لي صديقٌ من اليمن أخبرني ذات
مرّة عن حادثة أثارتْ حفيظتي، فقد قام جاره بذبح ابنه إرضاءً لأخيه (عمّ
ابنه)، وقال لي: إذا ما ذهبتِ إلى اليمن واستمعتِ إلى حديث الناس في أحد
المجالس فمن الوارد جداً أن تسمعي عبارة من قبيل (يا ريّال "رجّال" إذا تبي
"تبغي" ولد من ولادي يكون فداك) وهذه العبارة باللهجة اليمنية أكتبُها كما
قالها الصديق المتفلّت من إرث مجتمعه بأعجوبة.
و منذ عدّة أيام سمعتُ خبراً بثّته قناة (B.B.C) العربية، يقول الخبر: إنّ
عائلة يمنيّة قامت بوأد ابنتها في حديقة المنزل ثأراً لشرف العائلة. نعلم
أنّ المرأة في الشرق تُختصر إلى مجرّد جسد (مادة)، بل إلى مجرّد جزء سفلي
من الجسد يكون ملكاً للعائلة.
لستُ هنا بصدد الحديث عن المجتمع اليمنيّ، فما طرحتُه موجود في أيّ مجتمع
آخر تحكمه الذهنيّة القبَليّة والأحكام المتوارَثة أبّاً عن جدّ.
إنّ تصوّر الأولاد كملك للأهل قد يمتدّ بجذوره ليصل إلى أبي البشر
"إبراهيم" حينما قرر الإقدام على ذبح ابنه "إسماعيل")إسمائيل) على جبل
عرفات المطلّ على مدينة مكّة وتقديمه قرباناً (أضحية) للتقرّب إلى الله. و
لكن، ما دام إبراهيم يسعى للتقرّب إلى الله فلِمَ لمْ يقدّم نفسه كقربان
له؟ ألا يكون بهذه الحالة أقرب إليه؟!
نزعة "إبراهيم" التملكيّة في الأبوّة ما زالت حيّة في العقل الباطن لدى
الآباء الذين يعتقدون اعتقاداً راسخاً أنّ أولادهم ملكهم، وذريعتهم في ذلك
أنهم علّة وجودهم في الحياة، والأولاد ما هم إلا معلولين لهم، هكذا يصرّ
الأهل على دورهم الفاعل وعلى منح أولادهم دور المفعول به دوماً، فالفاعل
يمثل السلطة المطلقة التي تتحكّم بالوجود وبالمصير.
والسؤال هنا، إذا كان الأهل علّة وجود أولادهم، فهل من حقّهم أن يكونوا علّة مصيرهم أيضاً؟
الإنسان ليس حرّاً في مجيئه أو عدم مجيئه إلى هذه الدنيا، كما أنه ليس
حرّاً في رحيله أو عدم رحيله عنها (أقصد هنا الرّحيل الطبيعي، الموت، وليس
الانتحار)، لكنّ الوسط (ما بين الولادة و الموت) هي المساحة الوحيدة التي
تحقق للإنسان وجوده الحر، ومن هنا تبرز وحشيّة اقتناص الحريّة المانحة
للفرد الإنساني وجوداً متفرّداً، فاعلا، متجدّداً.
اللاإنسانية في تعاطي بعض الأهل مع أولادهم على أنهم أملاك لهم، لا تقتصر
فقط على القتل، إنما تطال أيضاً خيارات أولادهم في الحياة، إنْ كان على
صعيد الحبّ والزواج أو على صعيد خياراتهم الدّينيّة أو السياسيّة أو
الدّراسيّة أو أي صعيدٍ آخر، ولكنّ حكمة الحياة تقتضي أنْ يعيش الابن معناه
الخاص وكلّ محاولات الآباء كي يعيش أبناؤهم معناهم ستبوء بالفشل، وإنْ عاش
الابن معنى أبيه فهذا ببساطة شديدة ما هو إلا شكل من أشكال الموت لا
الحياة، ثم أن مجرّد الإنجاب لا يجعل من المرأة أمّاً و من الرجل أباً.
في الأسطورة البابليّة (إينوما إيليش) تتمرّد الآلهة الجديدة، على سكون
آبائها، الآلهة القديمة، البدْئيّة، وهي المياه الأولى ممثلة بـ"أبسو" إله
الماء العذب و"تعامة" زوجته إلهة الماء المالح، تزعزع الآلهة الشابة
المليئة بالحيويّة السّكون الأزلي لأمهم وأبيهم (الآلهة القديمة)، تحاول
الآلهة القديمة استيعاب نشاط الآلهة الجديدة ولكن عبثاً، وحينما تنزعج
كثيراً من حركة أولادها (الآلهة الجديدة) التي عكّرتْ صفوها بحيويتها
وحركتها، وأقلقتْ سكونها الأزلي، يخطط "أبسو" من أجل إبادة النّسل الجديد
والعودة للنّوم مرّة أخرى، فيقوم أعقل الآلهة الجديدة "إيا" إله الحكمة
والفطنة، والذي بلغ حدّاً من القوة جعله يسود على آبائه، بنزع العمامة
الملكيّة عن رأس "أبسو" ووضعها على رأسه رمزاً لسلطانه الجديد، فأصبح "إيا"
إلهاً للماء العذب، وبعد أحداثٍ جسام وُلد الإله "مردوخ" أعظم آلهة بابل،
الذي أنقذ الآلهة الجديدة من بطش الآلهة القديمة، ورفع نفسه سيّداً على
المجمع المقدّس.(1)
تأتي أهميّة الأساطير من كونها كانت الطفلنة التي أسّستْ لكلّ النضج
العقلاني اللاحق، فنحن نستطيع ومن خلال هذه الأسطورة (الإينوما إيليش)
استشفاف قِدَم الصّراع بين الأجيال (الصّراع بين القديم والحديث). ومن خلال
هذه الأسطورة ندرك أنّ الولادة (الثمرة) لا تأتي إلا من خلال التّضاد،
فإذا كانت الحياة لا تنبع إلا من التنوّع، والتنوّع حركة تأبى السّكون، فلا
بدّ من التضاد ولابد من تمرّد الحديث على القديم.
وتكشف هذه الأسطورة عن الرّغبة في السلطة وعدم تخلّي الأهل عنها ومنحها
للأولاد، و كيف أنّ الأولاد سينتزعون سلطة الأهل كي يخلقوا عالمهم كما
يريدون، فالجديد (الابن الشاب) لديه رغبة قويّة في تحدّي القديم وإثبات
وجوده، والقديم (الأب والأم) متمسّك بشكل وجوده السّكونيّ لدرجة أنه لا
يريد للحركة الآتية من الجديد أن تقضّ مضجعه وتغيّر ما اعتاد عليه لدرجة
الكسل والخمول. ولعل أهمية الجديد تنبع من كونه قادراً على أنْ يحتوي
القديم، في حين أنّ القديم لا يستطيع احتواء الجديد لأنه لا يستطيع مجاراته
بعد أن خارتْ قواه.
كما ونقرأ في هذه الأسطورة عمق ما تنبني عليه العلاقة بين أفراد الأسرة من
تنازع للمصالح تشكّل نواة لكلّ العلاقات السياسية والدينية والاقتصادية
والاجتماعية خارج الأسرة.
هكذا فالأم والأب مياه تعطي الحياة وتسلبها في نفس التوقيت طالما أنها
قادرة على الإغراق، وعلى الأولاد أن يجيدوا السّباحة كي لا يغرقوا في بحر
أهلهم، إذ لا بدّ من مشاغبة الأولاد على وصاية آبائهم المستمرّة كي يتزعزع
جمود القديم الباسط سلطته على الجديد، ولتستمرّ الحياة بأشكالٍ متجدّدة لا
حصر لها.
حينما يؤمن الأهل بالحريّة قولا وفعلا سيلتزمون الصّمت لينصتوا إلى أصواتٍ
جديدة، أصوات أولادهم، سيتركون تجربتهم جانباً ليتعلّموا تجارب جديدة من
أولادهم، سيمنحونهم الحبّ دون انتظار لمقابل ولن يفكروا تجاه أولادهم
كمنقذين لهم في كبرهم، فالابن لم يُولد كي تكون وظيفته إعالة أهله في
الكبر، إنما ليحيا اختلافه، و إنْ شاء أن يساعد أهله في الكبر طوعاً فهذا
نبل أخلاقيّ منه ناجم عن إدراك إنساني عميق بالخير، أليس فعل الخير النّاجم
عن معرفة وطوعيّة أنبل من ذلك النّاجم عن جهل وإرغام؟
إنّ وعي الأهل العميق بحريّة أولادهم سيجعلهم واهبي الحياة لأولادهم من
أجل أولادهم، فالابن لم يأتِ إلى الحياة كي يحمل اسم أبيه، بل ليحمل اسمه
الخاص وتوقيعه الخاص.
وبالرّغم من كلّ ما تضجّ به عبارة (يا رضا الله و رضا الوالدين) من عاطفة
تعتصر لها القلوب، إلا أنها كافية لسجن الإنسان طيلة حياته داخل أسوار
الآلهة الأرضيّة والسماويّة، كافية لطرد الفرد خارج ذاته وسعيه الدّائم من
أجل إرضاء القداسة، وما القداسة إلا قمة اللاحياة، وما الأمّ والأب إلا
إنسان وسط يلتقي عنده الشيطان والملاك.
ستتكسّرالصّورة النمطيّة للأمّ والأب إذا ما تفتّتْ وحدانيّة الأم
ووحدانيّة الأب لتتشظّى آباء وأمهات ينبضون حياة، فالأمّ المقدّسة التي
تقبع الجنّة تحت قدميها ليست سوى سلطة تجعل من الأمّ الإنسانة، التي قد
تخطئ وقد تصيب، آلهة معصومة عن الخطأ، وعلى الأولاد أن يقدّموا لها طاعتهم
العمياء، والأب الذي امتلك كلّ الصّفات التي تجعل منه سلطة مرهوبة الجانب
لا يستحقّ أن يكون أباً، أليس احترام الأب الذي يستحق الاحترام أهم من
الخوف منه؟!
قد يكون كلام "جبران خليل جبران" أجمل ما أستطيع من خلاله ترك هذه السطور
للهواء الطلق، للحبّ والحياة، للإنسانيّة المليئة بالمعنى…..
أولادكم ليسوا لكم
أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها
بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم
ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم….