فالحقيقة حسب هذه المدرسة توجد داخل العقل وليس خارجاً عنه، لأن العقل يتوفر على مبادئ وأفكار قبليّة. ولذلك لنحصل على المعرفة، فإنّ علينا أن نعود لهذه المبادئ. وفكرة الله توجد ضمن هذه المبادئ؛ فالإنسان يملك في داخله فكرة الله الفطريّة، ليس هذا فحسب، بل إنّ فكرة الله ـ كما يرى ديكارت ـ هي كبصمة الخالق في وجدان المخلوق
[16], لذلك, فإننا لا نحتاج للمعجزة لكي نؤمن، بل يكفي أن نعود لعقولنا.