23 أكتوبر 2014 بقلم
خليد كدري قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:في ذكرى الإلهة-الأم المغربية:
ملاحظتان ضد "عمى الرموز"
"إنّ الرمز يبعث على التفكير"؛
[sup][1][/sup] بهذا صدع بول ريكور في وجه خصومه من سدنة البنى والسيستام. لكن الناظر في مألوف مشهدنا الثقافي العام، لا يسعه إلا أن يعترف بأنّنا لسنا معنيين كثيرًا بالرهان الفلسفي أو حتى الإيديولوجي الذي يؤمه فيلسوف التأويل الفرنسي، والذي استعار من أجله حكمة كانطية معروفة. كلا، إنّ رهان بول ريكور يفترض، بالنسبة إلينا، مهمة سابقة وأكثر تواضعًا، لكنها لم تنجز، حتى الآن، على النحو المأمول: إنّ طريق "التنوير" العقلاني المنشود عندنا تمر، حتما، عبر إقامة ما يشبه "التاريخ الطبيعي" لرموزنا وشعاراتنا ومجازاتنا وترسيماتنا واستعاراتنا الثقافية الظاهرة والخفية، الواعية واللاواعية، الخاصة والعامة؛ وبالجملة علاماتنا التي نحيا بها ونموت، نلتئم ونتفرق، نسعد ونشقى من حيث لا نحسب.
تعضيدًا لما نقول، سنسوق مثالين من الثقافة المغربية الأصيلة. ففي هذه البلاد التي "تنبت الصالحين كما تنبت الكلأ"،
[sup][2][/sup] كما يقول عنها الخطيب القسنطيني الشهير بابن قنفذ، لا يبدو أنّ الرموز الثقافية تبعث على شيء آخر سوى "التواجد" أو الفرجة أو التبضع والاستهلاك. لقد أصبنا، ههنا، بما يشبه "عمى الرموز": نستهلك عشرات الرموز في السياسة والدين كما في السياحة والاقتصاد والأعمال، وفي التربية والفن كما في الإعلام والإشهار والرياضة، لكن من دون أن يقع التساؤل عن أصلها وتاريخها ومعناها. يفتخر رواق الصناعة التقليدية، عندنا، بالحلية الأمازيغية المعروفة باسم "تازرزيت" Tazerzit ؛ وهي جِدُّ مشهورة عند أهل سوس والصحراء: لوحة معدنية على هيئة مثلث متساوي الساقين ينتهي في منتصف قاعدته بدبوس أو "قضيب" يحمل خاتمًا مفتوحًا. لكن، لم يتساءل أحد من الدارسين، حسب علمنا، عن دلالة الرمز الديني الوثني الذي تنطوي عليه "تازرزيت". أجل، يدل اسم "تازرزيت" الأمازيغي، حرفيًّا، على معنى الدبوس.
[sup][3][/sup] لكن، يبدو أنّ هذا المعنى اللغوي قد شجع على نسيان الحمولة الرمزية الدينية الوثنية التي تنطوي عليها الحلية الأمازيغية. لقد اختزلت الحلية إلى وظيفتها الأداتية بوصفها مجرد دبوس مشبك؛ وبهذا الاعتبار يترجم لفظ "تازرزيت" إلى اللغة الفرنسية بلفظ Fibule ؛ وهي ترجمة غير موفقة في اعتقادنا. فالراجح أنّ حلية "تازرزيت" ليست سوى رمز للإلهة-الأم معبودة المغاربة الأمازيغ، وغيرهم من شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، في العصر القديم: فالخاتم المفتوح يرمز إلى الهلال أي إلى أحد أطوار القمر الذي اقترنت به عبادة الإلهة-الأم بوصفها ربة خصبDéesse de fertilité ؛ بينما يرمز المثلث إلى رحم الإلهة-الأم أو إلى مثلثها العانيTriangle pubique ؛ في حين قد يرمز الدبوس أو "القضيب" إمّا إلى قرين الإلهة-الأم، وإمّا إلى "العشيرة" Ashéra أو "السارية" أي الإلهة-الأم نفسها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا يسعنا إلاّ أن نلاحظ الشبه الكبير بين ثلاثة رموز من بلاد شمال إفريقيا: رمز "تازرزيت" الأمازيغي الذي ذكرنا، ورمز الإلهة-الأم "تانيت" البونية-الأمازيغية، ثم رمز "العنخ" Ankh – أو "مفتاح الحياة" – المصري القديم الذي كانت تحمله الربة المصرية إيزيسIsis، رفيقة أوزيريس ووالدة حورس. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ رمز "مفتاح الحياة" هذا كان هو الصليب الأوحد الذي يرمز لقيامة المسيح خلال القرون الثلاثة الأولى؛ وهذا يتضح بجلاء من الصور المرسومة على أغلفة أناجيل نجع حمادي Nag Hammadi الموجودة بالمتحف القبطي بالقاهرة؛ فلم تستخدم الكنائس المسيحية الصليب الروماني المعروف إلاّ عندما أصبحت كنيسة روما مسيطرة على معظم مسيحيي العالم.
[sup][4][/sup] وهذا ليس بالأمر المعجب في تاريخ الأديان المقارن، فقد بينت الدراسات العلمية الحديثة أنّ الديانة المسيحية قد استأنفت لحسابها – بصرف النظر عن الشيع و"الهرطقات" – عددًا من أساطير عبادة إيزيس وطقوسها، أو لنقل عشتار المصرية.
[sup][5][/sup]أما مثالنا المغربي الثاني، فلا شك أنّه سيرسم بسمة على وجوه العديد من القراء: يتعلق الأمر بآنية الطبخ الطينية المعروفة عند المغاربة باسم "الطاجين" Tajine. فكما اختزلت "تازرزيت"، عندنا، إلى وظيفتها الأداتية بوصفها مجرد دبوس مشبك، اختزل "الطاجين"، كذلك، إلى وظيفته الأداتية باعتباره مجرد آنية طبخ. لكن، لم يأبه أحد من الدارسين من قبل لشكل "الطاجين" الذي ليس، على ما يبدو، سوى رمز للإلهة-الأم البونية-الأمازيغية "تانيت" Tanit. وما علينا إلا المقارنة بين صور الإلهة-الأم المحفوظة في المتاحف وبين شكل الآنية الطينية. إنّ عددًا من صور الإلهة-الأم "تانيت" هو، على شاكلة "تازرزيت"، عبارة عن مثلث متساوي الساقين، لكنه ينتهي عند قاعدته بمستطيل رقيق متاخم؛ وأمّا رأس المثلث، فتعلوه دائرة مغلقة تفصل بينها وبين الرأس قطعة خط مستقيم أو "قضيب". ولعلنا في غنى عن التذكير بهيئة "الطاجين" المغربي التقليدي الذي يتألف من عناصر مماثلة. طبعا، لا تنطوي هذه الملاحظة عن أيّة دعوى لرد الاعتبار للإلهة-الأم المنسية؛ ومن يجرؤ على ذلك، بعد أربعة عشر قرنا من "التوحيد"، سوى الظلمة وسفهاء الأحلام؟! بيد أنّ ذلك لا يمنع من التساؤل عن الرسالة "المقدسة" التي يحملها إلينا "الطاجين"، منذ غابر الأزمان، وهي – بعد العياذ بالواحد الأحد الرزاق كما يجب – أنّ أقواتنا بل لحوم أكتافنا من فضل الإلهة-الأم بوصفها ربة خصب. وإذا سلمنا مع طوائف الدارسين بأنّ "تانيت" هي عشتار البونية-الأمازيغية، فإنّ اسم عشتار Ishtar البابلي القديم يلتئم من لفظين هما: "عيش" الذي قد يرادف الخبز، و"ثار" الذي يعني الأرض؛ فيكون معنى اسم عشتار هو "عيش الأرض".
[sup][6][/sup] ألا يعني هذا أنّ عشاق "الطاجين" إنّما يقتاتون، في الواقع، من جسد الإلهة-الأم "المقدس"، مثلما اقتات الحواريون من "جسد" السيد المسيح، في ليلة "العشاء الأخير"، عندما ناولهم كسرة الخبز وأمرهم، قائلاً: "خذوا كلوا، هذا هو جسدي"؟ مجرد سؤال؛ فالرمز يبعث على التفكير...