** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
تأمّلات في كتاب جورج طرابيشي "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام" I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 تأمّلات في كتاب جورج طرابيشي "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
تابط شرا
فريق العمـــــل *****
تابط شرا


عدد الرسائل : 1314

الموقع : صعلوك يكره الاستبداد
تاريخ التسجيل : 26/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

تأمّلات في كتاب جورج طرابيشي "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام" Empty
25062010
مُساهمةتأمّلات في كتاب جورج طرابيشي "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"

تأمّلات في كتاب جورج طرابيشي "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام" Arton7854-af2b0



"أوَلا تكونُ "المعجزة" خطأً في التّأويل وخللا فيلولوجيّا؟"

فريديريك نيتشه (1)


ينبغي أن نفرّق على نحو صارم بين نظريّة "الإعجاز" و"المعجزة" رغم ما
بينهما من تداخل. فالإعجاز هو نظريّة في المحاكاة المستحيلة. فما لا يُحاكى
في نظريّة الإعجاز هو القول الإلهي، لأنّ كلام الله هو فعل خلق. ويستحيل
على الإنسان أن يمتلك الكلمة واهبة الحياة، واهبة الوجود، واهبة البدء. ففي
امتلاكها يتساوى المخلوق مع خالقه، فيصبح كلاهما خالقا بالكلمة. ولذلك
أُطرد آدم من الجنّة، لا لأنّه لم يرض بهبة التّسمية، أي تسمية ما تخلقه
الكلمة واهبة الوجود من كائنات وموجودات، ووَسْم كلّ موجود باسمه بفضيلة
العلم، وإنّما أراد تملّك الكلمة ذاتها الّتي بها يكون الخلقُ. فالأكل من
شجرة المعرفة، هو انتهاك محظور غذائيّ، ولكنّه في الآن ذاته انتهاك للحدّ
المانع من الاختلاط بين العلم الّذي يسمّي الموجودات، والعلم الّذي يُنجز
به الخلق. ومن منظور التّحليل النّفسي نرى في قصّة الخلق والأسطورة
الآدميّة تخييلا يعاد فيه تمثيل هذا الفصْل التّأسيسيّ، أو المؤسِّس، بين
الرّمزيّ le symbolique والواقعي le réel، الضّروريّ في كلّ ثقافة بشريّة.
إنّه الفصل بين الطّبيعة والثّقافة بتعبير كلود لفي ستراوس. ولكن من منظور
الأنتروبولوجيا الفلسفيّة يمكن أن نرى في قصّة آدم انفصالا بين حقيقتين :

حقيقة أولى نعبّر عنها بالكلام، بحيث يكون القول ممثّلا بالكلمات لأحوال
الأشياء في العالم. وحقيقة ثانية جسّمها آدم بأكله من الشّجرة المحرّمة.
فهو بهذا الأكل قد أعرب عن ضرب من الحقائق خارج قوانين المنطق والعقل تقوم
على الالتهام، هي حقيقة الآكل أو المأكول. وهذه الحقيقة لا يمكن التّعبير
عنها كما تعوّدنا بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة وإنّما بطرائق أخرى كالغناء
أو الغذاء. ففي هذا الضّرب من الحقائق لا يتعلّق الأمر بتمثيل شيء في وسيط
آخر كالكلمة أو الخطّ أو الصّورة، وإنّما بالتهام شيء، أو دمج شيء في شيء
آخر. ففي الحقيقة الأولى نجد تطابقا بين الجملة وحال الشّيء الّذي تعبّر
عنه، أمّا حقيقة الالتهام فترمي إلى تطابق بين الحَاوِي والمحتوَى عليه، أو
بين المفترِس والمفترَس. ولعلّ هذه الحقيقة على غرابتها شائعة في مجال
الشّعر والفنّ والمقدّس. فعبارة "أشعر النّاس من أنت في شعره" تؤكّد أنّ
أجود الأشعار هي الّتي تفتن سامعيها فتبتلعهم في عوالمها. كذلك في مجال
المقدّس تنهض حقيقة الصّوفيّ على الالتهام، فهو إمّا متّحد في الذّات
الإلهيّة بالاتّحاد أو هي حالّة فيه بالحلول. وفي المسيحيّة يضحي متناول
خبز الذّبيحة أو الضّحيّة hostie متّخذا شكل المسيح. ومهما يكن الأمر فإنّ
هذه الحقيقة تعلّمنا أنّه عندما انقطعت العلاقات الالتهاميّة الدّاخليّة
endophagique بين الأفراد أصبح البشر يتعرّف بعضهم إلى بعض على أنّهم
متشابهون (2).

ولكنّ القصّة لا تروي لنا حدث الفصل التّأسيسيّ، وإنّما تسرد ما يسبق هذا
الحدث المؤسِّس، لأنّ هدف كلّ أسطورة بما هي قصّة بدايات، هي أن تعيد تمثيل
زمان مفترض يسبق الخلق، هو الزّمان ما قبل الرّمزيّ présymbolique، زمان
سابق لكلّ تسميّة، زمان لم توجد فيه بعدُ الأسماء ولا الكلمات (3). أهو
زمان الواقعيّ، بما هو زمان العمى المحض والفوضى العارمة؟ ألا يعرب آدم حين
يشتهي في القصّة الأكل من الشّجرة المحرّمة عن شوقه، بما هو شوق العودة
إلى هذا الزّمان ما قبل الرّمزي؟ في كلّ الأحوال، لا تكون هذه العودة إلاّ
بامّحاء علم التّسمية وخسرانه، بل هي عودة لا تعرب عن شيء سوى شوق إلى
الاتّصال الأموميّ، إلى الكون في حال استرساله، أي عودة أونطيّة ontique
محض خارج كلّ وعي ومعرفة. هذا الشّوق يعرب في واقع الأمر عن غريزة الموت
بما هي شوق العودة إلى المادّة الأولى الّتي منها كان الخلق (4).


إنّ آدم عندما اشتهى أن يتملّك العلم الّذي تخلق به الأشياء، إنّما أعرب
بذلك عن شوق قاتل بما أنّ كلّ شوق هو نفي لموضوعه. فنفي العلم الواهب
للوجود والحياة إنّما هو يعرب عن غريزة الموت هذه، بما هي شوق إلى الجسد
الأموميّ قبل الاندماج في الكون الأبويّ الرّمزيّ. ومن ثمّة نفهم أنّ
الإعجاز هو عجز عن تملّك هذا العلم الّذي يخلق الشّيء بالكلمة، لأنّ الكلمة
الآدميّة هي كلمة تسمّي الشّيء بنفيه وإفنائه وفي غيابه وبغيابه. ولأجل
ذلك استحالت محاكاة الكلمة الأولى، لأنّ الكلمة البشريّة لا تخلق الأشياء،
أو هي لا تخلق شيئا سوى شوقها. وهو شوق موضوعه الخلق، ولا يكون إلاّ بنفي
الخلق، بالكلمة الّتي لا تسمّي الأشياء إلاّ بقتلها. فالكلام الإلهي معجز
لأنّه يستحيل أن يترجم في لغة مّا من لغات البشر، ولا يصرّف في أيّ نظام من
الأنظمة الدّالّة. فالكلام الإلهي قول من الأقاويل العقم، لا يمكن أن
يحاكى، بل يستحيل أن يحاكى بالقول البشريّ، لأنّ القول يسمّي ولا يخلق،
يسمّي أثر الخلق فقط ولا يسمّي فعل الخلق، فالخلق فعل لا يُسمَّى. وما لا
يُسمَّى لا يحاكيه قول. فهو معجز، لا لأنّه يفوق قدرات التّعبير البشريّ،
ففكرة الإعجاز هذه تعرب عن تصوّر ساذج للذّات الإلهيّة (5)، وإنّما لكونه
فعلا يمكن أن يسمّى بلغة غير طبيعيّة كلغة الرّياضيّات اليوم، مادامت لغة
الرّياضيات هي لغة الكينونة الممكنة، إذا فهمنا أنّ الكينونة هي الفراغ
الّذي لا يسمّيه شيء سوى الملفوظات الرّياضيّة (6). ولعلّ هذا هو ما فهمه
حدسا المتصوّفة. فمجال الإلهي هو مجال ما لا يُسمّىl’innommable . وما لا
يُسمّى لا يمكن ترجمته بالعبارة الحيّة، وإنّما يقال لغزا وإشارة، بلغة
الأسرار.

إذا سلّمنا بأنّ الإعجاز بهذا التّصوّر التّكوينيّ لا البيانيّ، إنّما هو
إعجاز يتنزّل في مجال ما لا يُسمّى، فإنّ إدراجه في نظام "العجيب" (7)،
يقلب "الإعجاز"، أي ما لا يُحاكى بالقول، إلى "سرّ"، أو "معجزة"، هذا إذا
نظرنا إلى السّرّ على أنّه " نتيجة بلا مقدّمات "، والمعجزة "نتيجة بلا
مسارات" (8). بيد أنّه إلى أيّ حدّ يمكن الحديث عن "المعجزة" على نحو
مفهوميّ بمعزل عن خطابها؟ فـ"المعجزة" هي قبل كلّ شيء "قصّة المعجزة"،
وخارج الكون القصصيّ لا وجود لمعجزة أو معجزات في الواقع، لأنّه لا وجود
واقعيّ لمعجزات (9).


وإذا كانت "المعجزة" هي "قصّة المعجزة"، لا يمكن تمثيلها إلاّ في القصّة
وبالقصّة، فإنّ ذلك يزجّ بـ"المعجزة" أو "قصّة المعجزة" في "مجال الدّينيّ
التّاريخيّ" لا مجال العقل "المتعالي اللاّتاريخيّ". ذلك أنّه "لا مجال
للحديث عن أيّة تجربة دينيّة من دون توسّط القصص والرّموز والأساطير".
فالقصص الدّينيّ بصفة عامّة و"قصص المعجزات" بصفة خاصّة، لأنّها الموضوع
الّذي يعنينا في هذا المقام، "تجد موطنها الخاصّ ضمن دائرة الدّينيّ
التّاريخيّ، أي خارج كفاءات العقل المتعالية نفسها. إنّنا هنا في "حدود
مجرّد العقل" أي حسب تأويل ريكور ضمن مجال يفلت من دائرة النّقد نفسه.
فالعقل هنا لا يشتغل على نفسه أي على قدراته وحدوده بل على واقعة تاريخيّة
مخصوصة هي واقعة الدّين." (10). إذا سلّمنا بأنّ "المعجزة" أو "قصّة
المعجزة" تخرج من دائرة الفلسفة النّقديّة وتتنزّل في مجال الفلسفة
التّأويليّة، أفلا نعتبر كتاب جورج طرابيشي "المعجزة أو سبات العقل في
الإسلام"، إنّما هو إخراج "للمعجزة" أو "قصّة المعجزة" من "دائرة الدّينيّ
التّاريخيّ" إلى "دائرة العقل المتعاليّ"، وانتقال من "مجال الفلسفة
التّأويليّة" إلى "مجال الفلسفة النّقديّة"، وذلك بجعل "المعجزة" موضوعا من
المواضيع الدّاخلة في مشروع "نقد العقل العربي" ومظهرا من مظاهر "العقل
المستقيل في الإسلام" (11)؟

نحتاج، قبل أن نفحص ما يمكن أن يترتّب على اعتبار "المعجزة" داخلة في
صلاحيات العقل أو هي واقعة "خارج كفاءات العقل المتعالية" أن نبيّن في
المنطلق كيف أنّ "المعجزة" هي قبل كلّ شيء "قصّة المعجزة"، ثمّ نبيّن بعد
ذلك أنّ اعتبارها مظهرا من "سبات العقل في الإسلام"، إنّما هو استبدال
السّؤال الكانطيّ "ماذا يمكنني أن أرجو؟ Que puis-je espérer"، بما هو سؤال
يحدّد دائرة الدّينيّ الّذي ننزّل فيه "المعجزة" و"قصّة المعجزة"، بسؤال
آخر "ماذا يمكنني أن أعرف؟ Que puis-je savoir"، بما هو السّؤال "الّذي
يرسم خارطة لقدرات العقل وصلاحياته".

*

لاحظ جورج طرابيشي في مقدّمة كتابه "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"
ظاهرة طريفة صاغها على النّحو التّالي: " (…) إذا كانت المعجزة رفيقة درب
كلّ نبيّ، فلماذا قضت المشيئة الإلهيّة أن ينفرد الرّسول دون سائر الرّسل
والأنبياء بأن يكون نبيّا بلا معجزة؟" (12). ولا يسند هذه الملاحظة شيء سوى
ما جاء في القرآن من آيات "(…) تعلّل على لسان الله نفسه، امتناعه من
إتيان المعجزات الّتي يطالبه بها رسوله أو المؤمنون به، وعلى الأخص
اللاّمؤمنون…" (13).


وتكشف هذه الملاحظة سمة خاصّة بنبيّ الإسلام ينفرد بها، وهي كونه نبيّا
بلا معجزة. فغياب المعجزة يعني ضمنيّا أنّ نبيّ الإسلام ناقص النّبوّة،
لأنّ المعجزة هي الشّرط الضّروريّ لوجود النّبيّ، إذ بدون معجزة لا وجود
لنبيّ. فالمعجزة هي دليل على "صدق قول النّبيّ" و "لا سبيل إلى الاعتراف
بالنّبوّة إلاّ بواسطة المعجزة" (14). غير أنّ تاريخ الأشكال يؤكّد أنّ
"النّبوّة" و"المعجزة" إنّما هما صنفان من أصناف القصص الدّينيّ لا يمكن
الخلط بينهما، لأنّ قصص النّبوّة غير قصص المعجزات تضطلع كلّ طائفة منها
بوظائف مختلفة تماما عن الأخرى (15). والمشترك بينهما هو أن لا نبوّة خارج
كون القصّة، ولا وجود لمعجزة من دون قصّة تروي ما حدث. ويقتضي ذلك أن ننظر
إلى الأنبياء على أنّهم أبطال قصص لا وجود لهم في التّاريخ خارج قصص
النّبوّة. فالنّبيّ ليس شخصا تاريخيّا، يمكن إثبات وجوده في التّاريخ
بالقرائن والأدلّة والآثار والوثائق، مثلما تثبت المومياء والأهرام
والكتابة الهيروغليفيّة وجود الفراعنة. إنّما النّبيّ "هويّة سرديّة"
صنعتها القصّة مثلما تصنع الأساطير الآلهة، وتصنع الخرافات أبطالها ذوي
القدرات الخارقة للعادة. ويقتضي هذا الاستدلال أن نعتبر "الإنسان محمّد"
مختلفا عن شخصيّة "محمّد رسول الله". فـ"الإنسان محمّد" هو ما يجتهد
المؤرّخون في بناء ملامحه على نحو معقول ومقبول بمقاييس الصّناعة
التّاريخيّة. ولعلّ ملامح "الإنسان محمّد" هي تلك الّتي نحتها القرآن، وهي
ملامح مختلفة عن ملامح شخصيّة "محمّد رسول الله" الّتي صنعتها السّيرة
النّبويّة بما هي شكل من أشكال الكتابة السّرديّة. فإذا كان لكلّ شخص خارج
الكون السّردي "هويّة شخصيّة"، فإنّ هذه الهويّة الشّخصيّة "التّاريخيّة"
تنقلب إلى شخصيّة سرديّة إذا أجري عليها ضروب من التّصرّف والإخراج وفنون
من الحبك تكسب الشّخص التّاريخيّ "هويّة سرديّة".


ينبغي أن نستحضر في هذا المقام أنّ مفهوم الحبكة لا يقتصر على مجال السّرد
التّخييليّ، وإنّما يشمل كذلك القطاع الواقعيّ التّاريخيّ. فقد بيّنت
دراسات كثيرة في مجال إبستمولوجيا الكتابة التّاريخيّة أنّ وقائع التّاريخ
المتناثرة يمكن أن تفسّر بطرق مختلفة، ومناويل متنوّعة، منها منوال الحبكة
القصصيّة بما هي طريقة في فهم الوقائع المتناثرة يكسبها ضربا من التّماسك
والمعقوليّة إذا ما أعيد ترتيبها في تنظيم مخصوص. ولمّا كانت الحبكات
القصصيّة متنوّعة فإنّنا نعزو تنوّعها إلى قواعد الكتابة المتحكّمة في كلّ
جنس من أجناس السّرد التّخييليّ منها أو التّاريخيّ.

ويقضي ذلك أن نعتبر الميمزيس قد اشتغل في مجال التّخييل القصصيّ بطريقة
مشابهة في مجال التّاريخ. فكان يقلب الشّخصيّات البشريّة إلى شخصيّات
سياسيّة كالملوك والسّلاطين والوزراء والأمراء، أو إلى شخصيّات دينيّة
كالأنبياء والرّسل والأولياء والقدّيسين. فالملك لا يولد ملكا، وإنّما
يحتاج إلى وسائل تقلبه إلى ملك منها وسائل المُلْك كالشّارات والعلامات
الملكيّة من تاج وصولجان وعرش وحاشيّة وغير ذلك من العلامات، ولكنّه يحتاج
أيضا إلى أعمال رمزيّة تصنع صورة المَلِك وترسّخها في أذهان الرّعيّة. من
هذه الأعمال، خروجه للنّاس في موكب ملكيّ حتّى يوقع الهيبة في قلوبهم،
ومنها قصائد المديح الّتي يمدح بها، فهي بمثابة الدّعاية السّياسيّة كما
نقول اليوم، ومنها أيضا كتابة سيرة الملك. ففي هذه السّير الملكيّة يستخدم
كاتب السّير حبكة مخصوصة ليصنع للملك صورة مثاليّة لا تطابق بالضّرورة
سيرته الواقعيّة كما جرت في مسرح التّاريخ. هذه الصّورة المثاليّة تكسب
الملك هويّة مخالفة لهويّته الشّخصيّة الواقعيّة نسمّيها "الهويّة
السّرديّة"، لأنّها صنعت بواسطة العمل السّردي، ونوع خاصّ من الحبكات
الرّائج في التّخييل القصصيّ fiction. كذلك تصنع سير الرّسل والأنبياء.
فسيرة النّبيّ محمّد الّتي كتبها ابن إسحاق وغيره من كتّاب السّيرة هي
أنموذج لهذا التّحويل الّذي يجريه فنّ القصّ على الشّخص التّاريخيّ. فسيرة
الرّسول الدّينيّة هي تأويل سرديّ لحياة محمّد التّاريخيّة. فالإنسان محمّد
في التّاريخ لا نعلم من حياته سوى عناصر بيوغرافيّة ضئيلة وردت في القرآن
كيتمه ورعاية جدّه له ثمّ عمّه، واشتغاله بالتّجارة وزواجه من امرأة ثريّة
شريفة تدعى خديجة، ونبوّته ومقاومة قومه له، وهجرته إلى يثرب، ثمّ غزواته
الكثيرة إلى أن فتحت مكّة وموته بالمدينة. كلّ هذه العناصر المعتصرة من
سيرة محمّد الإنسان هي عناصر تاريخيّة تكوّن مع غيرها من العناصر هويّته
الشّخصيّة. غير أنّ كتّاب السّيرة وأصحاب الأخبار والتّاريخ لم يخرجوا سيرة
محمّد الإنسان على هذا النّحو، وإنّما استخدموا منوالا في كتابة سير
الأنبياء قلب "الإنسان محمّد" التّاريخيّ إلى "محمّد رسول الله". ولعلّ هذا
المنوال كان بتأثير من "الإسرائيليّات" الّتي كان كتّاب السّيرة مطّلعين
عليها على نحو مبكّر. ولكن المهمّ في هذا المنوال هو ربط حياة الإنسان
محمّد بتاريخ خلاصيّ تصبح فيها حياته قبل البعثة وبعدها مرتبطة ارتباطا
كبيرا بمخطّط لم يرسمه الإنسان محمّد بأعماله ومغامرته في التّاريخ
ومسؤوليته في الوجود وإنّما كان الله وراءه يسيّره بمشيئته. وعلى هذا
النّحو يتجلّى التّأويل السّردي لحياة محمّد التّاريخيّة عندما تسند نجاة
محمّد ونجاح دعوته ونصره النّهائيّ إلى الله. هذا التّأويل السّرديّ هو
الّذي أكسب محمّد الإنسان "هويّة سرديّة" مترسّخة في الضّمير الإسلاميّ
بحيث أنّه صار من الصّعب على المسلم اليوم أن ينظر إلى مغامرة محمّد
العظيمة في التّاريخ نظرة متخلّصة من تأثيرات فنّ السّيرة وحيل السّرد
وأحابيل الحبكة القصصيّة. وقس على ذلك قصص الأولياء والقدّيسين في كلّ
الثّقافات الّتي عرفت مثل هذه الشّخصيّات الدّينيّة. فهؤلاء الأشخاص لا
نعرف من حياتهم شيئا، ولا شيء يدلّ على أنّ أعمالهم قد أثّرت في مجرى
التّاريخ، غير أنّ صورتهم في "تذكرة الأولياء" أو في "كتب المناقب" تصنع
بالسّرد على نحو مختلف، فيصبحون أصحاب خوارق وكرامات أثّرت في مصائر النّاس
والتّاريخ. فالقدّيس أو الوليّ أو الصّوفيّ… من نتاج السّرد لا من نتاج
التّاريخ، ومن إبداع التّخييل القصصيّ لا من خلق الواقع. فشخصيّة من
الشخصيّات الدّينيّة ذات الصّفات البطوليّة الخارقة لا وجود لها خارج الكون
القصصيّ. وقس على ذلك قصص النّبوّة والمعجزات وأساطير الخلق وقصص البدايات
وأحاديث القيامة والأخرويّات. فهذه القصص والأساطير على اختلاف أشكالها
ووظائفها ضروب شديدة التّنوّع من القصص الدّينيّ، "تُمثّل قبل كلّ شيء
أشكالا متنوّعة من تعبير النّفس psyché كالرّؤى والمنامات والأحلام
والنّبوءات والتّجلّيات… فهي من أجل ذلك لا تتلقّى من الحقائق ما كان من
نتاج التّاريخ وإنّما تستقبل ما كان منها صادرا من منابع الدّينيّ le
religieux الحُلْميّة onirique. ويمكن تفسير ما تبديه هذه النّصوص
الدّينيّة من مقاومة بأنّها تقتضي أسلوبا خاصّا في معالجتها يتحاشى بصفة
خاصّة الخلطَ بين معطيات الشّعور واللاّشعور" (16).


ولا تختلف منابع المعجزات الدّينيّة الحُلْميّة عن منابع الأشكال الأخرى.
فهي تعبير من تعبيرات النّفس، وينبغي أن نقبلها على ذلك النّحو، لأنّها قصص
تُعْرِب عن حقيقة، ولكن على نحو فنتسماغوريّ fantasmagorique. فقصص
المعجزات تحكي آلام النّاس والبؤس البشريّ، وتطرح السّؤال التّالي: لماذا
لا يستمرّ تدخّل الله (أو التّدخّل الإلهيّ) في مجرى التّاريخ لفائدة
النّاس الّذين يتألّمون؟ فقصص المعجزات تصوّر بصفة عامّة فقدان "جهاز
المناعة" الّذي كان يحفظ الإنسان من شراسة العالم وقساوته، وذلك بفقدان
الصّلة الّتي كانت تشدّ الخالق بمخلوقه، والسّماء بالأرض، والإلهي
بالبشريّ. فهذه القصص تقدّم لنا وصفا ثريّا لبؤس النّاس المرضى دون أمل في
الشّفاء، أو لشقاء النّاس المظلومين دون أمل في العدل والإنصاف، أو يأس
الفقراء المحرومين دون أمل في الغنى ورغد العيش. فقصص المعجزات بهذا المعنى
تولي أهمّية قصوى للشّدائد الّتي تغيّر مصائر النّاس، فهي منفتحة على
الرّأفة والشّفقة "والفرج بعد الشّدّة"، وملتفتة إلى المنقذ المخلّص بحثا
عن عون ممكن. فهذا الإيمان في واقعيّة المعجزات وإمكانها، وإن كانت خارقة
لقوانين الطّبيعة، هو الّذي يؤسّس شرط وجود "قصّة المعجزة"، لأنّه ليس من
معنى للمعجزات إن لم تؤسّس لأمل مستمرّ حتّى نعرف ما الّذي يُسْمَح لنا بأن
نرجوه لفائدة حياتنا وحياة الّذين يحيطون بنا من البشر. وعلى هذا النّحو
نرى أنّ "المعجزة" و"قصّة المعجزة" تتنزّل في دائرة الدّينيّ الّتي يرسم
حدودها السّؤال الكانطيّ "ماذا يمكنني أن أرجو؟ Que puis-je espérer"،
وتبتعد بنا كثيرا عن أطروحة جورج طرابيشي الّتي صاغها في عبارة العنوان
"المعجزة أو سبات العقل في الإسلام". ذلك أنّه من العسير جدّا أن نجعل
ظاهرة "المعجزة" نقيضا لملكة "العقل"، وحالا من أحوال "سباته" أو
"استقالته".

*

لقد انجرّ عن هذا الرّبط التّلازميّ بين المعجزة والنّبوّة تضخيم جانب
المعجزات في أدبيّات السّيرة النّبويّة مافتئ يتعاظم على امتداد قرون،
"فليس يصعب على مستقرئ كتب السّيرة هذه أن يلاحظ أنّ باب معجزات النّبيّ
فيها يخضع خضوعا شبه ميكانيكيّ لقانون التّضخّم طردا مع مرور الزّمن" (17).
فمن عشر معجزات ذُكِرت في سيرة ابن هشام في مطلع القرن الثّالث الهجري إلى
"نبيّ الثّلاثة آلاف معجزة"، ما انفكّت الأرقام تتصاعد بتعاقب الأجيال
والقرون على نحو جعل مسار المعجزات يتضخّم في الأدبيّات السّنّيّة
والشّيعيّة على حدّ السّواء. وهو مسار قد استقصاه المؤلّف على نحو
استقرائيّ شغل معظم صفحات الكتاب. وقد فسّره المؤلّف تفسيرا يطلق عليه في
إبستمولوجيا الكتابة التّاريخيّة التّفسير بالعللExplication par des
raisons . وهي عِلل متنوّعة في تفسير طرابيشي لظاهرة المعجزات في الإسلام،
منها :

- العلّة الدّينيّة : فـ"إسلام الفتوحات لم يصطدم فقط بتحدّي اللّغة، بل
كذلك بتحدّي الأديان الّتي كانت منتشرة من قبله في البلدان المفتوحة،
ولاسيما منها المسيحيّة، الدّيانة الغالبة على الشّام الأمويّة وعلى العراق
العبّاسي. والحال أنّ المعجزة مقولة تأسيسيّة في الواقعة الإنجيليّة، على
عكس ما عليه الشّأن في الواقعة القرآنيّة. وعدا حاجز اللّغة، فإنّ نصارى
الشّام والعراق ما كان لهم أن يستوعبوا من خلال بنيتهم الذّهنيّة بالذّات،
دينا أو نبيّا بلا معجزة." (18)، ومنها كذلك:

- العلّة السّكّانيّة والعلّة الذّهنيّة، وقد كانتا من أسباب انقلاب
الإسلام "من لاهوت الرّسالة إلى لاهوت المعجزة." ففي الهامش الحادي عشر من
الفصل الخامس يقول طرابيشي : "ما دمنا نتحدّث عن التّركيبة السّكّانيّة
للبلدان المفتوحة وبنيتها الذّهنيّة لا بدّ أن نذكر أنّه بالإضافة إلى
المأثور النّبويّ التّوحيديّة كانت هناك أيضا مأثورات سحريّة جلبتها معها
العناصر السّكّانيّة الّتي لم يكن التّوحيد النّبويّ من تقاليدها الدّينيّة
مثل الدّيالمة والسّلاجقة، فضلا عن الرّقيق والإماء الّذين جُلبوا
بالملايين وكانت ديانتهم الأصليّة سحريّة أكثر منها نبويّة. ولا شكّ أنّ
هذه البنية العقليّة السّحريّة كان لها أثر كبير في الطّابع السّحريّ الّذي
تجلببت به كثرة من المعجزات المنسوبة في الإسلام إلى الرّسول والأئمة"
(19).


بهذه العلل وبغيرها، يعرض طرابيشي "محاولة تفسير" لظاهرة المعجزات في
الإسلام. ولكن مهما تكن وجاهة هذا التّفسير فإنّه لا يقدّم في رأينا تفسيرا
مقنعا للقضيّة الأصليّة الّتي كانت وراء تأليف هذا الكتاب، وهي القضيّة
الّتي صيغت في عبارة العنوان، "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام". ويرجع
ذلك إلى أنّ طرابيشي لم يتصدّ على نحو مباشر للمسألة الكبرى الّتي طرحت في
المقدّمة بوضوح وحدّة منذ الأسطر الأولى وهي : هل يمكن تفسير ظاهرة استقالة
العقل في الإسلام بـ"ردّ أفول العقلانيّة العربيّة الإسلاميّة إلى غزو
خارجيّ من قبل جحافل اللاّمعقول من هرمسيّة وغنّوصيّة وعرفان "مشرقيّ"
وفلسفة باطنيّة وتصوّف إشراقيّ وسائر تيّارات "الموروث القديم" (…) أم أنّ
استقالة هذا العقل ما جاءت بعامل خارجيّ ولا تقبل بالتّالي التّعليق على
مشجب الغير، لأنّها في الأساس مأساة داخليّة ومحكومة بآليات ذاتيّة يتحمّل
فيها العقل العربيّ الإسلاميّ مسؤوليّة إقالة نفسه بنفسه" (20).

لا يخفى أنّ هذه الطّريقة العناديّة Alternative (21) في طرح مسألة
"استقالة العقل في الإسلام" لا تفضي في نهاية الأمر إلاّ إلى تفسير
اختزاليّune explication réductionniste (22). وهو تفسير شائع كثيرا في
مجال العلوم والفلسفة. ونجد له نظيرا عند طرابيشي في كتابه هذا. فهو يختزل
مشكلة "استقالة العقل في الإسلام" أو "سبات العقل في الإسلام" في ظاهرة
"المعجزة"، ثمّ يختزل ظاهرة "المعجزة" حين يفسّرها بالعلل وذلك بإرجاعها
إلى عوامل متنوّعة (كالعوامل الدّينيّة والسّكّانيّة والذّهنيّة…). فالبحث
عن "آليات ذاتيّة يتحمّل فيها العقل العربيّ الإسلاميّ مسؤوليّة إقالة نفسه
بنفسه" قد جعل طرابيشي يعثر عمّا لم يكن يبحث عنه، وهو "المعجزة". فعندما
يُقرّ بأنّ المعجزات قد اعترضت مشروعه في "نقد نقد العقل"، ويصرّح بأنّه
"في سياق هذا البحث عن العوامل الذّاتيّة لأفول العقلانيّة العربيّة
الإسلاميّة، وجدنا أنفسنا أمام عامل لا متوقّع : المعجزة ومنطق المعجزة في
الموروث العربيّ الإسلاميّ، عامل غائب كلّ الغياب عن شبكة القراءة
الجابريّة ذات المنزع "البرّانيّ" في التّعليل، ولكنّه حاضر كلّ الحضور في
مأساة سقوط العقل العربيّ الإسلاميّ من داخله" (23). فإنّ هذا البحث قد
جعله يرى في "المعجزة" ما لا ينبغي أن يُرى فيها. فإلى أيّ حدّ يمكن اعتبار
المعجزة آية من آيات "سبات العقل في الإسلام" وعاملا من العوامل الّتي
تفسّر "استقالة العقل في الإسلام"؟ بل إلى أيّ حدّ يمكن أن نرى في
"المعجزة" آلية داخليّة تتحكّم في طريقة اشتغال العقل، وإلى أيّ حدّ يمكن
أن نعتبرها عاملا من العوامل المعطّلة للنّشاط العقلانيّ؟ ولمّا كانت هذه
العوامل الذّاتيّة دينيّة وسكّانيّة وذهنيّة فإلى أيّ حدّ يحقّ لنا
اعتبارها عللا تفسّر لنا "سبات العقل في الإسلام" من الدّاخل لا من الخارج؟
وفوق كلّ ذلك : كيف نحدّ هذا الدّاخل ونميّزه عن الخارج؟ أنحدّه
بالجغرافيا أم بالتّاريخ أم باللّغة أم بمحدّدات أخرى؟

إنّ هذه الأسئلة تبيّن عسر تفسير "استقالة العقل في الإسلام" بقصص
المعجزات، ذلك أنّ "المعجزة"، ونكرّر ذلك مرّة أخرى للتّذكير، لا تدخل أصلا
في سؤال نقد العقل : "ما الّذي يمكن أن أعرفه؟" وإنّما في نطاق سؤال آخر
هو: "ما الّذي يمكن أن آمله؟" فقصص المعجزات هي خطاب "أمل" ، لا خطاب
"معرفة".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

تأمّلات في كتاب جورج طرابيشي "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام" :: تعاليق

اهبة الوجود من كائنات وموجودات، ووَسْم كلّ موجود باسمه بفضيلة
العلم،
وإنّما أراد تملّك الكلمة ذاتها الّتي بها يكون الخلقُ. فالأكل من
شجرة
المعرفة، هو انتهاك محظور غذائيّ، ولكنّه في الآن ذاته انتهاك للحدّ
المانع
من الاختلاط بين العلم الّذي يسمّي الموجودات، والعلم الّذي يُنجز
به
الخلق. ومن منظور التّحليل النّفسي نرى في قصّة الخلق والأسطورة
الآدميّة
تخييلا يعاد فيه تمثيل هذا الفصْل التّأسيسيّ، أو المؤسِّس، بين
الرّمزيّ
le symbolique والواقعي le réel، الضّروريّ في كلّ ثقافة بشريّة.
إنّه
الفصل بين الطّبيعة والثّقافة بتعبير كلود لفي ستراوس. ولكن من منظور
الأنتروبولوجيا
الفلسفيّة يمكن أن نرى في قصّة آدم انفصالا بين حقيقتين :

حقيقة
أولى نعبّر عنها بالكلام، بحيث يكون القول ممثّلا بالكلمات لأحوال
الأشياء
في العالم. وحقيقة ثانية جسّمها آدم بأكله من الشّجرة المحرّمة.
فهو
بهذا الأكل قد أعرب عن ضرب من الحقائق خارج قوانين المنطق
 

تأمّلات في كتاب جورج طرابيشي "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
»  يأخذنا جورج طرابيشي في جولة مزعجة يطلعنا فيها على حكايات معجزات متنوعة في كتابه "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام" الصادر مؤخرا عن رابطة العقلانيين العرب بالتعاون مع دار الساقي. الإزعاج الذي يصيبنا جراء قراءة هذا الكتاب لا يأتي من طريقة عرض الكاتب للمو
» جورج طرابيشي
» جورج طرابيشي: محاولة تأصيل العلمانية
» جورج طرابيشي.. دفعُ الزمن المتوقف
» في وداع جورج طرابيشي محمد عبد المطلب الهوني

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: