24 أكتوبر 2014 بقلم
عبد الرحيم العلام قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:الدين، إنها الكلمة الأكثر تداولاً في عالمنا المعاصر كما في باقي العصور، ليس لأنها محط إجماع، ولكن لأنها أيضاً محل اختلاف كبير، فليس المتدين فقط من يتحدّث عن الدين، بل حتى غير معتنقي الديانات تجدهم يتكلمون عن الدين، سواء نقدا له أو تعريفا أو تحذيراً منه. وما كان يمكن الحديث، مثلا، عن العلمانية لولا وجود الدين، ولذلك ينبغي على أي باحث يروم بحث العلاقة بين الدين والسياسة، أن يحدّد مقصوده بهذين المجالين، أو الكلمتين. وبما أن السياسة أضحت معروفة سواء باعتبارها مفهوماً أو بما هي ممارسة، فإن الدين، ورغم النقاش الكبير الدائر حوله، قلّما تجد من يعرّف مقصودَه منه، وكأن البداهة التي أصبح يتّصف بها مفهوم الدين جعلت هذا الأخير، إما عصيَّا على التحديد أو يُكتفىفي شأنه بالتحديد الذي يضمره كل شخص للدين، وهو ما قد أسهم في الكثير من اللبس، إلى درجة أن الخلط شائع اليوم بين الدين والثقافة مثلاً، وبين الدين والعادات. فما المقصود بكلمة "دين"؟ وماذا يعني التدّين؟ وما هو مجال كل من الدين والثقافة والعادات؟ وهل كل الطقوس تعتبر أديانا؟ وهل كل الأديان تتوفّر على الشروط الكافية لكي تكون دينا؟ وهل الأديان هي التي تتوفّر على رسالات سماوية أم أن الفلسفات الحياتية لديها ملمح دينيّ؟
على الرغم من أن المعاجم اللغوية لا تُسعف في استِكناه موضوع الدين، إلا أنه لا بد من الإشارة إلى بعض ما جاء في القواميس العربية. وفي السياق هذا، جمع أحد الباحثين العديد من المقولات اللغوية التي عُنيت بكلمة دين: فالدين هو "الحساب والجزاء، يقال في المثل: كما تدين تدان (...) ولا يدينون دين الحق، مجازه: لا يطيعون الله طاعة الحق، وكل من أطاع ملكا فقد دان له، ومن كان في طاعة سلطان فهو في دينه" وأضاف ابن الأنباري (ت328هـ) إلى معاني الحساب والجزاء والطاعة التي ذكرها أبو عبيدة، أربعة معانٍ أخرى هي: السلطان، والعبودية، والملة، والعادة، منفرداً بذلك بمعنى "العادة" الذي أكّده أيضا ابن دريد (ت321هـ). وكان المبرد (280هـ) قد استجمع في الدين ثلاثة معان رئيسة هي: الجزاء، الطاعة، والعادة".
[sup][1][/sup]والملاحظ من التحديدات اللغوية أنها لا تعالج إلا التجلّيات الدينية؛ أي ما يترتّب على الدين من طاعة وانقياد واعتياد، بينما يتعسّر على الباحث أن يجد في القواميس حديثاً عن ماهية الدين وأسسه. أما الكتب الفقهية، فهي رغم محاولتها تجاوز النقص الحاصل في القواميس، إلا أنها بقيت رهينة للمقولات الناجزة التي تُرجع الدين إلى مصدر عُلوي ينبغي للإنسان أن ينقاد له من غير البحث في ماهيته، يقول التهانوي: "الدين وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إيّاه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المال، هذا يشمل العقائد والأعمال، ويُطلق على ملة كل نبي"، أو "هو وضع يسوق ذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات، وهو ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، فإن الوضع الإلهي هو الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء...". وعزّز ذلك الجرجاني في (التعريفات )، فقال إنه "وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول"
[sup][2][/sup]. لكن هذه التعريفات لا تفيد كثيرا في الإجابة عن التساؤلات المطروحة أعلاه، فضلاً عن أنها لا تميّز بين الدين والتديُّن؛ أي بين ما نزل به الوحي وما فهمه منه الإنسان.
وإذا ما أردنا تجاوز التحديدات اللغوية أو الفقهية، صوب الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع بمختلف فروعه، فإنه يمكن القول إنهناك رؤية مغايرة لما تروِّج له المقولات اللاهوتية، فماكس فيبر مثلا، يرى أن الفرد يعتنق المعتقدات الدينية على إثر عملية استدلال منطقي، فهو يعتبر أن هذه المعتقدات، مهما كانت طبيعتها، تنتقل بالتربية والتنشئة الاجتماعية عموماً، لافتا إلى أن المعتقدات الجديدة تفرض نفسها بوساطة "الكاريزما"، "تلك السلطة الخاصّة التي يمنحها الشخص الاجتماعي للمجدّد الذي يُحرّضه على قبول ما يعرِضه عليه من نظريات ومعتقدات جديدة"
[sup][3][/sup]. تحاول هذه القراءة الإشارة إلى البعد الرمزي للأديان، وهو المسعى نفسه الذي حاول "بيار بورديو" الدفاع عنه بتقريره أن الظاهرة الدينية هي سلطة رمزية، وأن المجال الديني القدسي هو نوع من الرأسمال الرمزي؛ أي سلع رمزية يتم إنتاجها وتداولها واستهلاكها، بل التنافس عليها، تماما كما هو شأن السلع المادية".
[sup][4][/sup]وهكذا، تفضي هذه القراءات إلى فهم الدين بوصفه، حسب كليفود غيرتس: "نظاماً من الرموز التي تعمل من أجل ترسيخ حالات ودوافع قوية وباقية لدى البشر، عن طريق تكوين مفاهيم حول نظام الوجود العام، وإحاطة هذه المفاهيم بهالة من الحقيقة، حيث تبدو تلك الحالات والدوافع وكأنها واقعية على نحو فريد".
[sup][5][/sup] وكان السوسيولوجي إميل دوركهايم في كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية"، قد أكّد، في سياق ربطه للدين بالنطاق الاجتماعي، على أن للدين وظيفتين أساسيتين: أولاهما تجميع الناس وخلق التضامن الاجتماعي، وثانيهما منح المتديّنين وسيلة لإدراك العالم ورؤيته، حيث تفضي الهويات الدينية إلى خلق هويات اجتماعية لدى أفراد الجماعة المؤمنة. ومن ثم، ينتمي الفرد إلى جماعة ما، لأنه يحمل شعاراً دينياً يتفق مع الشعارات الدينية التي يحملها أفراد الجماعة نفسها. ونتيجة لذلك، فإن هاتين الوظيفتين معاً تجعلان أي مجتمع قابلاً للعيش فيه، بما أن الدين يعتبر شكلاً من أشكال الوعي الجماعي الذي يُبقي المجتمع في حالة من الوحدة الكاملة".
[sup][6][/sup]إن ما يجعل الفكر يجنح نحو التركيز على الأبعاد الاجتماعية والسياسية والرمزية للدين، هو أن الدين ليس واحداً بالمفرد ولكنه أديانٌ بالجمع، فضلاً عن أن الأديان ليست مُجمِعة على نفس الغايات ولم تنطلق من الأسس نفسها، ومن ثم صَعُب على الباحث إيجاد تعريف مانع جامع لها؛ فلقد أورد جوناثان سميث قائمة مكونة من خمسين محاولة مختلفة لتعريف مفهوم الدين، ليخلص في النهاية إلى أن ذلك لا يعني عدم إمكانية الوصول إلى تعريف للدين، وإنما "يمكن تعريفه بوسائل عدة تصل إلى خمسين وسيلة تتراوح بين النجاح والإخفاق". لكي يستنج (جوناثان سميث) أن مصطلح "دين من خلق العلماء أنفسهم؛ فالعالم يخلق المصطلح لأجل أغراضه التحليلية عن طريق أفعال خيالية من المقارنة والتعميم. ومن ثم، فإن الدين ليس له وجود مستقل بعيدا عن الدراسة الأكاديمية".
[sup][7][/sup]نظراً لهذه المشاكل المرتبطة بتعريف الدين، ينصح صاحب كتاب "الدين الأسُس" الباحثين بأن عليهم، بدل الاستغراق في إضافة تعريف جديد إلى قائمة التعريفات، أن يعملوا على الفرضية القائلة: إن في كثير من السياقات الثقافية ثمة مساحة ما لنشاط ثقافي يطلق عليه مصطلح "الدين". وإنه في حال قبولنا بذلك كمسلَّمة، يصبح الغرض من دراسة الدين كمعطى ثقافي ممثلا في "رؤية كيفية ممارسة النشاطات التي تندرج تحتهذا المصطلح المتعدد الدلالات كجزء من الحياة الثقافية ككل"
[sup][8][/sup]. ولقد حاول مالوري ناي نفسه سلك هذه النصيحة بتمييزه بين الحديث عن الدين بوصفه اسماً وبوصفه حالاً ثم بوصفه فعلاً؛ فالدين باعتباره اسماً يُعبّر، إما عن مجموعة من التعاليم الدينية أو عن شيء عالمي، أما الدين باعتباره صفة أو حالا، فإنه وسيلة لوصف أشياء (كقولنا: كتب دينية، أو مؤسسات دينية...إلخ). وإلى جانب ما سبق، يمكننا أيضا التوسع وابتكار كلمة تعبر عن الفعل المشتق من الاسم ذاته (التديُّن). من أجل النظر إلى المفهوم، باعتباره شيئا يؤدي كفعل من دون كونه شيئا يؤثر في البشر أو يفعل لهم أي شيء"
[sup][9][/sup]. الواضح أن "ناي" يروم من خلال هذا الاشتقاق أن يميّز بين التدّين والدين، من أجل فهم حاجة الإنسانإلى الارتباط بحقيقة بديلة، أو بمعنى حقيقي للوجود، أو بأساس للكون (=الحقيقة النهائية)؛ أي يعد جزءاً من الطبيعة البشرية ذاتها، وهو ما يعني أن الدين تخلقه حاجة الإنسان للتديّن.
وخليق بنا في هذا السيّاق أيضا، أن نُبيّن علاقة الدين بالطقوس التي هي شديدة الارتباط به، إذ نادراً ما توجد أديان من غير طقوسٍ تكرّسها وتضمن استمراراها وفاعليتها في قلوب معتنقيها، بل يمكن القول إنالطقوس هي الفكرة الأساس التي يتمحور حولها الدين
[sup][10][/sup]. نقرأ لهنري هوبير في هذا الصدد: فـ"الأساطير والمعتقدات تحلل مضمونه (الدين) على طريقتها والطقوس تستخدم خصائصه والكهنة يجسّدونه والمعابد والأماكن المقدسة والصروح الدينية توطّده وتجذّره في الأرض ومنه تنشأ الأخلاقية الدينية. إن الدين هو تدبير المقدس". ويعلق روجييه كايوا على هذا التصور بقوله: "لا نجد قولاً يبين بهذا القدر من الوضوح إلى أي مدى يبثّ اختبار المقدس الحياة في مختلف مظاهر الحياة الدينية. لقد بدت هذه الأخيرة تمثّل مجموعة العلاقات القائمة بين الإنسان والمقدّس، تلك التي تشرحها وتصونها المعتقدات، في حين تشكل الطقوس ضماناً عملياً لها"
[sup][11][/sup]. من المؤكد أن هذا الطرح لا يرى إمكانية لقيام الدين بمعزل عن طقوس تؤبّده وتضمن له حيويته المجتمعية؛ فالأديان غيرُ الممارسةِ سرعان ما تندثر.
وإذا كان هذا حال الدين، وهذه طبيعة نشأته وماهيته، فكيف يتحول الدين إلىسياسة، أو بصيغة أخرى ما مشكلة السياسة مع حاجة الإنسان للتدّين؟
بناء على الدور السلبي الذي قد يؤدّيه الدين في حياة البشر، وتحويل الاستغلال الطبقي إلى مسألة إلهية، حيث يظهر فيها القهر وكأنه شيء طبيعي، وصف كارل ماركس الدين بأنه: "آهة المقموع، وقلب عالم لا قلب له...إنه الدين الذي يخدّر البشر"
[sup][12][/sup]، وفق هذا المنظور لا يُعدّ الدين سلبيا إلا بقدر إسهامه في تخدير الطبقة العاملة أو أن يوَظَّف كأداة في يد الطبقة المسيطرة؛ أي عندما يتحول الدين إلى أيديولوجيا في يد السلطة القهرية لأجل مزيد من القمع، أو يصبح وسيلة لدى الطبقة المقهورة لتبرير ظروفها. وعلى عكس ماركس الذي يرى في الدين منتجاً ثانوياً للعلاقات الاقتصادية غير المتكافئة، وهو الذي يُضفي عليها لمسته الشعرية، ويساهم في طمس معالمها، فإن ماكس فيبر يرى أنه يجب استقبال الممارسة الأيديولوجية الدينية بوصفها عنصراً من عناصر العلاقات الاجتماعية (والتغيير الاجتماعي)، ومن ثم نجد أن الدين يمكن أن يخلق أنظمة اقتصادية، والعكس صحيح
[sup][13][/sup]. وإن كان فيبر يقرّ بأن تلك النتائج الاقتصادية التي يكشف عنها الدين (يقصد المذهب البروتستانتي) ليس رغبة ذاتية لهذا الدين، وإنما هي إحدى تجليات الإصلاح الديني، وهي تجليات لم يكن هذا الإصلاح بالضرورة يهدف إلى خلقِها.
وفي التجربة الإسلامية، يحذّر مجموعة من الباحثين من خطورة أن يتحول الجانب الروحي في الدين إلى عقيدة سياسية، متخفّية وراء مجموعة من الشعارات، من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وسبب هذا التوجّس هو أن "كل ما هو فردي حين يتحول إلى اجتماعي، يصبح "سياسيا"، والديني نفسه حين يكفّ عن أن يكون "للإنسان في خاصة نفسه" ويصبح شأنا للجماعة، لا بد أن يصبح سياسيا، وكل فهم للديني يأخذ بمبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" يحول الديني، بالضرورة وبالماهية، إلى "سياسي" وتتولد له بعد ذلك قضاياه ومسائله"
[sup][14][/sup]. خاصة إذا ما استُغلّت هذه الشعارات من جانب من في يدهم السلطة ويتحكّمون في أجهزة الدولة، حيث يتحول الدين من مصدر هداية أو تلبية لحاجة الإنسان للتدين، إلى وسيلة إكراهية تهدف إلى تحقيق غايات سياسية زمنية؛ أي عندما يتحول الدين إلى أيديولوجيا.